أعلن وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس، في 19 مارس الجاري، عن تأييد المقترح المغربي بشأن الحكم الذاتي في الصحراء، حيث صرح أمام الصحفيين في برشلونة: “تعتبر إسبانيا أن مبادرة الحكم الذاتي المُقَدّمة في 2007 من جانب المغرب هي الأساس الأكثر جدية وواقعية وصدقية لحل هذا النزاع” بين الرباط وجبهة البوليساريو. وهو ما يطرح تساؤلات حول أسباب التحول في الموقف الإسباني وآفاق العلاقات المغربية-الإسبانية بعد التأييد الإسباني للمقترح المغربي.
دوافع التحول
حافظت مدريد على موقف حيادي تجاه قضية الصحراء، فيما شهدت العلاقات السياسية الإسبانية-المغربية حالة من الشد والجذب منذ صعود الاشتراكيين إلى رئاسة الحكومة الإسبانية، لعل أهمها تزوير جواز سفر قائد جبهة البوليساريو إبراهيم غالي لدخول مدريد للعلاج من إصابته بفيروس كورونا، مما دفع الرباط إلى تصعيد لهجتها إزاء مدريد بسبب دعمها المباشر والواضح لقيادات جبهة البوليساريو. بيد أن هذه العلاقات شهدت تحولاً هاماً مع إعلان الحكومة الإسبانية، في 19 مارس الجاري، للمرة الأولى دخول “مرحلة جديدة” في العلاقات مع الرباط، في خطوة رحبت بها الأخيرة ونددت بها جبهة البوليساريو، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء العوامل التالية:
1- السيطرة على تدفقات الهجرة غير النظامية ومكافحة الإرهاب، حيث تصاعدت خلال الفترة الأخيرة عمليات الهجرة إلى إسبانيا عبر المغرب، إلى حد توجيه الاتهامات للمغرب بالتراخي في اتخاذ إجراءات للحد من الهجرة، لذلك يشير الموقف الإسباني إلى رغبة إسبانية في التعاون مع المغرب للسيطرة على حركة الهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، بدلاً من الغياب المتعمد للسيطرة من جانب المغرب، وإعادة تفعيل التعاون الأمني بوسائل تكنولوجية متطورة.
2- تعزيز شبكة العلاقات الاقتصادية والتدفقات الاستثمارية، حيث تنظر مدريد إلى أن الصحراء تتحول إلى “منطقة اقتصادية مهمة”، ناهيك عن الاستثمارات الإسبانية الضخمة التي تم ضخها ولا سيما في إقليم وادي الذهب وملف الصيد البحري. كما أن المغرب يعد أول شريك تجاري إفريقي لإسبانيا وشريكها الاقتصادي الثالث خارج الاتحاد الأوروبي. ويستفيد الاقتصاد الإسباني بشدة من استثماراته بالمغرب، حيث تمثل هذه الشراكة 16 مليار يورو في التجارة، وتتعلق بـ17 ألف شركة إسبانية منها 700 مؤسسة على التراب المغربي. وبالإضافة إلى ذلك، زادت الصادرات الإسبانية إلى المغرب بين عامي 2020 و2021 بنسبة 29%.
3- سعي إسبانيا إلى موازنة الدور الألماني، وخاصة بعد تأييد برلين المقترح المغربي في الصحراء، الأمر الذي دفع إسبانيا لإعادة حساباتها، حيث شهدت العلاقات المغربية-الألمانية تحسناً كبيراً بعد الأزمة الدبلوماسية بين البلدين والتي بلغت حدها بعد استدعاء المغرب سفيره من برلين، بسبب موقفها من قضية الصحراء. وأصبحت ألمانيا ثالث دولة مؤثرة على الساحة الدولية تصنع علاقات دبلوماسية قوية مع المغرب في الآونة الأخيرة بعد الولايات المتحدة وإسرائيل، حيث أبدى المستشار الألماني الجديد، أولاف شولتس، زعيم الحزب الديمقراطي الاشتراكي، دعمه للمغرب في ملف الصحراء من أجل إنهاء الأزمة الدبلوماسية بين البلدين، وهو ما فرض ضغوطاً على حكومة بيدرو سانشيز للقيام أيضاً بإيماءة لصالح المغرب في نزاع الصحراء.
4- الضغط على الجزائر بعد غلق أنبوب الغاز المار عبر المغرب، في 31 أكتوبر الماضي، الأمر الذي ألحق الأذى بالاقتصاد الإسباني، ورفض الجزائر للطلب الأمريكي بعد زيارة نائبة وزير الخارجية الأمريكي ويندي شيرمان إلى الجزائر، لبحث إعادة تشغيل خط أنابيب الغاز الذي يمر إلى إسبانيا عبر المغرب، وهو الأمر الذي لم تقبله الجزائر. ناهيك عن استغلال النظام الجزائري الأزمة الروسية-الأوكرانية لممارسة الضغط وابتزاز إسبانيا بشكل خاص، فكانت النتيجة أن إسبانيا اختارت تعزيز علاقاتها مع المغرب. كما أن الجزائر اتجهت نحو رفع أسعار الغاز إلى إسبانيا بدءاً من العام الحالي وحتى عام 2024، وذلك في أعقاب إعلان مدريد تبني تصور المغرب لحل قضية الصحراء.
