الولايات المتحدة وحلفاؤها وخصومها – الحائط العربي
الولايات المتحدة وحلفاؤها وخصومها

الولايات المتحدة وحلفاؤها وخصومها



يتمّ الحديث كثيرا عن انسحاب الولايات المتحدة من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتخلّى عنها، لصالح اهتمامها بصراعها مع الصين. وذلك حتّى قبل الانسحاب العسكريّ الأمريكيّ الأخير من أفغانستان.

الوقائع على الأرض، وفى السياسة، تشير إلى عكس ذلك. إذ لم يسبِق أن يكون للولايات المتحدة هذا العدد من القواعد العسكريّة فى المنطقة، وهكذا تجرى مناورات عسكريّة مشتركة متواترة مع العديد من جيوشها، بينما يقوم مبعوثوها الخاصّون بجولات «تفاوض» حول الأزمات والقضايا الإشكاليّة، ويتردّد توصيف هذه الدولة أو تلك على أنّها حليف استراتيجيّ لها. ولم يسبِق للولايات المتحدة أن تكون مصطفّة إلى هذا الحدّ مع إسرائيل لتفرِضَ اتفاقات سلام مع كثيرٍ من الدول العربيّة دون مقابل، وتعترف بضمّ القدس والجولان للدولة العبريّة ضاربةً عرض الحائط قرارات الأمم المتحدة. كما لم يسبِق لها أن كانت بهذه الدرجة من القسوة مع خصومها وخصوم حلفائها، وخاصّة إيران.

فما المقصود إذًا بهذا الخطاب «العربيّ» عن الانسحاب والتخليّ الأمريكيّين؟ أهو نتيجة عودة روسيا إلى المنطقة، خاصّةً فى سوريا وليبيا؟ هذا مع العلم أنّ روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفيتى السابق لما بعد اتفاقيات يالطا. وعلما أيضا أنّ الصين منخرطة فى علاقات اقتصاديّة وثيقة وتتنامى بتسارع ملموس مع كثيرٍ من دول المنطقة، من دول الخليج حتّى الجزائر.

أم أنّ مثل هذا «الخطاب العربيّ» يخفى نوعا من «الحنين» للحروب العسكريّة الأمريكيّة المباشرة، كما فى 1991 و2003 ضدّ العراق، لكن هذه المرّة على إيران؟

ربّما أنّ «منظور» هذا التراجع الأمريكيّ يعود إلى تغيّر أوضاع المنطقة بحدّ ذاتها.. إنّ جميع بلدانها تعيش تحوّلات كبرى، خاصّةً منذ انطلاق أحداث ما سمّى «الربيع العربيّ». تميّزت هذه التحوّلات بانتشار حالةٍ من عدم الاستقرار الداخليّ فى كثيرٍ من بلدان المنطقة، وذلك بعد انهيار سلطات دام حكمها لعقود، وانهيار نموذجها للتنمية والحوكمة، بالتوازى مع صعود حركات اجتماعيّة مختلفة، بينها تلك المتطرّفة دون إمكانيّة كبحها. وذلك خاصّةً فى البلدان المتوسطيّة ذات الكثافة السكّانيّة. وربّما ما زال مترسّخا فى الأذهان أنّ الولايات المتحدة قد «تخلّت» عن زعماء تونس ومصر رغم أنّهم كانوا حلفاءها. ويُلقى اللوم فى ذلك على إدارة الرئيس أوباما «الذى كان ضعيفا» (؟!)، ما يعنى ضمنيّا أنّه كان المطلوب تدخُّل الولايات المتحدة عسكريّا أو على الأقلّ أمنيّا للإبقاء على أنظمة الحكم المعنيّة.

لكنّ الأهمّ قد يعود إلى تداعيات التحوّلات الجوهريّة ضمن الدول وعلى العلاقات بينها. إذ إنّ انتشار حالة عدم الاستقرار قد أخذ إلى انخراط كثيرٍ من الدول فى «فرض القوّة»، الناعمة أو الخشنة، على الأخرى التى تبدو هشّة من جرّاء تحوّلاتها الداخليّة. قوّة التنظيمات الاجتماعيّة والسياسيّة الناعمة وقوّة الجيوش والميليشيات «الغليظة». ليس فقط أنّ إيران اندفعت فى لعبة القوّة هذه، بل أيضا تركيا التى تدخّلت عسكريّا بشكلٍ غير مسبوق فى سوريا والعراق وليبيا، وكذلك الدول الأوروبيّة وروسيا ودول المنطقة ذاتها. هكذا لم يعُد هدف شراء السلاح فقط تأكيدا على التحالف مع الولايات المتحدة ليبقى فى المستودعات، بل أصلا من أجل استخدام هذا السلاح فى صراعات انفتحت.. وأُخرى ربمّا آتية فى الأفق.

