يشهد الشهر الجاري أربعة اجتماعات رئيسية تتعلق بالأزمات الأربعة في الإقليم. ففي 22 مارس الجاري، بدأت فعاليات الجولة السابعة للجنة الدستورية السورية في جنيف، بالتزامن مع اجتماع لجنة تشاورية لوضع القاعدة الدستورية الليبية الخاصة بالانتخابات في تونس، بينما تستمر المشاورات السياسية في العراق لحل أزمة تشكيل السلطة بعد خمسة أشهر تقريباً على إجراء الانتخابات، فيما دعا مجلس التعاون الخليجي إلى اجتماع لحوار يمني – يمني لتسوية الأزمة اليمنية وإنهاء الحرب. وعلى الرغم من أن هذا الحراك يمثل مؤشراً على دفع مسارات التسوية الإقليمية لأزمات الشرق الأوسط الممتدة، إلا أن اثنتين من هذه الفعاليات تخلف عنها أطرافها. فالمليشيا الحوثية في اليمن أعلنت أنها لن تشارك في مؤتمر الرياض، كما لم يشارك مجلس النواب الليبي في اجتماع تونس التشاوري، وهو ما يطرح تساؤلاً حول مصير تلك الاجتماعات وانعكاسات غياب أطراف رئيسية عنها، رغم أن الجهات الراعية للحوارات والمشارات أعلنت أنها ستواصل العمل “بمن حضر”، حيث تُعوِّل على لحاق الأطراف في المستقبل بهذه المسارات.
مواقع متباينة
تراهن المليشيا الحوثية على أن غيابها عن مؤتمر الرياض (29 مارس – 7 أبريل 2022) يعني فشل المشاركين في تحقيق الهدف الرئيسي، وهو التوصل إلى تسوية للأزمة، واستمرار مسار الحرب، وهو ما أكدت عليه المليشيا عبر رسائل الهجمات التي شنتها على مواقع اقتصادية ومدنية في الرياض، وبالتالي تتعمد الإبقاء على المسار العسكري للحرب على الرغم من أنها لم تحقق تقدماً في الجبهة اليمنية، بقدر ما تتراجع فيها، كما تواجه تحديات الاستمرار في عملية التعبئة العسكرية والتجنيد، بل وباتت تواجه حالة احتقان في مناطق نفوذها نتيجة أدائها العام، وقد ضاعف من هذه الحالة الاحتقان الشعبي جراء رفض المليشيا الاستجابة لمجلس التعاون الخليجي الذي يمد لليمنيين طوق النجاة من جحيم الحرب التي أتمت سبع سنوات.
في حين يتبع مجلس النواب الليبي مقاربة تقوم على أن غيابه عن الاجتماع التشاوري في تونس يعني إفشال المبادرة التي تقدمت بها المستشارة الأممية ستيفاني وليامز، على اعتبار أن البرلمان لديه خريطة طريق حظيت بإجماع برلماني، وأن مبادرة الأمم المتحدة للتسوية التي أسست لمرحلة انتقالية خلال عام 2021 فشلت، ولم تُفضِ إلى إجراء الانتخابات.
وفي واقع الأمر، فإن إفشال مبادرة ستيفاني وليامز لوضع قاعدة دستورية تفضي إلى انتخابات سريعة في غضون أشهر قليلة بغياب مجلس النواب، لا يعني في الوقت ذاته أن مبادرة البرلمان قابلة للنجاح في المقابل، فوفقاً للتعديل الدستوري الثاني عشر الذي أقره البرلمان الليبي (10 فبراير 2022) فإن المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب شريكان في وضع القاعدة الدستورية، والنتيجة أن كلتا المبادرتين معرضتان للفشل.
مقاربات متعددة
تتبنى القوى المعنية بالمبادرات التي طرحت في الفترة الماضية مقاربات متعددة يمكن تناولها على النحو التالي:
1- وضع خريطة طريق جديدة: أكد مجلس التعاون الخليجي أنه سيعقد المؤتمر اليمني “بمن حضر”، كما أشار المتحدث باسم تحالف دعم الشرعية العميد الركن تركي المالكي إلى أن الرياض، رغم محاولات الحوثي التصعيد العسكري لإفشال المؤتمر، ستمارس ضبط النفس وستحتفظ بحق الرد، وهو ما يُفهم منه أن الرياض دخلت في هدنة من طرف واحد لإنجاح المؤتمر، على نحو يعني تحول أهداف المؤتمر من تسوية شاملة إلى وضع خريطة طريق مستقبلية لتشكيل إجماع عام وطني بتوحيد القوى السياسية الوطنية تحت مظلة واحدة حول إنهاء الأزمة، وتحميل الحوثيين المسئولية عن التخلف عن هذا الإجماع. وربما يراهن التحالف ومجلس التعاون الخلجي في الوقت ذاته على احتمال أن تقوم المليشيا بمراجعة موقفها تحت ضغط هذا الإجماع في المستقبل، واللحاق بمسار التسوية، وهي الفرضية التي ستتوقف على مخرجات الحوار المرتقب.
