حرصت إيران، مع حلول الذكرى الثالثة والأربعين للثورة التي أطاحت بنظام الشاه في فبراير 1979، على تمرير رسائل جديدة إلى القوى الإقليمية والدولية المعنية بأزمات المنطقة، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في سعيها إلى إضفاء طابع أيديولوجي على توجهاتها الخارجية، خاصة فيما يتعلق بـ”نصرة المستضعفين”، وتصاعد الضغوط التي تتعرض لها في ظل حرص حلفائها على الوصول إلى تفاهمات مع خصومها، وغموض المسارات المحتملة للمفاوضات التي تجري في فيينا، وضغوط التيار المتشدد المناوئ للحوار مع واشنطن، وتزايد انخراط الحرس الثوري في إدارة السياسة الخارجية، وهو ما يوحي في النهاية بأن إيران لن تجري تغييرات بارزة في سياستها الخارجية حتى رغم تركيز حكومة رئيسي على تحسين العلاقات مع دول المنطقة وكل من روسيا والصين.
لم تمر الذكرى الثالثة والأربعون للثورة، في 11 فبراير الجاري (أو 22 بهمن بالتقويم الفارسي)، دون أن تحاول إيران استغلالها من أجل التأكيد من جديد على تمسكها بالاتجاهات الرئيسية لسياستها الخارجية، خاصة إزاء الأزمات الرئيسية التي تحظى باهتمام خاص من جانب القوى الإقليمية والدولية المعنية بتداعيات تلك الأزمات على أمن واستقرار المنطقة. ورغم أن إيران دائماً ما تستغل هذه الذكرى السنوية من أجل تمرير رسائل عديدة في اتجاهات مختلفة؛ إلا أن إمعانها في إلقاء الضوء بشكل أكبر على تلك الاتجاهات في العام الحالي يكتسب وجاهته في ضوء اعتبارات عديدة، تتعلق بما فرضته المفاوضات التي تجري في فيينا، بصرف النظر عن مآلاتها المحتملة، من جدل حول بعض تلك الاتجاهات، لا سيما ما يتعلق بالتفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية والدعم المقدم للحلفاء في المنطقة، فضلاً عن تصاعد حدة الضغوط التي تفرضها التحركات الإسرائيلية الجديدة في المنطقة، إلى جانب اتجاه الحرس الثوري إلى تعزيز انخراطه في إدارة الأزمات المختلفة رغم الخلافات التي بدأت تظهر إلى العلن وبدت جلية في التسريب الأخير للقائد السابق لـ”الباسدران” الذي يشير فيه إلى ارتكاب عمليات فساد داخل الحرس.
ملفان رئيسيان
ركزت الرسائل الأساسية التي حرصت إيران على توجيهها في ذكرى الثورة على ملفين رئيسيين: الأول، الاستمرار في دعم “المستضعفين”، وهو عنوان يكتسب طابعاً أيديولوجياً تسعى من خلاله إيران إلى التغطية على تدخلاتها المستمرة في الأزمات الإقليمية المختلفة، التي أنتجت ضغوطاً قوية عليها في الفترة الماضية، على المستويين الإقليمي والدولي، وتسببت في تصاعد حدة التوتر في علاقاتها مع العديد من القوى الرئيسية، بل إنها أحد الدوافع الرئيسية التي أدت إلى اتساع نطاق الاحتجاجات الداخلية في العام الماضي بسبب تراجع الخدمات المعيشية المقدمة، على غرار الكهرباء والمياه العذبة، والذي أرجعه المحتجون إلى انهيار البنية التحتية بسبب العقوبات واستنزاف العوائد الإيرانية في الإنفاق على دعم الحلفاء في المنطقة. وفي هذا السياق، قال الرئيس إبراهيم رئيسي، في خطاب قبل صلاة الجمعة في 11 فبراير الجاري، إن “الثورة الإسلامية اقتلعت نظام الشاه الفاسد من جذوره وقامت ببناء نظام قائم على أساس الدين وحاكمية الشعب الدينية. كل شعوب العالم الإسلامي لا سيما المستضعفين يعشقون هذه الثورة الإسلامية”.
