لقد أفرزت عمليات استهداف مناطق مدنية في أبو ظبي خلال الأسبوعين الماضيين آثاراً غير اعتيادية لدى الرأي العام الأميركي، على الرغم من مرور سنوات على الحرب في اليمن واستهداف السعودية بالصواريخ نفسها من قبل ميليشيات الحوثي.
لكن، قصف أبو ظبي سمع في واشنطن بشكل يدل على أن تعقيداً غير منتظر أصاب الدوائر العاملة بالشؤون الخارجية، والأمنية، والدفاعية، وحتى الاقتصادية بالولايات المتحدة والغرب. نخصص هذا المقال لمقاربة التطور الجديد من النيات الإيرانية، إلى نتائج الضربة، إلى الدور السعودي، إلى السيناريوهات المحتملة.
البعد الاستراتيجي للضربة
تفاجأ المراقبون في العالم على مستويين عندما خرجت أخبار القصف الصاروخي، أو “الدروني”، لمنشآت قرب مطار أبو ظبي، موقعاً قتلى وجرحى، وأضراراً مادية، وأخرى دمرت في الأجواء.
المستوى الأول هو القرار الحوثي باستهداف عاصمة الإمارات مباشرةً للمرة الأولى، مما يشير إلى قرار كبير اتخذته إيران بهذا الخصوص. والمستوى الثاني هو قدرة الحوثيين على تنفيذ هجمات صاروخية كهذه على الساحل الشرقي للجزيرة العربية.
في ما يتعلق بالقرار الإيراني بضرب الإمارات في عاصمتها، فذلك يعني أن النظام في طهران اجتاز خطاً أحمر آخر بمهاجمة دولة خليجية ثانية على أراضيها الوطنية، بعد أن خرق خطاً أحمر سابقاً بقصف السعودية بالصواريخ الباليستية، وصولاً إلى عاصمتها، واستهداف موقع “أرامكو” في 2020 بواسطة الدرونات.
استهداف الإمارات مباشرة، بعد استهداف المملكة سنوات، يعني أن القيادة الإيرانية باتت تظن أن موقفها يسمح لها بالتصعيد. ولو أنه في الواقع، حلفاؤها في اليمن هم في موقف أضعف، بسبب التقدم الذي يحرزه التحالف على الأرض بقيادة الرياض.
فلماذا إذاً اعتداء كهذا على الإمارات، في وقت تتراجع فيه القوات الحوثية أمام الجيش اليمني وقوات العمالقة، وتحت الضربات الجوية للتحالف؟ ما البعد الحقيقي للضربة على أبو ظبي؟
الموقف الإيراني
لماذا استهدف الحوثيون، ومن ورائهم إيران، عاصمة دولة الإمارات بشكل علني وبتحدٍّ؟ علماً بأن جماعة الحوثي ركزت على عدوها الأكبر دائماً، وليس على حلفائها في الخليج. هناك بعض التحاليل المترابطة. أولها أن دعم الإمارات لـ”ألوية العمالقة” الجنوبية أسهم في تقدم هذه الوحدات وتحريرها عدداً من المديريات اليمنية، إضافة إلى الجهد الأكبر الذي تتحمله السعودية، فمشاركة أبو ظبي جاءت لتضيف الضغط الميداني على الحوثيين، وتدفعهم إلى الوراء. فكان لا بد للإيرانيين من أن يهزوا العصا للإماراتيين في عُقر دارهم.
وثمة من قال إن الإمارات كانت قد دعمت الوحدات الجنوبية منذ سنوات، فماذا جرى يا ترى لكي يرد الحوثيون على أهداف إماراتية في الوطن الأم؟ رداً على هذا التساؤل، يمكن التعليل بأن تحرير مساحات واسعة من المناطق اليمنية، وتوجه قوات التحالف باتجاه مناطق الحوثيين، ومراكزهم الكبرى، ربما فرض على الحوثيين وداعميهم بأن يضربوا في عمق دول التحالف. وبما أن هذه الميليشيات استهدفت عمق المملكة، فالصدمة الثانية التي تنوي إيران إحداثها لدى أخصامها هي “زعزعة أمن” حلفاء المملكة، وعلى رأسهم الإمارات.