2- تبني سياسة المبادرات المتوازية: تدعم الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي المبادرة الأممية التي عرضتها ستيفاني وليامز، كما تجري الأخيرة مشاورات مع العديد من القوى الإقليمية للحصول على دعم لمبادرتها. وعليه، يمكن القول إن المبادرة البرلمانية تحظى بتأييد داخلي وإقليمي بشكل نسبي، على اعتبار أن هناك دولاً، ومن بينها مصر والسعودية، دعمت هذه الخطوة، مقابل المبادرة الأممية التي تحظى بتأييد دولي لا يعادله تأييد داخلي على المستوى نفسه. وعلى الأرجح، ستواجه تلك المبادرات تحديات أخرى بخلاف تباين مواقف مجلسي النواب والأعلى للدولة، وتكمن في أن البعثة الأممية قد تشهد تغييراً في شهر أبريل المقبل، أو حتى في حال التمديد لها بالطريقة نفسها باعتبار ستيفاني وليامز مستشارة أممية، فإن الأزمة سوف تبقى ممتدة لفترة طويلة، كما أن تحدي بقاء حكومة تصريف الأعمال-المنتهية ولايتها القانونية- في المشهد مقابل حكومة فتحي باشاغا- المكلفة من البرلمان- يزيد المشهد تعقيداً.
3- حسم ملف انتخاب الرئيس: يسعى التيار الصدري إلى إكمال نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية التي ستعقد في 26 مارس الجاري، من أجل تمرير مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني- الحليف له- في حين يبذل “الإطار التنسيقي”- الذي يضم القوى المنافسة له- جهوداً من أجل الحيلولة دون إكمال النصاب، عبر تغييب ثُلث النواب، في سياق ما يسمى بـ”الثلث المعطل”، على نحو سوف يساهم في تعقيد الأزمة السياسية، نتيجة الخلاف على تحديد الكتلة الأكبر في البرلمان وهوية الحكومة القادمة للعراق.
4- محاولة الوصول إلى توافق دستوري: يتمثل الهدف الأساسي في انعقاد الجولة السابعة للجنة الدستورية السورية في محاولة الوصول إلى توافق بين الأطراف الثلاثة المشاركة في الجولة، وهي الوفد الحكومي ووفد المعارضة في الخارج ووفد المجتمع المدني. إلا أن الخلافات العالقة بين تلك الأطراف لا تبدو ثانوية ولا يمكن تسويتها بسهولة، وهو ما عبرت عنه عضو وفد المجتمع المدني ميس كريدي بقولها: “لست متفائلة كثيراً بنتائج سريعة، لأن الحوار السوري السوري معقد، ولا تزال قضايا كثيرة غير متفق عليها، بما فيها الأرضية الوطنية للنقاش”.
فجوة المواقف
هكذا يبدو المشهد الإقليمي كاشفاً عن تعثر مسار التسويات. فرهان المليشيا الحوثية على السلاح سيُبقي المشهد اليمني متوتراً، بل المتوقع أنها ستستمر في التصعيد المسلح خارجياً في محاولة منها لإثناء التحالف عن التوصل لهدنة أو الانسحاب من الحرب من طرف واحد، حيث تهدف المليشيا في الأخير إلى الإبقاء على هذه المعادلة التي تتوافق مع دورها الوظيفي كوكيل إقليمي لإيران. كذلك ستعمق عملية تعدد المبادرات في ملف الأزمة الليبية من التنافسية والانقسام بين الكيانات المعنية بالتسوية، مع تمسك كل طرف بموقفه، ومن ثم لا يزال من غير المتوقع حدوث انفراجة كبرى في هذه الملفات. ويبقى سيناريو استدامة تلك الأزمات هو السيناريو القائم، حتى وإن تم تسجيل بعض الأهداف الجزئية في المسار اليمني على سبيل المثال، فلا شك أن بناء شبه إجماع يمني على خريطة طريق جديدة للخروج من مأزق الحرب هو نقطة لصالح مؤتمر الرياض، لكنها تظل خطوة أولى يتعين البناء عليها عبر مشاركة الطرف الغائب في المستقبل. كما أن الحوار السياسي وطاولات التفاوض في الأزمة الليبية مهما كان متعثراً أفضل من الارتداد إلى الخلف والعودة إلى الصراع المسلح.
على الجانب الآخر، لن يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لمسارات التسوية التي شاركت فيها معظم القوى السياسية، كما هو الحال في الأزمتين العراقية والسورية، بالنظر إلى استمرار اتساع فجوة المواقف بين تلك القوى، وتمسك كل منها بمشروعه السياسي، وهو قاسم مشترك آخر في كافة الأزمات الإقليمية.
فرص ضائعة
إجمالاً، يمكن القول إنه على الرغم من التفاؤل بالحراك السياسي في الأزمات الإقليمية كمؤشر على تراجع أو توقف بعض النزاعات المسلحة، أو عدم الانزلاق إليها مجدداً؛ إلا أن وجود أطراف معرقلة لهذه التسويات يحدّ من مستوى هذا التفاؤل، ويُهدر الفرص المتاحة للخروج من دوامة الأزمات وتداعياتها في ظل ما وصلت إليه دولها من تدهور يتصاعد بمرور الوقت. ولا يعتقد أن هذا السياق قابل للتغير، إلا في حال تقديم الأطراف تنازلات وإبداء مرونة وإظهار إرادة سياسية جادة للحل.