تعددت تأويلات النقاد والكُتاب حول قصيدة (قارئة الفنجان)، هناك من قال إنها تعبر عن قلق نزار قباني من المستقبل بعد نكسة 1967، وهناك من كتب إنها فلسطين الآن، إلا أنه يمكن إسقاط القصيدة على معظم الدول العربية.
في الأسبوع الماضي، نشرت جريدة الشرق الأوسط قراءة السيد مصطفي الكاظمي، رئيس الوزراء العراقي، لعام 2022، تبلورت الرؤية حول ضرورة تحول العالم العربي من بؤر للصراع والمواجهة إلى ميدان للتعاون والتكامل الإقليمي.
تجاوز السيد الكاظمي الانقسامات والنزاعات المسيطرة على المشهد السياسي في العراق. ميليشيات وأحزاب تمتد انتماءاتها عميقًا خارج عاصمة الرشيد وتطلق رصاص بنادقها ومدافعها إيذانًا ببدء الكلام. يقول أبو العلاء المعري (تَلَوا باطِلاً وَجَلَوا صارِماً/ وَقالوا صَدَقنا فَقُلنا نَعَم).
على عكس من تولوا ذات المنصب من قبل، جاء الكاظمي من دون راية سياسية ترفرف فوق رأسه. وقف محايدًا على نفس المسافة من الجميع. أجريت أول انتخابات تشريعية دون معرفة الرابح مسبقًا. لم تجهز الصحف –كما اعتادت من قبل- العناوين الحمراء بفوز الحزب الحاكم بنسبة تلامس المائة في المائة.
أجريت انتخابات نزيهة رفض فيها رجل الشارع المتاجرين بقُوتِه ومستقبله فضربت الكُتل السياسية الفُقاعية منزل رئيس الوزراء بالطائرات المفخخة. وضع الغرب الحكمة العربية (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية) نُصب عينيه، فيما وضعها العرب خلف آذانهم.
كان العراق ذات يوم مهدًا للحضارة البابلية، وليبيا معبرًا للحضارتين الفرعونية واليونانية للمغرب العربي، ومأرب وسبأ منارات اليمن، وسوريا جسرًا لحضارات وثقافات الشام، اليوم تشتعل هذه المناطق بالصراعات. تتحدث لغة الرصاص قبل لغة الضاد.
لا يكمن التحدي في فقر الموارد الطبيعية، بل في فقر الأفكار، وغياب ثقافة التسامح وقبول الآخر. هذه منطقة تتخطى بتاريخها دورها التجاري إلى كونها بوتقة للثقافات والحضارات.
نجاحات التحول ليست حكرًا على الدول المتقدمة فقط. تكفي قراءة رواية (خريف البطريرك) للكولومبي جابريل جارثيا ماركيز لمعرفة ما كانت عليه النظم الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية، ورواية (عساكر قوس قزح) للإندونيسي آندريا هيراتا عن فقر دول شرق آسيا وغياب نظم تعليم جيدة، وترجمة الدكتورة فاطمة نصر لكتاب نيلسون مانديلا (نحو الحرية) عن دولة تفرقة عنصرية بامتياز.
تغير كل ذلك. صار الماضي مجرد ذكريات تروى لاستخلاص العبر وليس لإثارة النعرات وتأجيج الخصومات. كَنس التسامح والتعليم الجيد آثار الأنظمة السابقة.
في تقريره الصادر منذ أيام، رصد المنتدى الاقتصادي العالمي World Economic Forum عشرة مخاطر تواجه البشرية، يتعلق نصفها بالمناخ ويضم النصف الآخر أزمات الديون، والتحديات الجغرافية والاقتصادية، ومخاطر التكنولوجيا، وتأمين الفضاء المعلوماتي.
أكثر من ألف خبير ومفكر استطلع التقرير رأيهم، أبدى 84% قلقهم بشأن المستقبل. نظرة سوداوية. فاقم فيروس كورونا من تأثير التحديات. في الوقت الذي تحتاج فيه الدول لضخ المزيد من الاستثمارات، تحولت للحفاظ على صحتها وتعزيز بنيتها الرقمية.
اختلاف ترتيب المخاطر بين الدول وبعضها البعض أمر طبيعي. كيف تتحدث عن تحديات تغير المناخ مع مواطنين يبحثون عن مسكن آمن ولقمة عيش أو عن قارب موت يعبر بهم للضفة الأخرى من النهر. وكيف تدعو إلى تأمين الفضاء المعلوماتي بينما تذوب الحدود الجغرافية كقطع ثلج في نهار صيف قائظ.
في بعض الدول، تتحول صناعة الاضطرابات والنزاعات إلى استثمار تدعمه قوى خارجية، مما يحول جلسات مناقشة تقرير كهذا إلى مادة فكاهية.
أمام المنطقة العربية مساران؛ إما مواصلة التشظي أو لم الشمل. أرجو ألا تتحول رؤية السيد الكاظمي إلى فرصة ضائعة في المستقبل.
نقلا عن الأهرام