من هنا، فالنكسات على الأرض داخل اليمن قد تكون سبباً للانتقام من المدن الخليجية، ومع تصاعد التهديدات الإيرانية ضد “الأبراج الإماراتية”، وتلاحق محاولات القصف، رد التحالف عبر الطيران السعودي والإماراتي على مواقع إطلاق الصواريخ الباليستية داخل مناطق سيطرة الحوثيين في اليمن ودمر عدداً منها.
والسؤال: لماذا تصر إيران على توجيه ضربات في العمق الخليجي انطلاقاً من اليمن؟ الجواب قد يكون أنها محاولات لإيقاف تقدم قوات التحالف على الأرض في اليمن. الأمر يذكرنا بإطلاق ألمانيا النازية صواريخ باليستية على بريطانيا ولندن، خلال الحرب العالمية الثانية، في محاولة لإيقاف تقدم الحلفاء بعد إنزال النورماندي في يونيو (حزيران) 1944. إيران والحوثيون “محشورون” على الأرض في اليمن، فيردون على ساحل الخليج، وهو عصب مدني واقتصادي للتحالف.
واللجوء إلى استراتيجية كهذه يشير أيضاً إلى حسابات طهران، بأن حلفاءها الدوليين، روسيا والصين، لن يتخلوا عنها دولياً. وربما يضاف أن القيادة الإيرانية أيضاً تعتقد أن إدارة بايدن، بسبب تصميمها على توقيع الاتفاق، ستميع الرد على إيران، لكن هل ستلاقي الوقائع الجيوسياسية حسابات البيدر الإيرانية؟
الموقف الأميركي
كما كتبنا سابقاً ومراراً، من الواضح أن إدارتي أوباما وبايدن التزمتا الاتفاق النووي، واعتمدتا سياسة عدم الحسم مع إيران، على الرغم من اعتداءات طهران المتكررة على حلفاء أميركا في المنطقة، وذلك حماية “للاتفاق” وتحت ضغط اللوبيات.
إلا أن الأجواء في واشنطن تختلف الآن مما كانت عليه خلال العام الماضي. فبغض النظر عن ملف إيران والتحالف العربي، هناك أزمات سياسية، دبلوماسية، اقتصادية متصاعدة داخلياً بدأت تؤثر في أداء الإدارة خارجياً.
أما الأزمات العالمية فهي تتكاثر وتضع ضغطاً على فريق الرئيس بايدن، من أزمة احتمال عمل ميداني روسي في أوكرانيا، إلى احتمال تحرك صيني حيال تايوان، إلى فشل المساعي الدولية في إيقاف الصراع بين إثيوبيا والتيغراي، إلى عدم تنفيذ الانتخابات الليبية، إلى إفلات “طالبان” داخلياً وعودة “القاعدة” إلى أفغانستان، واستفحال “داعش” مجدداً في سوريا والعراق، إلى ما هنالك من تصعيد في عدد من الأزمات في مختلف القارات. مما يشكل عامل ترجرج في اتخاذ إقرارات الخارجية في واشنطن، في بداية سنة انتخابية دقيقة في الولايات المتحدة.
لكن، خطورة التصرف الإيراني في المنطقة، بخاصة عبر الحوثيين، يزعج إدارة بايدن الساعية إلى تطمين الأميركيين إلى أن الـJCPOA سيغير نهج إيران العدواني. فكل ما يراه الرأي العام الأميركي من إيران هو أعمال عنيفة وتهديدية في كل أنحاء المنطقة، وداخل حدودها. وما أفاض كوب الماء كان استهداف العمق السعودي بصواريخ باليستية لا يستعملها أحد في العالم حالياً.
لكن، اللوبي الإيراني سعى بكل جهده، وماله، لتصوير الصواريخ كجزء من حرب ضروس بين الطيران الحربي السعودي الذي “يقصف المدنيين اليمنيين” والسلاح الباليستي الحوثي الذي “يرد على القصف”، بحسب زعم اللوبي.