والثاني، هو رفض التماهي مع الدعوات الإقليمية والدولية بعدم إجراء أنشطة جديدة لها علاقة بتطوير برنامج الصواريخ الباليستية، وهي الدعوات التي تزايدت في الفترة الأخيرة واكتسبت زخماً وأهمية خاصة من جانب القوى الإقليمية والدولية المعنية بأزمات المنطقة، التي تبدي قلقاً من حرص إيران على عدم توسيع نطاق المفاوضات في فيينا ليشمل هذا الملف تحديداً. ففي هذا الإطار، استغلت إيران حلول ذكرى الثورة للإعلان عن صاروخ جديد أرض-أرض يسمى “خيبر شكن”، في 9 فبراير الجاري، والذي يصل مداه إلى 1450 كم. وكان لافتاً أن الخطوة الأخيرة توازت مع استئناف الجولة الثامنة مع مفاوضات فيينا، والتي يتوقع أن تحدد بدرجة كبيرة المسار الذي سوف تنتهي إليه المفاوضات، باعتبار أن الوقت المتبقي لتبيان مدى إمكانية الوصول إلى صفقة من عدمه ربما بات محدوداً.
دوافع عديدة
يمكن تفسير إصرار إيران على توجيه تلك الرسائل في ذكرى الثورة في ضوء دوافع عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- تزايد انخراط “الباسدران” في إدارة السياسة الخارجية: يبدو أن الحرس الثوري كان هو الجهة التي مارست ضغوطاً من أجل الإعلان عن الصاروخ الجديد، الذي جاء بعد نحو شهر ونصف من إطلاق 16 صاروخاً باليستياً، في مناورات “الرسول الأعظم 17” في 24 ديسمبر الماضي. فقد كان لافتاً إشارة قائد القوة الجوفضائية أمير علي حاجي زاده إلى أن الصاروخ ليس جديداً وقد دخل المنظومة القتالية للحرس الثوري. ويعني ذلك أن “الباسدران” استدعى أحد الملفات الأكثر حساسية بالنسبة للقوى الدولية والإقليمية من أجل تأكيد أنه لا مجال لتقديم تنازلات فيه حتى لو كان ذلك على حساب الوصول إلى صفقة “نووية” في فيينا. ويبدو أن ذلك كان محل تباين مع بعض الاتجاهات الداعمة لتلك الصفقة المحتملة، على نحو لا ينفصل عن التسريب الأخير، الذي كشف عنه “راديو فردا” بالتوازي مع الاحتفال بذكرى الثورة، والذي ثبتت صحته لحوار دار بين القائد السابق للحرس الثوري محمد علي جعفري ونائب قائد الحرس لشئون الاقتصاد والبناء صادق ذو القدر نيا، حول بعض عمليات الفساد التي ترتكب داخل الحرس.
2- تصاعد ضغوط تيار المحافظين الأصوليين: يبدو أن التصريحات التي أدلى بها المسئولون الإيرانيون في الفترة الماضية حول أولويات السياسة الخارجية في عهد الرئيس إبراهيم رئيسي لم تحظَ بتأييد واسع داخل تيار المحافظين الأصوليين، الذين بدأوا في توجيه انتقادات قوية لبعض تلك الأولويات، لا سيما ما يتصل بالعلاقات مع القوى الدولية مثل روسيا أو الصين، أو مع العديد من القوى الإقليمية في المنطقة. ويبدو أن ذلك هو ما دفع الرئيس رئيسي نفسه إلى التركيز في كلمته قبل صلاة الجمعة الماضية على أن “شعار لا شرقية ولا غربية سوف يبقى عالياً”، وهو ما يتناقض، من دون شك، مع تطلع الحكومة إلى توقيع اتفاقية تعاون استراتيجي لمدة عشرين عاماً مع روسيا، والتي تم الترويج لها خلال زيارة رئيسي إلى موسكو في 19 يناير الفائت بعد إبرام اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع الصين في 27 مارس 2021، والتي دخلت حيز التنفيذ في 15 يناير الفائت. وقد كان لافتاً أن مثل هذه الخطوات أثارت تحفظات من جانب اتجاهات عديدة بدأت في التركيز على أنها يمكن أن تمس “سيادة الدولة”.
