العرب والرابطة الثقافية – الحائط العربي
العرب والرابطة الثقافية

العرب والرابطة الثقافية



تشير المؤشرات المرتبطة بالعلاقات الدولية المعاصرة إلى الأهمية المتزايدة للعامل الثقافي الذي بدأ يزحف تأثيره على نحو غير مسبوق. فالعولمة ظاهرة ثقافية. وصراع الحضارات إشكالية ثقافية. وحتى الحرب على الإرهاب مواجهة ثقافية أيضاً. ولقد بدأت تأثيرات ذلك مع تنامي دور الدولة القومية والاهتمام بالمفهوم القانوني للدولة الوطنية. وتوارى عصر الأيديولوجيات، وتقدم عصر القوميات. والقومية في أبسط معانيها هي تعبير ثقافي بالدرجة الأولى. فاللغة هي الرابطة الأم التي تجمع وتوحد وتصنع المفهوم الحقيقي لكلمة الأمة. ونحن العرب أحوج ما نكون إلى تدبر هذا التحول الفكري للفوارق الثقافية التي يمكن أن يُرمز إليها بالمقارنة بين مشهد أسامة بن لادن ممسكاً بعصاه فوق مرتفعات تورا بورا، وبين جورج دبليو بوش الرئيس الأميركي في مكتبه البيضاوي في البيت الأبيض. إنها مسافة بعيدة تصنع خلافاً فكرياً وعقائدياً ينعكس على العلاقات بين الطرفين بسبب اختلاف المقومات وتباين الظروف والفروق الكبيرة في المكونات الثقافية لكل منهما. ولقد قال الأمين العام الأفريقي الراحل للأمم المتحدة كوفي عنان، إن فكر العولمة هو تلخيص لوحدة المجتمعات المدنية في الدول المختلفة. أي أن العولمة ظاهرة عامة تتصل بالشعوب وليس بالنظم السياسية أو الحكومات.

ولعل من المستحسن أن نطرح هنا بعض الملاحظات المتصلة بالعروبة والرابطة الثقافية، التي نلخصها في الآتي:

أولاً: تتميز لغة العرب بثرائها الواسع ومرادفاتها المتعددة، فضلاً عن الصور البلاغية والعبارات المطاطة أحياناً. وهو ما يجعلها لغة الشعر والأدب بامتياز، حتى قيل إن الشعر هو ديوان العربية. ولا شك في أن طبيعة اللغة العربية قد انعكست على الشخصية القومية وجعلت لها هوية تقوم على مفردات ثقافية، بدءاً من الخصوصية في الطعام والشراب، مروراً بالخصوصية في المظهر والملبس، وصولاً إلى الخصوصية البارزة في أسلوب التفكير العربي وعلاقته بالزمن وقدرته على استيعاب الأحداث في مختلف الظروف.

ثانياً: عندما بلغ مفهوم العروبة ذروته في ظل الحماسة الزائدة لمسألة القومية العربية وسنوات الحلم القومي، حين ترددت نداءات الوحدة العربية بقوة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ولما أخفق ذلك المشروع القومي وحل بديلاً منه مشروع ديني لا يتوافق مع روح العصر، كانت النتيجة هي إعادة النظر في مقومات هذه الوحدة، إذ تقدم العامل الديني مرة أخرى وتراجع العامل القومي، وظلت الدورة متتالية في مد وجزر بين العاملين العروبي والإسلامي، أي القومي والديني. وها نحن نواجه مداً أصولياً لم يتوقف. ونواجه شعوراً قومياً لم يخبت. وبين الاثنين، يتأرجح العامل الثقافي في العلاقات العربية المعاصرة إقليمياً ودولياً.

ثالثاً: حينما كنت أحضر مؤتمرات البرلمان الدولي، في ضيافة الاتحاد الأوروبي أحياناً، كنت أفكر كيف أن الأوروبيين الذين لا تجمعهم لغة واحدة ويسمعون بعضهم من خلال كبائن الترجمة، قد استطاعوا أن يصنعوا اتحاداً قارياً على الرغم من اختلاف اللغات والقوميات في ما بينهم. واعتبرت أن ذلك جاء نتيجة عنصر الإرادة القوية لديهم. وهو أمر يفتقده العرب الذين من فرط ما لديهم من مقومات الوحدة لا يتوحدون، بل ولا يتكاملون، وحتى لا يتعاونون! فالإسراف الذي جاء نتيجة سخاء الطبيعة العربية منطلقاً من المقوم الثقافي قد أدى إلى عزوف معظم العرب عن روح التضامن نتيجة قناعتهم بأنهم متحدون بالعامل الثقافي لا يحتاجون إلى ارتباط سياسي أو اقتصادي. حتى أن اختلاف اللهجات العربية لا يؤثر سلباً. إذ إن الفصحى يمكن أن تكون وسيطاً مشتركاً إلى جانب بعض اللهجات مثل المصرية والشامية والخليجية وغيرها من اللهجات السائدة في عالمنا العربي.