وعلى الرغم من استهجان الشركات الأميركية العاملة في المملكة مع قصف مجمع “أرامكو” في 2020، فإن اللوبي التابع للاتفاق حاول طمس المسألة. أما القصف الباليستي لمطار أبو ظبي، فيبدو أنه قسم ظهر البعير لدى جزء من الرأي العام العادي في أميركا. فالإمارات ليس لها حدود جغرافية مع اليمن، بالتالي ربطها بحرب اليمن بشكل مباشر صعب الفهم بالنسبة للمواطن البسيط. ضف إلى ذلك تأثر عدد كبير من الشركات، والمصالح، والجامعات، وحتى الصناعة الترفيهية، بنبأ تعرض أبو ظبي للقصف، بما في ذلك رابط مع دبي التي باتت مركزاً ثقافياً عالمياً مشهوراً في أميركا. وإذ إن اللوبي الإيراني ركز على المملكة أكثر من الإمارات، فخرجت صورة القصف الباليستي لأبو ظبي إلى الداخل الأميركي كاعتداء واضح من الحوثيين على الإمارات دون سبب، مما أضعف حجة اللوبي الإيراني، وفتح الباب أمام الكونغرس للتدخل والضغط لإعادة الحوثيين إلى لائحة الإرهاب.
وباتت كتلة الضغط المؤيدة للسعودية والإمارات في موقع أقوى من ضغط اللوبي الإيراني، في هذه المرحلة بالذات. وتجد إدارة بايدن نفسها في موقع غير مريح لمفاوضاتها مع إيران، وملزمة بموقف داعم للتحالف ضد القصف الباليستي الإيراني. الإدارة تريد الوصول إلى الاتفاق، لكن أعمال إيران وميليشياتها تهدد الإدارة بخسارة الحلفاء في المنطقة، بما فيها السعودية، والإمارات، وحتى إسرائيل.
لذا، فالتلبّك مُتفشٍّ في الإدارة بين الفريق العامل على المفاوضات مع الإدارة والمسؤولين الدفاعيين والأمنيين، الذين يوصون بعمل ما لإيقاف الحوثيين. والمواجهة حامية في واشنطن بين اللوبي الإيراني والمصالح المرتبطة به، والمصالح الأميركية الواسعة الشريكة للسعودية والإمارات، ولها وزن كبير في الاقتصاد الأميركي.
الجبهة الإبراهيمية
لكن، قصف أبو ظبي فتح جبهة جديدة مع أعضاء معاهدة إبراهيم، إذ إن الإمارات عضو موقع مؤسس للمعاهدة مع البحرين وإسرائيل. وكان التبادل الإنمائي بين أعضاء المعاهدة، بما فيه السودان والمغرب، قد انطلق بقوة في الأشهر الماضية.
والأهم من ذلك، وجود قاعدة شعبية واسعة داعمة للاتفاق الإبراهيمي داخل الولايات المتحدة، باتت تعتبر أن هجوم إيران على الإمارات هو هجوم على الكتلة الإبراهيمية بكاملها، بالتالي يحرك مشاعر عشرات الملايين من الأميركيين، لمطالبة واشنطن بالرد على طهران. وهذا لن يكون لمصلحة إيران، إذ إنها تزيد العداوات ضدها، بخاصة خلال المفاوضات الهادفة إلى الحصول على مساعدات مالية. ولا ننسى أن إسرائيل تواجه إيران على محورها الخاص في المنطقة. وقد يدفع الهجوم الصاروخي الحوثي – الإيراني إلى احتمال رد إماراتي – إسرائيلي، إضافة إلى الرد السعودي – الإماراتي المنفصل.
الإمارات لن تستضعف
ضرب أبو ظبي، ومحاولة استهداف الإمارات من قبل “المحور” هو تهديد من طهران باتجاه الاقتصاد الخليجي، لتحييد أبو ظبي وفك ارتباطها بالتحالف العربي وردعها، لكن المخططين في طهران يرتكبون خطأ استراتيجياً، لأن الشراكة بين الإمارات و”أختها الكبرى” السعودية هي أعمق من صواريخ باليستية. ولأن اللعب بنار الجبهة الإبراهيمية قد يخلق ما لم يكن بالحسبان.
وربما الأهم أن التزام الولايات المتحدة بأمن شركائها الخليجيين أعلى من سعي دبلوماسي لتوقيع اتفاق مع إيران. وما مشاركة البطاريات الأميركية في المنطقة بإسقاط بعض الصواريخ المهاجمة إلا رسالة حاسمة من أميركا إلى إيران لتقول لها: أنا هنا.
إن استكبار القيادة الخمينية على جيران إيران في الخليج، دون حسابات دقيقة، سيجلب عواصف قد يصعب إيقافها.
نقلا عن اندبندنت عربية