هكذا يبدو أنّ الخطّاب عن التخلّى الأمريكى وكأنّه طلبٌ للولايات المتحدة أن تتدخّل مباشرةً مع حليفها فى المنطقة كى تحسم لصالحه أحد هذه الصراعات. هذا فى حين يلجأ بعض الحلفاء إلى الضغط بوضع قدمٍ لدى الولايات المتحدة وأخرى لدى خصومها لفرض لعبتهم الخاصّة. ولكن كيف للقوّة العظمى أن تتدخّل إذا كان الصراع بين حليفين؟ وكيف لها، حتّى تجاه الخصوم، أن تتناسى الصدمة الاجتماعيّة والسياسيّة الداخليّة التى خلّفتها لها تدخّلاتها فى العراق وأفغانستان وحتّى فى حربها «على الإرهاب» مع تكلفة كبيرة من «الضحايا الثانويين» على الشعوب؟ علما أنّ تدخّلها بحدّ ذاته جعل جزءا من حلفائها يعملون ضدّها ويساعدون مقاومة غزوها. وعلما أنّ نتيجة تدخّلاتها العسكريّة لم تأخذ على الإطلاق إلى إرساء الاستقرار أو الديموقراطيّة ولا حتّى.. الاعتدال.

هكذا يبدو أنّ مشكلة الولايات المتحدة اليوم هى أصلا مع حلفائها قبل أن تكون مع خصومها، فهؤلاء حدّت كثيرا من نفوذهم عبر منظومات العقوبات الاقتصاديّة قليلة الكلفة ماديّا وعلى الصعيد الداخليّ سياسيّا. حلفاؤها العرب كما الأوروبيّون يطلبون منها الكثير، كلٌّ حسب منظومة «فرض القوّة» التى اختارها فى مواجهة الحلفاء الآخرين.. كما الخصوم.

ولا تكمُن المشكلة فقط على صعيد «العلاقات الدوليّة»، بل أيضا ضمن منظومة مدينة واشنطن السياسيّة. هنا اندفع الحلفاء لتمويل «مراكز الأبحاث» المتعدّدة فى المدينة. كلٌّ لديه «مفكّريه» وتقاريره التى ينصح بها الإدارة أن تتحرّك فى هذا الاتجاه أو ذاك. وكلٌّ يستميل أعضاءً فى مجلسى النوّاب والشيوخ لقضيّته. علما أنّ هموم هؤلاء ــ وشرعيّتهم ــ تنبع من قضايا داخليّة أمريكيّة قبل تلك الدوليّة. وبالطبع يجد أصحاب القوّة الناعمة، تجاه الولايات المتحدة هذه المرّة، حلفاءً داعمين لهم ضمن المجموعات الكبرى العسكريّة أو غيرها، أو فى وسائل الإعلام.

لا عجب إذًا أن يكون الرأى العام الأمريكى يميل أكثر نحو الانعزاليّة عن الصراعات الدوليّة. وأن يكون أبعَد ما يُمكِن أن تدفع إليه الإدارات الأمريكيّة المتلاحقة هو خلق منظومات تعاون إقليميّة تؤطّر الخلافات بين الحلفاء وتساعد على مواجهة الخصوم. حلف الأطلسى ومشاريع توسّعه أوروبيّا وخليجيّا، و«اتفاقيات أبراهام» التى وصفها البعض أنّها «حلف بغدادٍ» جديد، مع الإبقاء على قدرة مبادرة خاصّة بها لإيجاد توازنات مع الخصوم، الصين أو روسيا أو إيران أو غيرها، لخدمة مصالحها الخاصّة الطويلة الأمد.

يبقى أنّ الضحيّة الحقيقيّة لهذا تكمُن فيما تنادى به الولايات المتحدة دوما على أنّه الأهمّ.. أى الديموقراطيّة والحريّات. ذلك أنّ معظم حلفائها لا يتميّزون بديمقراطيتّهم الداخليّة، بل إنّ التحوّلات الكبرى فى المنطقة ــ وغيرها ــ قد أخذت إلى درجةٍ أكبر من التعدّى على النهج الديموقراطيّ مقارنةً مع الماضى القريب. فانطلاق الصراعات له حساسيّاته، خاصّةً فى ظلّ تدخّل «القوّة الناعمة» بين الحلفاء وكذلك من قبل الخصوم فى انتخابات البلدان.

ما يسمّى اليوم «عالما متعدّد الأقطاب» لا يخصّ فقط دور الولايات المتحدة وروسيا والصين، بل يُنبئُ عن صعوبة تعامل كلٍّ منهم مع خصومه.. كما مع حلفائه. وكما يُنسَب للأمير الإغريقى المقدونيّ أنتيغونوس دوزون قوله: «اللهم اكفنى شرّ أصحابى، أمّا أعدائى فأنا كفيلٌ بهم».

نقلا عن الشروق