رابعاً: أفكر أحياناً أنه لو لم تكن هناك تلفزة عربية أو مشروعات للبث المشترك في ظل التقدم التكنولوجي الكاسح في عالم الميديا، كيف كان يمكن تصور الوضع العربي في هذه الحالة؟ إنني لا أشك في أن تزايد التأثير العربي تكنولوجياً هو ما أدى إلى مزيد من الانصهار، خصوصاً في مجالي الآداب والفنون. فالأدب العربي والفن المصري أو التونسي أو اللبناني إنما يشكل في مجموعه الحالة الثقافية الراهنة عربياً ودولياً.

خامساً: يبدو جلياً أن عامل اللغة هو المتغير المستقل في جوهر فلسفة الانصهار القومي، وإذا كان هناك بدائل مكملة فإنها لا ترقى إلى مستواه لأننا نعيش في عصر تزدهر فيه القوميات وترتفع صيحات الدولة الوطنية. ولننظر كيف يدفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بلاده لكي يجمع شتات روسيا القيصرية وروسيا السوفياتية وصولاً إلى روسيا الاتحادية، لإحياء مجد بلاده وإثارة النعرة القومية، بغض النظر عن الأيديولوجيات السابقة. فالعبرة دائماً في المحصلة النهائية التي تتبلور من خلالها منظومة مفهومة ثقافياً تلتف حولها شعوب الأمة.

سادساً: لقد أصبحت العلاقات الدولية المعاصرة تركز على العامل الثقافي. وأتذكر عندما كنت سفيراً لبلادي في العاصمة النمساوية، أن العلاقات الثقافية بين الحضارة المصرية القديمة ومنصات الإبداع الفني الموسيقي هناك كانت هي القنطرة التي عبرت عليها العلاقات بين البلدين إلى ما هو أفضل. وكثيراً ما أتمنى أن تحذو دول عربية أخرى في علاقاتها الخارجية على هذا النهج.

سابعاً: رددت مراراً (مثل غيري) ضرورة تبني جامعة الدول العربية مشروعاً ثقافياً عربياً ضخماً يكون هو الطريق إلى التضامن والسبيل إلى التعاون، مع الابتعاد عن الخلافات السياسية والتباين المرحلي الطبيعي في وجهات النظر تجاه القضايا الإقليمية والدولية. ولو أن جامعة الدول العربية جنحت إلى هذا المفهوم لأعفت نفسها من انتقادات لا مبرر لها ولأوقفت حملة التحامل عليها.

ثامناً: طرحت شخصياً منذ سنوات دعوة قومية لعقد قمة عربية ثقافية أسوة بالقمم السياسية والاقتصادية. وبررت ذلك بتزايد تأثير العامل الثقافي في العلاقات الدولية. وعلى الرغم من اهتمام الأمين العام وقتها، السيد عمرو موسى، إلا أن المشروع توقف بعد مغادرته الموقع، إذ لم يتحمس خلفه لمثل ذلك الاقتراح ورأى الاكتفاء بإدراجه بنداً فرعياً في أحد مؤتمرات القمة، على الرغم من أن القمة العربية في الجزائر كانت قد وافقت عليه ودعت إلى العمل من أجله، ولكن للأسف لدينا مفهوم عربي يدعو إلى الاستخفاف بكل ما هو ثقافي واعتباره ترفاً لا مبرر له!

تاسعاً: في ظل الظروف الإقليمية ووجود قوى ثلاث غير عربية في المحيط الشرق الأوسطي (وأعني بها إسرائيل وتركيا وإيران) يستوجب الأمر اهتماماً متزايداً بالمشروع الثقافي العربي، لضمان الرابطة القوية التي لا تنفصم عراها، إذ إن وراءها تاريخ طويل في مجالات الفكر والأدب والفن. لذلك، فإنها لا تتراجع ولا تسقط، بل هي قادرة على حماية ذاتها والتأثير في مجتمعاتها بشكل إيجابي. فالنكتة المصرية يفهمها العراقي ويرددها المغربي ويتجاوب معها الجميع. وذلك مثال بسيط للوحدة الثقافية عربياً في المجالات كلها.

عاشراً: إذا لم نكن قادرين على التوحد سياسياً، وإذا كنا نواجه ضغوطاً أجنبية ومخططات خارجية، فالأولى بنا أن نتجه بقوة نحو الملاذ الثقافي الذي لا يخذل أحداً، بل يلقى قبولاً عاماً لدى الأطراف كلها وفي الأزمنة والعصور كلها. فالأمة العربية لم تجد لها سياجاً تاريخياً أقوى من الرابطة الثقافية.

تلك هي رؤية عصرية للمحور الثقافي في حياة العرب الذي يمثل العروة الوثقى التي لا انفصام لها.

نقلا عن اندبندنت عربية