كاساندرا كما وردت قصتها فى إلياذة هوميروس هى أجمل بنات بريام ملك طروادة وزوجته هكيوبا، وهى شقيقة باريس الذى أغوى هيلين زوجة مينيلاوس ملك إسبرطة وهربا معا فقامت بسببها حرب طروادة التى استمرت لمدة عشر سنوات، وهى أيضا شقيقة هكتور بطل أبطال طروادة وأشجع مقاتليها وقد قتله أخيل انتقاما لمقتل حبيبه بتروكلوس ثم سحل جثته وراء عجلته الحربية تحت أسوار طروادة. كانت كاساندرا على درجة عالية من الجمال فافتتن بهواها أبوللو، واحد من آلهة الأوليمب فى الميثولوجيا اليونانية، فلما تمنعت عليه راودها عن نفسها مقابل منحها القدرة على التنبؤ بالمستقبل فقبلت منحته لكنها استمرت فى التمنع عليه فعاقبها بأن سلط عليها لعنة ألا يصدق أحد نبوءتها ويكذبوها.
أدركت كاساندرا خدعة حصان طروادة وصرخت وولولت لأهلها تحذرهم بأنه يحمل الدمار والخراب، إلا أنهم كذبوها ولم يصدقوها وسحبوا الحصان عبر البوابات التى فتحوها لعبوره داخل الأسور، وأثناء احتفالهم بخديعة النصر هبط المقاتلون الأشداء الذين اختفوا فى باطنه وقتلوا الحراس وفتحوا الأبواب للأعداء فخربوا طروادة وقتلوا أهلها.
انتقلت روح كاساندرا عبر القرون لتستقر فى المثقفين والمفكرين والعلماء فى العالم العربى الذين صاروا مثلها قادرين على استقراء المستقبل، ليس بسبب منحة أبوللو، ولكن بسبب ثقافتهم وفكرهم وعلمهم وباتوا يحذرون أهلهم من الأهوال الناجمة عن التخلف والجهل ومثل كاساندرا تقابل نبوءاتهم بالتكذيب والسخرية. حذروا من خطورة الحاكم الأوحد المستبد الذى لا يقبل المعارضة أو النصيحة أو الرأى الآخر فكذبوهم، فدخل صدام حسين فى جوف حصان طروادة ونكل بشعب العراق وقصفه بالأسلحة الكيماوية وغزا الكويت ورفض نصح الزعماء العرب بعد أن ألب الدول العربية على بعضها فتدخلت القوى الكبرى ودمرت العراق ثمنا لنزقه وغيه.
حصان آخر اقتحم أسوار ليبيا وبداخله معمر القذافى فنكل بشعبها وحاك المؤامرات ضد الجميع من اختفاء الإمام موسى الصدر أثناء زيارته لليبيا إلى وضع القنابل فى مصر إلى تفجير الملاهى الليلية فى ألمانيا وأخيرا جريمة تفجير طائرة لوكيربى وأخيرا ثار الشعب الليبى وتخلص منه وانتهزت القوى الدولية الفرصة للتدخل وتدمير ليبيا التى لا تزال تعانى من الانقسامات والفوضى.
صرخت كاساندرا العرب محذرة من الطائفية والعصبية الدينية والإثنية مؤكدة أن أساس الدولة هو المواطنة التى يتساوى فيها المسيحى مع المسلم السنى مع الشيعى الكردى مع الأمازيغى، الشقر مع السمر، فلم يستمع إليها أحد ودخلت خيول طروادة إلى السودان فدبت الحرب بين الشمال العربى والجنوب الإفريقى لمدة خمسين سنة وأدت إلى انفصال الجنوب، ودخلت إلى العراق فأقامت الميليشيات الحواجز على الطرق تسأل العابرين عن أسمائهم ويقتل فى حاجز من اسمه عمر ويقتل فى آخر من اسمه حيدر. وفى لبنان خرج من بطن الحصان دعاة الطائفية هذا يهتف باسم الكتائب وهذا يهتف باسم حزب الله وآخر يهتف للموارنة وغيره يهتف للسنة ولا أحد منهم يهتف باسم لبنان. سقط كمال جنبلاط ورشيد كرامى وبشير الجمل ورفيق الحرير ودخلت لبنان حربين أهليتين سالت فيها الدماء أنهارا وأخيرا انفجرت بيروت ومازالت كاساندرا تصرخ ولا أحد يسمع صراخها.
