في ظل الاهتمام الأمريكي المستمر بتطورات الأزمة السياسية في تونس، قامت “عزرا زيا” مساعدة وزير الخارجية الأمريكي المكلفة بشؤون الأمن المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان، بزيارة البلاد خلال الفترة من 23 إلى 27 مارس الجاري، وذلك ضمن جولة خارجية شملت باكستان (21 – 23 مارس الجاري)، ثم الإمارات (27 – 30 مارس 2022). وفي إطار زيارتها لتونس، أعلنت السفارة الأمريكية في تونس أن زيارة “عزرا” لتونس شملت إجراء اجتماعات مع عددٍ من المسؤولين الحكوميين وبعض النشطاء السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان وقادة نقابات العمال وممثلي المجتمع المدني التونسي؛ لمناقشة الإصلاحات السياسية والاقتصادية الشاملة، وحماية حقوق الإنسان والدور الأساسي الذي يقوم به المجتمع المدني في ترسيخ تجربة ديمقراطية ثابتة.
أهمية خاصة
اكتسبت زيارة “عزرا” إلى تونس في هذا التوقيت أهمية خاصة، نظراً لأنها تزامنت مع عدد من التطورات السياسية الهامة، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- انتهاء الخطوة الأولى للحوار الوطني، إذ جاءت زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لتونس بعد أيام قليلة من انتهاء أول بنود خريطة الطريق التي أعلنها الرئيس “قيس سعيد” متمثلة في الاستشارة الإلكترونية التي بدأت في منتصف شهر يناير الماضي وانتهت في 20 مارس الجاري، بمشاركة 500 ألف مواطن تونسي (بنسبة 5% تقريباً من إجمالي عدد السكان 12 مليون نسمة، و7% من عدد الناخبين المسجلين، 7 ملايين ناخب) للإدلاء بآرائهم تجاه عدد من القضايا السياسية والاقتصادية والدستورية والصحية والثقافية والتعليمية. ورغم التسهيلات التي وفرتها حكومة “بودن” للمواطنين لتشجيعهم على المشاركة فيها، إلا أن المشاركة في هذه الاستشارة جاءت منخفضة على عكس التوقعات الرئاسية والمؤيدين لها، وفي الوقت نفسه جاءت منصفة للمعارضين لها وعلى رأسهم حركة النهضة والحزب الدستوري الحر اللذان وصفا الاستشارة الإلكترونية بأنها تحايلٌ على إرادة الشعب التونسي لتمرير إصلاحات تخدم تغيير النظام السياسي وفقاً لرغبات رئيس الدولة.
2- دعوة الرئيس قيس لاستكمال الحوار الوطني، فبعد انتهاء الاستشارة الإلكترونية ألقى رئيس الدولة خطاباً في ذكرى عيد الاستقلال السادس والستين، أشار فيه إلى أنه سيتم إجراء حوار وطني عبر إشراك الجميع فيه؛ إلا أنه لم يوجه دعوة صريحة إلى الأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية للحوار بشأن التحديات الداخلية (السياسية، والاقتصادية، والأمنية)، كما أنه لم يتطرق إلى ما سيتضمنه هذا الحوار. ورغم ذلك، تظل إشارته إلى استكمال الحوار الوطني بعد انتهاء الخطوة الأولى منه (الاستشارة الإلكترونية) مؤشراً على إمكانية إشرافه على حوار وطني وفقاً لما يُطالب به الفاعلون السياسيون داخل البلاد.
3- تزايد حدة المعارضة السياسية الداخلية، فخلال الفترة الأخيرة تصاعدت ضغوط عدد من الأحزاب والنقابات المجتمعية وعلى رأسها الاتحاد التونسي العام للشغل الذي انتقد تجاهل الرئيس “سعيد” للمكونات الأساسية داخل المجتمع التونسي، وطالب رئيس الدولة بإجراء حوار وطني حقيقي يسفر عن نتائج مرضية لكافة الأطراف، وساندته في ذلك حركة النهضة التي طالما تعترض على إجراءات الرئيس “سعيد” منذ فرضها في شهر يوليو الماضي، وتماشت مع هذه الآراء دعوات العديد من منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية التونسية -ومن أبرزها “الرابطة التونسية لحقوق الإنسان”- للرئيس “سعيد” بالانفتاح على كافة القوى السياسية والمدنية التي لم تتورط في قضايا الفساد والإرهاب في فترة ما قبل 25 يوليو الماضي.
