نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 16 مارس 2022، جلسة استماع بعنوان “محددات المواقف العربية من الأزمة الروسية الأوكرانية”. واستضاف المركز السفير الدكتور محمد بدر الدين زايد مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ أحمد عليبة، والدكتور حمدي بشير، والأستاذ كرم سعيد، والأستاذ محمد الفقي، والأستاذ هيثم عمران، والأستاذة ميرفت زكريا.
اعتبارات لازمة
حدد السفير “زايد” عدداً من الاعتبارات الأساسية عند النظر إلى الأزمة الروسية الأوكرانية، والتي يمكن أن تنعكس على المنطقة العربية، كالتالي:
1- الخلل المزمن في النظام الدولي: تمثل الأزمة الروسية الأوكرانية أحد تجليات الخلل الخاص بنظام الأمم المتحدة وعجزه عن إيجاد حلول لتسوية الأزمات الدولية، بفعل السيطرة والهيمنة الغربية المستمرة على هذه المنظمة الأممية، وتحديداً الهيمنة من قبل الولايات المتحدة، وهذا الخلل يكمن في أن ما تريده الولايات المتحدة تتولاه الأمم المتحدة، وما لا تريده لا تتولاه الأمم المتحدة.
2- بروز المعايير المزدوجة: تُعد الأزمة الروسية الأوكرانية جانباً من جوانب ازدواجية المعايير الغربية المزدوجة، والتي تظهر في عدد من الأبعاد.
3- تصدّر مبدأ “القوة تغلب العدالة”: يمكن النظر إلى الأزمة القائمة باعتبار أن الفوضى هي الأساس في النظام الدولي حالياً، وباتت القوة هي الحاكمة في النظام الدولي، وبالتالي عدنا إلى نظرية الفوضى في العلاقات الدولية قبل الحرب العالمية الثانية، وهنا إذا هُزمت روسيا فستكون هزيمة اقتصادية، والاقتصاد أحد عناصر القوة.
4- تفاقم الصراع القيمي والمفاهيمي: تشكل الأزمة الروسية الأوكرانية صراعاً بين قيمتين أساسيتين، الأولى: حقّ الدولة الروسية في الحفاظ على أمنها والوفاء بتلك الالتزامات، والثانية: حق أوكرانيا في أن تكون لها خياراتها. وبالتالي نحن أمام أزمة تتناقض فيها القيم والمفاهيم.
5- نظرية عنصرية في النظام الدولي: أبرزت الأزمة الأخيرة أبعاد العنصرية التي يقوم عليها النظام الدولي، من خلال النظرة الأنجلو سكسونية، عند النظر إلى الروس، وهو يشير إلى أن ثمة طبقية في النظام الدولي، بخلاف مشاهد العنصرية عند الحدود الأوكرانية مع دول الجوار.
اتجاهات المواقف
وتطرق “زايد” إلى أن الاعتبارات السابقة ربما تركت انطباعات على قادة دول المنطقة العربية، مثلما أثرت في شعوب المنطقة، والتي تظهر من خلال بعض المواقف سواء على المستوى الشعبي أو الإعلامي أو الرسمي، كالتالي:
1- غضب شعبي من المعايير الأمريكية المزدوجة: من خلال المتابعات خلال الفترة الماضية منذ بدء الأزمة الروسية الأوكرانية، على الأقل على مستوى مصر، هناك انحياز شديد على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي لروسيا، وبروز حالة غضب شديد من المعايير الأمريكية المزدوجة، ولكن هذا يتوقف على إجراء استطلاعات للرأي، لتحديد هذه الاتجاهات.
2- نزاع بين تيارين في الإعلام العربي: يبرز على المستوى الإعلامي تياران، الأول: وهو الغالب، من خلال إبداء درجة كبيرة من التفهم للموقف الروسي، وهذا واضح مثلاً في الصحف المصرية. والثاني: حالات قليلة ومعدودة تبدي انحيازاً إلى الليبرالية في مواجهة السلطوية، وتحديداً عند بعض الكتاب اللبنانيين في عدد من الصحف والفضائيات العربية، الرافضين للمشروع الإيراني في المنطقة. ومع ذلك يشترك التياران في تحميل الغرب، وبالأخص أمريكا، مسؤولية ما يحدث في المنطقة، على اعتبار أن الانسحاب الأمريكي من المنطقة هو المسؤول بدرجة كبيرة عما يحدث في العالم، من ناحية خذلان أمريكا حلفاءها وأصدقاءها في المنطقة.
3- عدم اتخاذ مواقف رسمية قوية ضد روسيا: عند النظر إلى المواقف الرسمية، فإنها لا تعكس مواقف قوية تجاه رفض التدخل الروسي في أوكرانيا، فالإمارات امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن لصالح مشروع مناهض لروسيا، وكان هذا مشهداً لافتاً،ولكنها انتقلت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لرفض التدخل كما هو الحال مع مصر، وبالتأكيد فالموقف السوري مفهوم. أما الممتنعون عن رفض التدخل الروسي فكان على رأسهم الجزائر والسودان، لاعتبارات تحكم هذه الموقف. المهم أن هذا الموقف العربي ليس نتاج ضغوط أمريكية، ولكن لكل دول المحددات الحاكمة لمواقفها، خاصة أن الدول العربية لم تجد الصين تبدي انحيازاً واضحاً للموقف الروسي، وبالتالي فالدول العربية ربما أخذت هذا بعين الاعتبار.
