اخترق ڤيروس كورونا بيتنا وأصاب أجسادنا الضعيفة فى مقتل وعزلنا عن بعضنا ونحن تحت سقف واحد وأقعدنا عن الحركة وغيَّر نمط وأسلوب حياتنا طوال فترة الإصابة وأكيد بعدها، الڤيروس غيَّر شكل العالم، وتفاعلاته وأدواته ووسائله بل امتد إلى آماله وتوقعاته.
فى فترة الانتظار البطيء لما سيئول إليه حالى، نظرت إلى وضع الوطن العربى ومكانة الأمة العربية، وكيف ننتقل إلى شىء آخر، هل لا يزال هناك وطن عربي. وهل الأمة العربيةلا تزال على قيد الحياة؟ ما الذى حدث؟ لقد أصاب العرب ڤيروس منذ أكثر من عقد من الزمان، اخترق الجسد العربى، ومزقه تمزيقًا، وطال ليس فقط أطرافه، ولكن أيضًا أحشاءه إصابات قاتلة أدت إلى الوهن والهزال؛ فأكثر من ثلثى الدول العربية إما فاشلة أو على أعتاب الفشل، دول سقطت ودول تقاوم السقوط إلى الهاوية، نسبة أمية تناهز 30%، تجارة بينية هامشية لا تتعدى 15%، قيود مشددة على الحركة البشرية لا تطبق على رعايا غير عرب، حروب دامية أطرافها عرب، تغذيها واردات سلاح تفوق أى منطقة أخرى، تهافت خارجى على رسم المستقبل العربى دون العرب، تنازع داخلى على من يتحكم فى الموارد وليس على من يقرر المستقبل، تعاظم الفاقد المادى والبشرى بصورة لم يسبق لها مثيل.
ويبدو لى كمراقب ومعايش لديناميات السياسة العربية أن المقاومة التى اتسم بها النظام العربى نتيجة اللقاح الذى حصل عليه فى أثناء وعقب حرب أكتوبر 1973 كان يحتاج إلى جرعات تنشيطية لم تتوافر بعد، ولذلك تمكن الڤيروس من الجسد العربى كله وأصابه بالوهن، ولم يتوقف عند هذا الحد، ولكنه استشرى فى بقية أعضائه الغنى منهم والفقير، القوى منهم والضعيف، ونَجَم عن الإصابة القاتلة به مجموعة من التداعيات التى كادت تودى بالنظام الإقليمى برمته؛ فمن ناحية، اتسمت السياسات القطرية بسوء الإدراك أو ما يطلق عليه فى العلاقات الدولية Misperception؛ فلم يعد هناك تمييز بين من هو العدو، ومن هو الصديق، ونتج ذلك عن سوء تقدير أخطر ينطوى على أنه لا رابطة بين المصلحة الوطنية للدولة العربية والمصلحة القومية للأمة العربية، ونحن نثمن رؤية كل دولة لمصالحها الوطنية وسعيها الحثيث من أجل بلوغها، على الرغم من أن النظام العربى كان قد بُنى على التوافق بين المصلحتين، ونظرًا لهذا الانفصال بين ما هو وطنى وما هو قومى، صار أعداء الأمس أقرب أصدقاء اليوم دون أن تتغير استراتيچيتهم أو غاياتهم نحو العرب كدول أو إقليم. هذا التغير أدى إلى ارتباك عقلى لدى المواطن العربى، فالبعض قبل ذلك على مضض والبعض الآخر رفضه والبعض الثالث تحمس له بصورة تكاد تكون مرضية.
ومن ناحية أخرى، انتشر ما نطلق عليه فى نظرية الأمن القومى سوء التقدير Miscalculation، وهو قصور فى تقدير الوزن النسبى لقدرات الدول، والتى تنعكس على قوتها الوطنية، ويرتبط ذلك بالدور المتصور أو الممكن للدولة، وما يمكن أن تحققه فعلاً فى إطار التوازنات الإقليمية والسياسات الدولية.
ومن جانب ثالث؛ فإن ما سبق أدى بالضرورة إلى خلق إشكالية حول هوية النظام الإقليمى، وكما نعلم؛ فإنه لا يمكن وجود واستمرار نظام System دون هوية تميزه عن غيره وتخلق له ولاءً وانتماءً شعبيًا ونخبويًا، والواقع أنه لم يبقَ من الهوية العربية للنظام الإقليمى سوى جامعة الدول العربية التى ينبغى الحفاظ عليها وتحويلها من مجرد بناء على النيل إلى عملية سياسية دينامية فى كل الأرجاء العربية؛ فهل نحن بصدد نظام غير عربى مثلاً نظام شرق أوسطى، وإلا؛ فكيف يمكن ضم كل من تركيا وإيران وإسرائيل إلى التفاعلات العربية الراهنة، وهى كما هو معلوم دول جوار غير عربية لها مصالح كبرى فى الأقطار العربية؟ وأين المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة من كل ذلك؟ هل تمكنت من التوصل إلى مادة علمية واحدة على المستوى العربي؟ هل استطاعت إنشاء جامعة عربية عصرية تتبنى العلماء العرب الجدد بدلاً من هجرتهم إلى الخارج؟ هل تعمل بالفعل للدفاع عن الهوية العربية التى هى على وشك الاختفاء؟
إن الڤيروس الذى تمكن من الجسد العربى ويكاد يودى به ليس هو المسئول وحده عما آلت إليه أوضاع الأمة العربية؛ فالعرب مسئولون عن حاضرهم ومستقبلهم، وكل حركة سياسية تنجم عن سوء الإدراك أو سوء التقدير أو طمس الهوية ستؤثر سلبيا على الأجيال الجديدة فى كل قطر عربى وعلى المستوى القومى، وإذا كان الإنسان يحتاج إلى جرعات منشطة من اللقاح لكسر جبروت الڤيروس؛ فإن النظام أيضًا فى أشد الحاجة إلى مثل تلك الجرعات المنشطة، وربما يكون أولى تلك الجرعات المنتظرة مؤتمر القمة العربى القادم، والذى تستضيفه الجزائر دولة المقاومة والتحرر؛ فهل من الممكن أن تُعقد قمة عربية كاملة العدد من ملوك وأمراء ورؤساء الدول العربية، وهل ممكن أن يوضع جدول أعمال يناقشه القادة العرب بأريحية وصراحة وشفافية، وهل يتضمن ذلك الجدول الحروب العربية/ العربية والسلام العربي/ العربى والتنمية العربية، والتعاون العربى، وهل يتطرق الجدول إلى المستقبل العربى أيًّا كان؛ فإذا كانت هناك رغبة فى الانتقال من النظام العربى إلى النظام الشرق أوسطي؛ فهل يمكن أن يناقشوا مكاننا ومكانتنا؟ وهل يمكن أن يفكر قادتنا فى إعادة إحياء معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى بين الدول العربية، وكانت مصر قد اقترحت منذ أكثر من خمس سنوات إحياءها؟ وهل يمكن أن يتم تطور العلاقات التجارية المتنامية بين مجموعات من الدول العربية، والتى تتضمن المناطق الحرة لكى نصير على المستوى القومى كمقدمة لتحرير التجارة البينية؟ هل آن الأوان لقادتنا العرب أن يُطمئنوا أجيالنا الجديدة على مستقبلهم فى عالم غامض وإقليم أكثر غموضًا. إننى آمل أن يتمكن قادتنا من تحجيم الآثار المدمرة لهذا الڤيروس الشرير.
نقلا عن الأهرام