أعلن “فولكر بريتس”، رئيس البعثة الأممية في السودان “يونيتامس”، في 8 يناير 2022، عن مبادرة تتضمن إطلاق مشاورات سياسية أولية بين الأطراف السودانية بما في ذلك الحركات المسلحة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني والجماعات النسوية ولجان المقاومة، وذلك تحت إشراف الأمم المتحدة وبالتشاور والتنسيق مع الشركاء السودانيين والدوليين، وتهدف هذه المبادرة بشكل رئيسي إلى تقديم الدعم اللازم لمساعدة الأطراف السودانية على التوصل لتسوية بغرض إخراج البلاد من أزمتها السياسية الراهنة، ومن ثم الاتفاق على مسار مستدام نحو الديمقراطية والسلام، ومن المقرر أن يعقد “بريتس” مؤتمراً صحفياً في 10 يناير الجاري لتحديد الموعد الرسمي لإطلاق هذه المشاورات.
غياب الاستقرار
جاء طرح هذه المبادرة في وقت يشهد فيه السودان عدداً من المتغيرات السياسية الهامة، من أبرزها ما يلي:
1- استقالة رئيس الوزراء “عبد الله حمدوك” من منصبه وما ترتب على ذلك من تداعيات على الأوضاع السياسية غير المستقرة في البلاد، حيث أعادت استقالته الأمور إلى المربع صفر، حيث زادت من تعقيد الأزمة في ظل غياب التوافق بين المكونين المدني والعسكري وضعف دور الأحزاب والقوى السياسية السودانية.
2- تصاعد حدة الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية التي تنظمها قوى الحرية والتغيير واللجان الثورية الشعبية الرافضة للانقلاب العسكري على السلطة المدنية، والمطالبة بتنحي المكون العسكري عن السلطة الانتقالية وعودة القوات المسلحة السودانية إلى ثكناتها وإجراء انتخابات مبكرة لتشكيل حكومة جديدة، وزاد الأمر تعقيداً استخدام السلطات الأمنية القوة المفرطة لقمع هذه الاحتجاجات مما زاد من حدة الانتقادات الدولية لذلك بسبب مقتل عشرات المتظاهرين السلميين.
3- تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بسبب استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي في السودان، وظهر ذلك في إعلان عدد من الدول ومنها البحرين عن مخاوفها من ضخ الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ورهان ذلك بتوافر الظروف السياسية والأمنية الملائمة لذلك، هذا إلى جانب تراجع المساعدات الاقتصادية الدولية منذ الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر الماضي، الأمر الذي يزيد من عدم الاستقرار داخل المجتمع السوداني.
فقد أثار طرح المبادرة الأممية الساعية لإطلاق حوار وطني شامل بين كافة الأطراف والفاعلين داخل المجتمع السوداني، بغرض تسوية الأزمة السياسية الراهنة، ردود أفعال متباينة على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية، ففي حين اتسمت مواقف بعض الأطراف السودانية برفض المبادرة، إلا أن القوى الإقليمية والدولية أيدتها.
رفض الحراك
استند إلى جملة من الاعتبارات على النحو التالي:
1- رفع اللاءات الثلاث: عقب إعلان الأمم المتحدة عن مبادرتها لإطلاق مشاورات سياسية بين الأطراف السودانية المختلفة، أصدر “تجمع المهنيين السودانيين” بياناً أعرب فيه عن رفضه لهذه المبادرة، ورفض المشاركة في أي حوار مع المكون العسكري، وذلك انطلاقاً من أن الدعوة الأممية لدعم التحول الديمقراطي في السودان تتناقض مع ما تدعو إليه المظاهرات والاحتجاجات الشعبية التي ترفع شعارات “اللاءات الثلاث” (لا للشرعية – لا للتفاوض – لا للشراكة)، وأن هذه المبادرة على هذا الأساس ليس لها علاقة بحل الأزمة السياسية الراهنة، فإذا وافقت قوى الحراك الثوري على الحوار مع المكون العسكري فإن ذلك سيعني الاعتراف بشرعية بقائهم على رأس السلطة وقبولاً بمشاركتهم القوى المدنية للسلطة، وبالتالي فإن هذه المبادرة تؤيد انقلاب المكون العسكري على السلطة وتشرعن بقاءهم في السلطة على هذا النحو، في حين ترفض القوى الثورية مشاركة الجيش في الحياة السياسية ومن ثم رفض الحوار معهم.