4- تجدد الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإنهاء الإجراءات الاستثنائية، وكذلك الاحتجاج على عدم قدرة الدولة على حل المشكلات الاقتصادية التي ازدادت سوءاً خلال شهر مارس الجاري كأحد تداعيات التضخم العالمي بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، وقد عبر عن هذا الوضع التصريحات الأخيرة للأمين العام لاتحاد الشغل “نور الدين الطبوبي” التي أشار فيها إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية، وأن الفقر أصاب كافة أفراد الشعب التونسي.
أهداف متعددة
وبالنظر إلى فحوى الزيارة التي قامت بها مساعدة وزير الخارجية الأمريكي إلى تونس، يمكن القول إن هناك عدداً من الأهداف التي تسعى واشنطن لتحقيقها من خلال هذه الزيارة، ومن أهمها:
1- تنفيذ خريطة الطريق “الرئاسية”: تهدف الزيارة بشكل رئيسي إلى متابعة تنفيذ الرئيس “قيس سعيد” لجملة الإصلاحات السياسية والدستورية والاقتصادية التي وعد بها الشعب التونسي في خريطة الطريق التي أعلنها قبل ثلاثة أشهر، والتي اتسمت بجداول زمنية محددة استجابة للمطالب الأمريكية والأوروبية في هذا الخصوص. ومما لا شك فيه أن الدعم الأمريكي لعملية التحول الديمقراطي في تونس ساهم بشكل كبير في مرحلة ما بعد ثورة 2011 في تحقيق ذلك، حيث قدمت واشنطن ما يقرب من 1.4 مليار دولار لدعم التحول الديمقراطي طوال السنوات العشر الأخيرة.
2- النظر في التحديات الاقتصادية الداخلية: جاءت زيارة “عزرا” -وفق ما هو معلن– للوقوف على آخر مستجدات الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في تونس التي من أهم ملامحها عجز مالي بلغ 11.5% بنهاية عام 2020، وانكماش للاقتصاد بنسبة 8.8%، وتحتاج إلى اقتراض نحو 7.2 مليارات دولار، بينها نحو 5 مليارات في شكل قروض خارجية، وهو ما دفع واشنطن للتحقق من الأخبار الخاصة باحتمالات انزلاق تونس نحو الإفلاس وعدم القدرة على سداد ديونها الخارجية، وذلك وفقاً لبعض المؤشرات الاقتصادية ذات الصلة، ومن أبرزها تخفيض وكالة “فيتش” تصنيف الديون التونسية إلى (ccc)، وذلك ارتباطاً بعدم قدرة الحكومة التونسية الحالية على سداد الديون الخارجية أو الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي للمساعدة في حل المشكلات الاقتصادية الداخلية، حيث لم تنجح مفاوضات حكومة “بودن” مع الصندوق في هذا الخصوص حتى الآن.
3- مناقشة ملف حقوق الإنسان: إذ تُولِي واشنطن اهتماماً كبيراً بتأثير تطبيق الإجراءات الاستثنائية المستمرة منذ شهر يوليو الماضي، على ملف حقوق الإنسان في تونس، خاصة وأن هناك تقارير صادرة عن بعض منظمات حقوق الإنسان التونسية ومنها الائتلاف المدني حول الحريات المدنية، والتي تُشير إلى أن الحكومات التونسية المتعاقبة لم تَفِ بالتزاماتها فيما يتعلق بمراجعة القوانين الخاصة باحترام حقوق الإنسان وتطبيق المواثيق والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، واتهام الدولة بمسؤوليتها عن تراجع حقوق الإنسان في البلاد بعد تطبيق الإجراءات الاستثنائية في يوليو الماضي، وهنا قد تقوم واشنطن بتوظيف ذلك للضغط على الرئيس “سعيد”؛ إلا أن الأخير أشار في أكثر من مناسبة إلى التزامه باحترام حقوق الإنسان والحريات داخل المجتمع التونسي، رافضاً أية تدخلات خارجية في هذا الشأن.
4- تعزيز التعاون الأمني بين واشنطن وتونس: تهتم الإدارة الأمريكية بتعزيز تعاونها الأمني مع تونس، وذلك رغم وجود بعض الدعوات الأمريكية لتجميد المساعدات الأمنية لتونس وربطها بتطبيق التجربة الديمقراطية، كما قدمت واشنطن لتونس مساعدات عسكرية لتونس في عام 2016 بلغت حوالي 20 مليون دولار لمكافحة الإرهاب. وبالتالي، قد تقوم واشنطن بتوظيف مثل هذه المساعدات للضغط بصورة أكبر على الرئيس “قيس سعيد” للالتزام بالتجربة الديمقراطية وتنفيذ الإجراءات المحددة زمنياً.