تصرخ كاساندرا تحذر العرب من الانقسام العربى الذى أدى إلى ضعفهم واستخفاف العالم بهم، فاستمرت إسرائيل فى بناء المستوطنات وتغير طائراتها يوما على غزة ويوما على لبنان ويوما على سوريا وتغتال من يحلو لها اغتياله. تركيا تنتهك أراضى سوريا يوميا والعراق يوما آخر وتؤلب الأوضاع فى ليبيا. وروسيا تتواجد بقوات فى سوريا وبمرتزقة فى ليبيا وإيران تؤلب الأوضاع فى المشرق العربى بأسره والولايات المتحدة تحرك الأحداث فى العالم العربى كلاعب شطرنج ينقل البيادق بين المربعات. وسط هذه المخاطر هرول البعض يحتمى بالأمريكان والبعض بإسرائيل وأخرى بإيران وكاساندرا تصرخ لن تجدوا الأمان إلا فى أحضان بعضكم البعض، فالكائن الغريب فى الجسم العربى كالكائن الغريب فى الجسم البشرى لا ينتج عنه سوى الحمى والتفسخ والاحتقان. نظرت كاساندرا إلى موقع العرب على خارطة العلم والتكنولوجيا فأصابها الهلع وصارت تصرخ مولولة لقد خرجتم من التصنيف وتخلفتم بينما العالم يركض ركضا حثيثا ويدخل أعتاب مرحلة يحكمها العلم فى مجالات الطبيعة الكمومية والكمبيوترات فائقة السرعة والذكاء الاصطناعى وعلم الروبوتات والهندسة الوراثية وعلوم الفضاء والاندماج النووى. أصبح هناك نزيف يهدد الجسم العربى، نزيف للعقول والكفاءات التى لا تجد المكان اللائق بها، فباتت تهاجر بحثا عن العلم قبل الرزق فيفقد العرب أعز وأغلى أبنائهم الذين أنفقوا عليهم كل عزيز وكل غال ليساهموا فى بناء بلادهم وتحصينها، فإذا بهم يهاجرون إلى بلاد باتت تعايرنا بمعوناتهم الاقتصادية التى إن حسبناها لوجدنا أنها أقل مما حصلوا عليه من عقولنا وخيراتنا.
وفى نفس الوقت نجد قوى إقليمية تخطو خطوات هائلة فى المجالات العلمية فها هى؛ إسرائيل تنتج برامج لاختراق الاتصالات والكمبيوتر وتصدرها إلى الدول الكبرى وأيضا إلى الدول العربية فضلا عن امتلاكها شبكة من الأقمار الصناعية مصنعة فى إسرائيل وانطلقت بصواريخ إسرائيلية لتكشف أقل شبر فى الأرض العربية. وفى الجانب الآخر تبنى إيران برنامجا نوويا طموحا اعتمادا على مواردها فضلا عن شبكة أقمار صناعية أطلقتها بصواريخ إيرانية وفى نفس الوقت تستخدم دول كبرى العرب كفئران تجارب للأدوية والأمصال الجديدة وللبذور الزراعية المهندسة وراثيا.
لقد اقتحمت خيول طروادة بلادنا العربية وعاثت فيها ضبحا وقدحا وأثارت بيننا نقعا ولازلنا نصم أذاننا عن تحذيرات كاساندرا وصراخها ونكذبها.
يا عرب كفانا ما حل بنا استمعوا إلى علمائكم وخبرائكم ومفكريكم ولا تكذبوهم، استمعوا إلى كاساندرا وتغلبوا على لعنة أبوللو.
نقلا عن الشروق