2- مناهضة الانقلاب وتأسيس دولة مدنية: جاء موقف قوى الحرية والتغيير أكثر ميلاً لرفض المبادرة الأممية، رغم محاولتها صياغة بيان متوازن، حيث أشارت في البيان الصادر عن المكتب التنفيذي لها إلى تأييدها لأي جهد دولي يساعد في تحقيق مطالب وتطلعات الشعب السوداني في مناهضة الانقلاب وتأسيس دولة مدنية ديمقراطية، وهو ما يشير إلى تمسك قوى الحرية والتغيير برفض مشاركة المكون العسكري في السلطة، ورفضها الحوار مع المكون العسكري الذي قام بالانقلاب على السلطة في أكتوبر الماضي.
3- تحقيق مطالب الشعب السوداني: عبر حزب الأمة القومي عن تأييده للمبادرات التي تطلقها المؤسسات الدولية لحل الأزمة السياسية الراهنة، لكن الحزب اشترط أن تدفع هذه المبادرات نحو تحقق تطلعات الشعب السوداني وتحقق مطالبه المشروعة في إقامة نظام سياسي ديمقراطي، وأكد الحزب أن هذا هو الهدف من أية مبادرة، وهو حماية تجربة الحكم الانتقالي المدني، وشدد الحزب على رفضه أي محاولة تتخطى مطالب الشعب السوداني، وخاصةً فيما يتعلق بمحاولات لفرض الأمر الواقع، ومن ذلك تسمية رئيس وزراء جديد لا يحظى بتوافق بين كافة الأطراف السودانية، خاصة وأن ذلك سوف يؤدي إلى زيادة تعقيد الأزمة وليس حلها، وأن المطلوب حالياً هو الوصول لحكم مدني ديمقراطي. وتنبع أهمية تصريحات حزب الأمة من كونه أكبر الأحزاب السياسية الفاعلة في المشهد السياسي السوداني، ومن شأن تصريحات أمينه العام “الواثق البرير” الداعمة للمبادرة الأممية مساعدتها في تحقيق أهدافها.
4- التدخل الأممي أمر واجب: وفيما يتعلق بموقف بعض الجماعات المسلحة، فقد أعلنت الجبهة الثورية برئاسة “الهادي إدريس” ترحيبها بالمبادرة الأممية، نظراً لأنها تدعو إلى حوار وطني بين كافة الأطراف السودانية تحت رعاية الأمم المتحدة، على أمل أن يؤدي ذلك إلى تسوية سياسية شاملة للأزمة الحالية، خاصة وأن الأزمة الراهنة تستوجب تدخلاً أممياً، ويمكن تفسير هذا التأييد نظراً لأن المبادرة تدعو بشكل واضح إلى إجراء حوار وطني بين كافة الأطراف السودانية بما فيها الجماعات المسلحة التي ترغب في المشاركة بالسلطة.
تأييد خارجي
على عكس مواقف بعض الأطراف السودانية الرافضة للمبادرة الأممية، اتخذت القوى الإقليمية والدولية مواقف اتسمت في معظمها بتأييد الجهود التي تقوم بها الأمم المتحدة، وذلك بهدف تسوية الأزمة السياسية في السودان وتحقيق الاستقرار، ومن ذلك ما يلي:
1- إصدار البيان الرباعي: وعقب إطلاق الأمم المتحدة لمبادرتها بشأن إطلاق المشاورات بين الأطراف السودانية، أصدرت كل من السعودية والإمارات وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، بياناً مشتركاً في 8 يناير الجاري، أكدوا فيه دعمهم لجهود الأمم المتحدة في السودان. وأكدت السعودية دعمها لكل ما يُحقق “أمن وسلام ووحدة واستقرار وازدهار ونماء جمهورية السودان الشقيقة”.