تأثيرات محتملة
حدد “زايد” بعض التأثيرات المحتملة على المنطقة العربية جراء الأزمة الروسية الأوكرانية، وما يتصل بذلك من تحركات الغرب بقيادة أمريكا، كالتالي:
1- هيمنة الغرب على النظام الدولي: إذا انتهت الأزمة الأوكرانية بهزيمة روسيا عبر العقوبات، التي تنوعت بين الاقتصادية والثقافية والرياضية، فإن هذا يفتح الباب أمام هيمنة الغرب على النظام الدولي، وهو ما سيؤدي إلى التلاعب والقضاء على أي طرف يرفض التوجهات الغربية، خاصة وأن المفاهيم الأساسية في النظام الدولي سقطت تحت تأثير هذه الهيمنة الغربية، وهو عودة للوراء بصورة أسوأ مما كنا نعرفه بين الحرب العالمية الأولى والثانية.
2- ضغوط غربية على الدول النفطية: يمارس الغرب ضغوطاً على الدول المصدرة للنفط في المنطقة العربية لتعويض النفط والغاز الروسي بعد فرض العقوبات، ولكن ما يُقال هو أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وولي عهد أبوظبي سمو الشيخ محمد بن زايد رفضا استقبال اتصال هاتفي من بايدن، ولكن لا أظن أن السعودية والإمارات ستقدمان على تعديل الإنتاج في هذه المرحلة، خاصة وأن هذه الخطوة ستساعد الغرب على القضاء على روسيا والتخلص منها، وأرى أنه من الأفضل ألا ينتصر الغرب في هذه الحالة، فهذا الانتصار ستكون له تبعات شديدة على الإقليم والمشهد ككل، خاصة وأن الخسائر ستكون كبيرة على الدول النفطية إذا ما أنفقوا استثمارات في زيادة الإنتاج ثم في مرحلة لاحقة التخفيض.
3– عدم حسم الصراعات في ساحات الاشتعال العربية: لا يتوقع بفعل الأزمة الروسية الأوكرانية حسم الصراعات الحالية في دول المنطقة العربية التي تشهد توترات، خاصة وأن هذه الصراعات كانت جزءاً من إعادة ترتيب الأوضاع الدولية، وكان الوضع في الإقليم هو التحضير للمشهد الأوكراني، وهي الحالة الأكثر بروزاً بالتأكيد، من أجل صياغة أوضاع دولية جديدة، كانت مقدماتها في الشرق الأوسط. وهنا يمكن النظر إلى محاولات استدعاء كلا الطرفين في الأزمة الأوكرانية، المليشيات والمرتزقة للساحة هناك، وهي المعركة نفسها التي كانت قائمة في المنطقة منذ سنوات.
4– قلق من عودة التنظيمات الإسلاموية: في حالة انتصار الغرب في الأزمة الأوكرانية، فإنه يجب على صانع القرار العربي أن يقلق من هذا الانتصار، إذ يمكن أن يؤدي إلى توسيع جبهات المليشيات الإسلاموية المسلحة، واحتمالية ظهور تلك التنظيمات بأسماء جديدة تماماً بخلاف “داعش” و”القاعدة”، وأيضاً يُنذر باحتمالية محاولات الغرب إدماج الإخوان في المعادلة بالمنطقة مرة أخرى، وهذا كله من شأنه تغيير موازين القوى والاتجاهات خلال الفترة المقبلة.
5- سرعة حسم الملف الإيراني دون ضمانات: صفقة الملف النووي الإيراني كانت على وشك الانتهاء، ولكن توقفت بسبب الشروط الروسية الجديدة، والغرب يحاول إنهاء هذا الملف سريعاً، ولكن في المقابل فإن هذا يزيد من شعور الغضب لدى السعودية والإمارات، خاصة مع عدم تقديم ضمانات حقيقية وواضحة حيال تدخلات إيران في المنطقة، وهناك حالة شعور غضب عميق لدى السعوديين بفعل الإحباط من الموقف الأمريكي، هذا على المستوى الشعبي وبدأ يظهر على المستوى الرسمي، ولكن واشنطن ولندن ترغبان في تأييد دول الخليج لأبعد حد في مساعيها للحرب الاقتصادية على روسيا، ولكن هذه المفارقة لن تغيب عن ذهن صانع القرار في السعودية والإمارات.
6- الديمقراطية في مواجهة السلطوية: سيعود خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة العربية بشكل شرس حال انتصار الغرب على روسيا، دون احترام التطور الطبيعي لدول المنطقة، في ظل النهج الاستعلائي والتدخلي من الغرب، فعلى الأقل هناك قدر من التوازن في الأوضاع الدولية في وجود روسيا، كما أنه ستكون هناك ضغوط من الغرب في ملفات أخرى على دول المنطقة العربية.
خيارات صعبة
وأخيراً، فإن تبعات وتأثيرات الأزمة الروسية الأوكرانية على المنطقة العربية تتحدد وفقاً لطول فترة الأزمة بشكل يجعل الوضع في العالم يزداد خطورة، ولكن السيناريو الأسوأ بالنسبة للمنطقة العربية سيكون حال انتصار الغرب، بما يترتب عليه من خيارات صعبة للغاية وليست ملائمة قد تُفرض على دول المنطقة، خاصة في ظل عدم إقدام الصين على التحرك لانتزاع فتيل الأزمة، فإذا سُحقت روسيا فلن تتمكن الصين من مواجهة الولايات المتحدة بمفردها، في مقابل أنّ انتصار روسيا في الأزمة يعطي فرصة نحو مزيد من الديمقراطية في قمة النظام الدولي، على اعتبار التحضير لنظام دولي جديد.