عن الانتقال إلى النظام الدولى الجديد – الحائط العربي
عن الانتقال إلى النظام الدولى الجديد

عن الانتقال إلى النظام الدولى الجديد



تُشير العديد من المقالات فى الصحف والمواقع الإلكترونية والبرامج التليفزيونية إلى أن اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية سوف يؤدى إلى قيام نظام دولى جديد.

وحملت تلك المقالات والأحاديث عناوين مثل إعادة تشكيل نظام عالمى جديد، ونهاية النظام العالمى واستمرارية التاريخ، ونهاية النظام العالمى الجديد الذى ظهر بعد 1991، والحرب الثانية وضعت النظام العالمى وحرب أوكرانيا أنهته، وتدخل روسيا فى أوكرانيا يعيد تشكيل النظام العالمى برمته.

وأعتقد أنه من الضرورى مُراجعة هذه الأفكار عن مولد نظام دولى جديد وأن نتوخى الحرص والحذر بشأنها، ونُقطة البداية هى الاتفاق حول مفهوم النظام الدولى حتى نستطيع تحديد ما هى جوانب التغيير التى تلحق به، وعما إذا كانت تلك التغيرات تحدثُ فى داخل النظام فى إطار تكيفه مع ظروف أو توازنات دولية جديدة، أم أنها تغيرات لأسس النظام نفسه وقواعده التى يقوم عليها مما يؤدى إلى انتهائه وقيام نظام جديد.

يتطلب تعريف النظام الدولى التمييز بين ثلاثة مستويات له، وهى الإطار التنظيمى والقانونى بمعنى المؤسسات التى يتكون منها النظام، وقيمى بمعنى القيم الواردة فى مواثيق مؤسساته، والتفاعلات وتوازنات القوى بين دوله.

فى ضوء هذا التعريف، فإن تطور النظام الدولى ارتبط فى القرن العشرين بنشوب حرب كبرى انتصر فيها بعض الدول على الأخرى، وقام المنتصرون بوضع أسس وقواعد النظام الدولى وفقا لمصالحهم. ففى أعقاب الحرب العالمية الأولى، اجتمعت الدول المُنتصرة فى مؤتمر باريس 1919 واتفقوا على إنشاء عصبة الأمم، والتى استمرت حتى قيام موسولينى باحتلال إثيوبيا عام 1935، وهتلر باحتلال النمسا 1938. فى أعقاب الحرب العالمية الثانية واستسلام ألمانيا وإيطاليا واليابان، دعت الدول المُنتصرة إلى مؤتمر سان فرانسيسكو فى أبريل 1945 الذى حضرته 50 دولة، واتفقوا على أُسس النظام الدولى الجديد، فنشأت الأمم المتحدة ووقعوا ميثاقها، وما زالت تمثل الإطار التنظيمى والقانونى للنظام الدولى الراهن. وأذكُر أنه مثل مِصر فى هذا المؤتمر القاضى العظيم عبدالحميد بدوى الذى كان وزيرًا لخارجيتها وقتذاك، وأصبح قاضيًا بمحكمة العدل الدولية فيما بعد، وكان له مُساهمات فى اقتراح وصياغة مواد الميثاق الخاصة بالمُنظمات الإقليمية وعلاقتها بالأمم المُتحدة.

لذلك كان من الطبيعى أن يُعبر ميثاق المنظمة الجديدة عن نتائج الحرب فأعطت الدول المتحالفة المنتصرة لنفسها حق النقض فى مجلس الأمن. مما يعنى أن هذا النظام الدولى قام على مفهوم تعددى قوامه التعاون أو التنسيق بين الدول الخمس الكبرى فى إدارة شئون العالم.

فى الواقع، لم يستمر هذا التحالف كثيرًا وسرعان ما نشبت الحرب الباردة بين الكتلتين الغربية والشرقية، وامتدت إلى كل أنحاء العالم. وعندما لم يتمكن مجلس الأمن من اتخاذ قرار فى موضوع ما بسبب حق النقض الذى استخدمته إحدى الدول الخمس الكُبرى، تكيَّفت المنظمة الدولية وصدر قرار الاتحاد من أجل السلام الذى يسمح للجمعية العامة بالنظر فى الأمور التى عجز مجلس الأمن عن اتخاذ قرارات بشأنها فتقوم بمُناقشتها وإصدار توصيات غير مُلزمة. وهناك العديد من الشواهد والأمثلة التى توضح قدرة مؤسسات وأجهزة نظام الأمم المتحدة على التكيف مع التغيرات التى طرأت على العلاقات الدولية من حيث أطرافها (عدد الدول والفاعلين من غير الدول) وقضاياها (مكافحة الإرهاب والبيئة والتغيرات المناخية).

ورغم كل الصراعات والتناقضات التى اعترت النظام الدولى على مدى أكثر من خمسة وسبعين عامًا، فإنه لم تفكر أى دولة فى الخروج من الأمم المتحدة، أو سعت لإقامة بديل لها أو حدث تغيير فى الميثاق المُنشئ للمنظمة الدولية. وأذكر استثناء من ذلك أن الرئيس الإندونيسى أحمد سوكارنو أعلن خروج بلاده من الأمم المتحدة عام 1965 احتجاجًا على شغل ماليزيا لمقعد فى مجلس الأمن. ولكن سُرعان ما عادت إليها فى العام التالى بعد انقلاب أطاح به. ودعا الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى الدول الغربية إلى طرد روسيا من مجلس الأمن وحرمانها من حق النقض، وهو الاقتراح الذى لم توافق عليه الدول الغربية الكُبرى.

ولكن التغير المهم الذى حدث هو أن الولايات المتحدة استغلت مرحلة انفرادها بقيادة النظام الدولى بعد 1991 وفرضت ممارسات وقيما مخالفة لميثاق الأمم المُتحدة، مثل الحق فى التدخُل ومسئولية حماية الأقليات. والحقيقة، أن كل الآراء التى تروج لحق التدخل لا أساس لها فى الميثاق الذى تنص المادة الثانية منه على مبدأ المساواة بين الدول وعدم التدخل فى شئونها الداخلية.

ويترتب على ذلك، أن ما حدث بعد 1991، لم يكن نظاما دوليا جديدا وإنما انحراف عن النظام الدولى القائم، فرضه تغير التوازن الدولى لمصلحة الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى ونفذته واشنطن بفضل تفوقها العسكرى على الآخرين. تغير هذا الوضع فى الحقبة الثانية من القرن الحادى والعشرين مع ازدياد الوزن العسكرى لروسيا والاقتصادى للصين مما أوجد توازنا قويا جديدا يستحيل معه انفراد قُطب واحد بالهيمنة، ويسمحُ بتعدد الأقطاب فى النظام الدولى. ولذلك، أعتقد أن مايحدثُ فى العالم منذ سنوات هو استعادة النمط التعددى لتوازن القوى. ولن يُولد نظام دولى جديد إلا إذا نشبت حرب بين الدول الكبرى تنتهى بانتصار بعضها وهزيمة الأُخرى يترتب عليه قيام المنتصرين بإعادة صياغة مؤسسات النظام وقيمه حسب توازن القوى الجديد.

نقلا عن الأهرام