2- تأييد مصري: ومن جانبها أصدرت مصر بياناً أكدت فيه تأييدها للتحرك الأممي الحالي الداعم لتحقيق الاستقرار في السودان، فمن مصلحة مصر الحفاظ على الاستقرار السياسي والأمني داخل السودان باعتبارها منطقة نفوذ استراتيجية لمصر، وهو ما يظهر في التأكيد المصري على أن الأمن القومي السوداني جزء لا يتجزأ من أمنها القومي، ولذلك تؤكد القاهرة دوماً على أهمية تشكيل حكومة توافقية في أقرب وقت ممكن لتحقيق ذلك الأمر.
3- دعم الحوار السوداني: إذ أصدرت جامعة الدول العربية بياناً رحبت فيه بإعلان الأمم المتحدة عن هذه المبادرة؛ حيث رأت الجامعة العربية أن هذه المبادرة من شأنها العمل على تسهيل وتيسير الحوار بين الأطراف السودانية ومن ثم طرح حلول فاعلة للأزمة السياسية الراهنة والتغلب على الصعوبات التي تعترض تحقيق الاستقرار السياسي المنشود.
فرص محتملة
وبناء على ما سبق، فإنه يمكن القول إن هناك بعض الفرص المتاحة التي يمكن البناء عليها ونجاح المبادرة الأممية المطروحة في تحقيق أهدافها، ومن ذلك ما يلي:
1- مشاركة كافة الفاعلين السودانيين، فبالنظر إلى مضمون المبادرة، نجد أنها تراعي مسألة مشاركة كافة الأطراف داخل السودان بما فيهم الجماعات المسلحة ومنظمات المجتمع المدني والنساء والأحزاب السياسية ولجان المقاومة، ويرجع ذلك إلى إدراك البعثة الأممية في السودان “يونيتامس” أهمية مشاركة كافة الفاعلين في الحياة السياسية السودانية، وأنه بدون إيجاد أرضية مشتركة بينهم بشكل يؤدي إلى حدوث توافق سياسي، فلن تنجح هذه المبادرة في تحقيق ما تدعو إليه.
2- الدعم الإقليمي والدولي للمبادرة، حيث يمثل هذا الدعم قوة دافعة للمبادرة في التنسيق مع كافة الفاعلين داخل المجتمع السوداني، ومحاولة إقناعهم وحثهم على قبول ما تدعو إليه هذه المبادرة من إجراء حوار وطني بين كافة الشركاء السودانيين، بغرض التوصل إلى تسوية سياسية في نهاية الأمر. ومن المؤشرات الدالة على رغبة المجتمع الدولي في تسوية هذه الأزمة إعلان واشنطن تعيين “ديفيد ساترفيلد” (سفيرها السابق في تركيا) مبعوثاً أمريكياً خاصاً للسودان خلفاً للمبعوث السابق “جيفري فيلتمان”، بغرض حل الأزمة السودانية.
3- الوساطات الإقليمية والدولية، ومن الفرص المتاحة لنجاح هذه المبادرة هو تزامنها مع بعض الوساطات الخارجية التي تهدف إلى تسوية الأزمة في السودان، وعلى رأسها وساطة دولة جنوب السودان التي يقودها مبعوث رئيس دولة جنوب السودان ومستشاره الأمني “توت قلواك” الذي يجري مباحثات ولقاءات مع كافة الأطراف السودانية منذ فترة بغرض تقريب وجهات النظر، وهو ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية للإعلان عن استعدادها للعب دور الوسيط بين الأطراف السودانية، حيث جاء ذلك في التصريحات الأخيرة لمساعدة وزير الخارجية الأمريكية لشؤون إفريقيا “مولي في” والتي أعلنت خلالها عن جاهزية بلادها للدخول كوسيط بين الأطراف السودانية، الأمر الذي يُعطي نوعاً من الشرعية الدولية للمبادرة الأممية لإنجاحها.