3- تفاقم القلق من التحركات الإقليمية لـ”الحلفاء”: تتابع إيران بدقة التحركات التي تقوم بها القوى “الحليفة” لها في المنطقة، لا سيما روسيا وتركيا، رغم أن اتجاهات عديدة داخلها ترى أن العلاقات مع الدولتين لا تدخل في نطاق “التحالف” وإنما “الصداقة” التي يفرضها توافق المصالح في بعض الملفات. وفي كل الأحوال، فإن طهران ترى أن هذه التحركات لا تتوافق مع مصالحها وحساباتها، خاصة من جهة حرص الدولتين على تطوير العلاقات مع إسرائيل والوصول إلى تفاهمات أمنية معها. فقد دعا الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتزوج الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، في 24 ديسمبر الماضي، إلى زيارة إسرائيل والمشاركة في افتتاح متحف “مقاتل يهودي في الحرب العالمية الثانية” في عام 2022، وذلك بعد الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت إلى سوتشي للقاء بوتين، في 22 أكتوبر الماضي، والتي أكد على إثرها وزير الإسكان الإسرائيلي زئيف إلكين أنها “تُوِّجت بالتوصل إلى اتفاقات عملية بشأن سوريا وإيران”.
كما يتوقع أن يقوم هرتزوج بزيارة تركيا في 9 و10 مارس القادم بعد التحسن الملحوظ في العلاقات بين تركيا وإسرائيل خلال الفترة الأخيرة. ويقوم وفد تركي بزيارة تل أبيب، في 16 و17 فبراير الجاري، ورغم أن العنوان الأساسي لتلك الخطوة هو الاتفاق على ترتيبات زيارة هرتزوج إلى تركيا، فإن هوية الوفد التركي توحي بأن المسألة ربما تكون أكثر اتساعاً من ذلك، إذ يتوقع أن تجرى مباحثات حول الملفات التي تحظى باهتمام مشترك من الجانبين، حيث يضم الوفد التركي إبراهيم كالين كبير مستشاري الرئيس رجب طيب أردوغان للسياسة الخارجية، وسادات أونال نائب وزير الخارجية.
4- رفض التفاوض خارج الإطار النووي: عادت إيران من جديد إلى التصعيد في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية. فبعد أن ألمح العديد من المسئولين الإيرانيين، على غرار وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني، إلى أن المفاوضات المباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد مستبعدة طالما أن ذلك يمكن أن يساعد في الوصول إلى صفقة في فيينا، بدا أن هذا الخيار تراجع بسبب الخلافات التي ما زالت قائمة في فيينا، وحرص واشنطن على تأكيد أن المشكلة مع إيران لا تنحصر في البرنامج النووي، على نحو انعكس في التغريدة التي كتبها شمخاني على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، في 16 فبراير الجاري، والتي قال فيها إنه “لن تكون هناك مفاوضات خارج الإطار النووي”، في إشارة إلى عدم ضم ملفات أخرى إلى تلك المفاوضات، وعدم تحويلها إلى مفاوضات مباشرة، متهماً الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية بالتقاعس عن تنفيذ تعهداتهما.
نهج متواصل
في ضوء ذلك، يبدو أن إيران سوف تواصل اتخاذ إجراءات تصعيدية خلال المرحلة القادمة، سواء على مستوى تطوير برنامجها الصاروخي أو على صعيد مواصلة تدخلاتها الإقليمية، خاصة أن الاتجاه الأبرز داخل إيران حالياً يرى أن التصعيد يمثل الآلية الأهم التي يمكن من خلالها الحصول على أعلى مستوى من العوائد الاستراتيجية والاقتصادية التي يمكن أن توفرها أي صفقة محتملة في فيينا، أو الاستعداد مسبقاً لأي سيناريو آخر محتمل قد ينتج عن فشل المفاوضات، بالتوازي مع تأكيد عدم إجراء تغيير في محددات السياسة الخارجية الإيرانية إزاء الملفات الخلافية.