دلالات ثلاث
كشفت زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي “عزرا” لتونس في هذا التوقيت، عن عدد من الدلالات السياسية الهامة، ومن أبرزها الانخراط الأمريكي الملحوظ وبشكل مباشر في الأزمة السياسية التونسية، ومن المؤشرات الدالة على ذلك إدلاء وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” بتصريحات في 20 مارس الجاري، موجهة إلى تونس في ذكرى عيد الاستقلال، والتي أشار فيها إلى دعم واشنطن لتطلعات الشعب التونسي نحو تشكيل حكومة ديمقراطية تستطيع الاستجابة لمطالب واحتياجات الشعب التونسي في إطار من احترام الحقوق والحريات الأساسية للإنسان، كما ركزت تصريحاته على التأكيد على التعاون الثنائي المشترك بين واشنطن وتونس في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية.
هذا فضلاً عن تعدد الفاعلين داخل تونس، إذ تُشير زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لتونس إلى أن الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة “جو بايدن” ترغب في إيصال رسالة هامة إلى رئيس الدولة “قيس سعيد” بأنه ليس الطرف الوحيد في هذه الأزمة، وأن هناك أطرافاً وفاعلين آخرين يعبرون عن كافة مكونات الشعب التونسي يجب الحوار معهم للوقوف على أسباب الأزمة الحالية، وفي الوقت نفسه وجود دور لهم في حلها، وظهر ذلك في لقاء “عزرا” مع عدد من المسؤولين الحكوميين، وأيضاً مع عدد من النشطاء العاملين في مجال حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني، وهو ما شددت عليه كذلك تصريحات وزير الخارجية الأمريكي “بلينكن” الأخيرة التي دعا فيها صراحة منظمات المجتمع المدني داخل تونس للعب دور فاعل في إنهاء الأزمة السياسية الراهنة، وهو ما يشير إلى تدخل أمريكي مباشر عبر الاتصال بكافة الفاعلين المحليين داخل تونس.
يُضاف إلى ذلك دلالة ثالثة وهي استجابة واشنطن لدعوات التدخل من بعض الأحزاب السياسية المعارضة، ومنها حركة النهضة التي تواصل مساعيها لإقناع واشنطن بضرورة التدخل المباشر للضغط على الرئيس “قيس سعيد” لإنهاء الإجراءات الاستثنائية؛ إذ تدعي حركة النهضة أن هذه الإجراءات قد ترتب عليها تكريس حكم الفرد، والتعدي على الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، وإغفال الديمقراطية، وهي القيم التي تدافع عنها الإدارة الأمريكية الحالية وترفعها شعاراً رئيسياً في تحركاتها الخارجية وتدخلاتها في الشؤون الداخلية لغيرها من الدول، ولا سيما في المنطقة العربية. كما يمكن القول إن واشنطن قد استجابت بشكل أو بآخر للدعوة التي وقع عليها 55 شخصية أمريكية من بينهم سفراء سابقون لدى تونس ودبلوماسيون وأكاديميون في مطلع شهر مارس الجاري، طالبوا فيها الرئيس الأمريكي “بايدن” بالتدخل من أجل حماية الديمقراطية في تونس. ولعل ذلك يفسر إرسال مساعدة وزير الخارجية المكلفة بشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان على وجه التحديد، وعقدها لقاءات مع منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان في تونس.
قلق واشنطن
خلاصة القول، تعكس زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لتونس في هذا التوقيت، حالة القلق الأمريكي المتزايدة في ظل تصاعد الانتقادات الداخلية لاستمرار الحالة الاستثنائية وما لها من تداعيات على حقوق الأفراد داخل المجتمع التونسي، وأيضاً فيما يتعلق بتجربة الحكم الديمقراطي؛ إلا أنه من غير المرجح أن تسحب واشنطن دعمها المقدم لتونس في هذا التوقيت الذي يؤكد فيه الرئيس التونسي على الالتزام بتنفيذ الإصلاحات السياسية والدستورية، مع استمرار الاتصالات الأمريكية بمنظمات المجتمع المدني كوسيلة ضغط على الرئيس قيس سعيد، لحين الانتهاء من المرحلة الانتقالية الحالية، وإجراء انتخابات برلمانية في نهاية العام