عقبات قائمة
ورغم وجود فرص لنجاح المبادرة الأممية في تحقيق أهدافها وإجراء حوار وطني يفضي في نهاية الأمر لتسوية شاملة للأزمة السياسية الراهنة في السودان، إلا أن هناك بعض العقبات التي قد تحد من فرص نجاح هذه المبادرة، ومن أبرزها ما يلي:
1- غياب التوافق السياسي المطلوب بين المكونين المدني والعكسري حتى الأن، وهو أمر ضروري لنجاح أية مبادرات يتم طرحها لحل الأزمة السياسية الحالية، ولعل غياب هذا التوافق كان دافعاً رئيسياً لتقديم رئيس الوزراء “عبدالله حمدوك” استقالته من منصبه، رغم توافر الدعم الإقليمي والدولي له، إلا أن إدراكه صعوبةَ تحقيق هذا التوافق بين الفاعلين الرئيسيين داخل السودان دفعه للاستقالة، كما سيظل تمسك المكون العسكري ببقائه في السلطة وعدم تسليمه السلطة للمدنيين، من أبرز العقبات التي تقف في طريق انتقال السلطة بشكل سلس داخل السودان.
2- انقسام موقف الأحزاب والقوى السياسية ما بين مؤيد ومعارض لهذه المبادرة، وخاصة فيما يتعلق بموقف تجمع المهنيين السودانيين الذي يمثل قوى الحراك الشعبي وينظم ويحشد للمظاهرات والاحتجاجات الشعبية الرافضة للحوار مع المكون العسكري وتطالبه بترك السلطة الانتقالية بشكل كامل للقوى السياسية المدنية، هذا إلى جانب انقسام توجهات وآراء الأحزاب السياسية في ظل حالة الانشقاقات الحزبية، وتعدد التحالفات السياسية التي ظهرت على الساحة السياسية السودانية خلال الفترة الأخيرة، وكان من أبرزها تحالف قوى الحراك الوطني المؤيد للمكون العسكري.
3- عدم قدرة الوساطات الإقليمية وعلى رأسها وساطة دولة جنوب السودان -حتى الآن- في تقريب وجهات النظر بين الأطراف السياسية السودانية، وخاصة المكونين المدني والعسكري، في ظلّ تمسك كل طرف بشروطه وعدم استعداد أي منهما لتقديم تنازلات وإعلاء المصلحة الوطنية للبلاد، بشكل أدى في نهاية الأمر إلى مزيد من تعقيد الأوضاع السياسية وإطالة أمد الأزمة الحالية.
4- عدم جدية الضغوط الأمريكية والدولية في فرض عقوبات على معرقلي التسوية السياسية في السودان، فرغم التحذيرات والتهديدات التي أطلقتها واشنطن بشأن فرض عقوبات على الأشخاص والجهات السودانية التي يثبت تورطها في عرقلة تجربة الحكم الانتقالي، إلا أنها لم تقم بفرض أي منها حتى الآن، وهو ما جعل بعض الجهات السودانية وعلى رأسها المكون العسكري تتمادى في استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين الرافضين لبقائه على رأس السلطة.
فرص محدودة
خلاصة القول، تُرجِّح المعطيات الراهنة محدودية فرص المبادرة الأممية في تسوية الأزمة السياسية الراهنة على المدى القريب، ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى غياب التوافق السياسي وتباين وجهات النظر بين الأطراف السودانية المتعددة ولا سيما بين المكونين المدني والعسكري، وسيبقى نجاح أي مبادرة أو دور وساطة لحل هذه الأزمة مرهوناً بمدى قبول هذه الأطراف واستعدادها لحلها، وذلك رغم الدعم الإقليمي والدولي غير المسبوق الذي يحظى به السودان حالياً.