5- تفعيل مبادرة خط “الأورو-مغاربي”، حيث تسعى مدريد إلى إعادة تشغيل هذا الخط على أمل مساهمة هذه الخطوة في خفض اعتماد الأوروبيين على إمدادات الطاقة الروسية. وسوف يؤمن مشروع أنبوب الغاز الكبير الذي يربط نيجيريا بالمغرب جزءاً تعويضياً كبيراً عن موارد الطاقة الروسية. ناهيك عن التوجه الأوروبي نحو نقل مصادر الطاقة على مستوى الغاز من شرق أوروبا إلى غربها، وتحديداً من إسبانيا، بمعنى أن الميناء الرئيسي لتزويد أوروبا الغربية بالغاز المسال موجود في إسبانيا، وهذه المنشآت لا يمكن أن تتطور إلا عبر ربطها بطموحات المشروع المغربي النيجيري فيما يخص الغاز الطبيعي. كما يأتي الموقف الإسباني في وقت يعتزم فيه المغرب دخول أسواق الغاز الطبيعي المسال العالمية في أبريل المقبل باستخدام البنية التحتية القائمة.
آفاق العلاقات
ثمة سيناريوهان متوقعان لمسار العلاقات المغربية الإسبانية، وذلك على النحو التالي:
السيناريو الأول: التقارب المغربي-الإسباني وتطبيع العلاقات بين الجانبين، لا سيما وأن هناك رغبة إسبانية في تعزيز التعاون بمجال مكافحة الهجرة غير الشرعية والإرهاب. وقد اتخذت الحكومة الإسبانية خطوات للتقارب مع المغرب، أبرزها إقالة وزيرة الخارجية أرانشا غونزاليس لايا من الحكومة، في يوليو الماضي، لسماحها بدخول إبراهيم غالي، زعيم البوليساريو، إلى مدريد للعلاج بوثائق مزورة. وهناك سياسيون ذوو ثقل اشتراكي (الحزب الحاكم)، مثل رئيس الحكومة الأسبق خوسيه لويس رودريغيز ثاباتيرو، أو وزير الدفاع السابق خوسيه بونو، الذين أظهروا تأييداً لحل قضية الصحراء من خلال الحكم الذاتي تحت سيادة المغرب. كما أعاد المغرب سفيره لدى إسبانيا بعد أن أيدت الأخيرة المقترحات المغربية بشأن المستقبل السياسي للصحراء.
السيناريو الثاني: المحافظة على علاقات براجماتية مع الرباط، ولا سيما في ظل الاهتمام الإسباني بالضغط على الجزائر من خلال التقارب مع المغرب، كما أن إسبانيا لم تعترف بشكل واضح بمغربية الصحراء. وثمة معارضة من جانب العديد من الأحزاب السياسية والجمعيات والكنائس الإسبانية المساندة لجبهة البوليساريو. وتشير تقارير عدة إلى تصاعد الانتقادات داخل البرلمان ضد الحكومة، على غرار حزب “بوديموس” اليساري، و”الحزب الشعبي” المحافظ، حيث اتهما الحكومة بأنها لم تتشاور معهم قبل إعلانها القرار.
كما أن هناك ملفات وقضايا عالقة بين مدريد والرباط، ولا سيما المفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية الجنوبية للمغرب. ومن ثم فإن الخيار الذي اتخذته إسبانيا فيما يخص القضية الإسبانية هو “خيار وسط”، لأنها لا تريد أن تبقى في الموقف الكلاسيكي الذي كانت دائماً تعبر عنه من الناحية الدبلوماسية، على أن النزاع في الأمم المتحدة، وفي الوقت نفسه تتجنب الاعتراف الرسمي والقانوني بمغربية الصحراء، من خلال عدم موافقتها حتى الآن على ترسيم الحدود البحرية الجنوبية المشتركة.
نافذة فرصة
وجملة القول، يبدو أن السيناريو الثاني هو المرجح، وهو المحافظة على علاقات براجماتية بين مدريد والرباط، لا سيما وأن إسبانيا لم تعترف بشكل واضح بمغربية الصحراء، لكن ثمة فرصة سياسية أمام الجانبين برغم هذه التحديات، لتعزيز الشراكة الاقتصادية وإعادة التفاوض على النقاط الخلافية بينهما، وخاصة في ظل الدعم الأمريكي والأوروبي لدفع العلاقات بينهما، في سياق الحرب الروسية-الأوكرانية، والتقارب الروسي-الجزائري، في مقابل التقارب الأمريكي-المغربي.