يثير تصاعد حدة الأزمة في كازاخستان، عقب الاحتجاجات التي اندلعت في 2 يناير الجاري بسبب رفع أسعار غاز البترول المسال وما تلاها من استدعاء الرئيس الكازاخي للمساعدة العسكرية الخارجية من دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي، تساؤلات رئيسية حول تأثيرات الأزمة على ديناميات التفاعل الروسي- التركي في منطقة الشرق الأوسط. فخلال السنوات الماضية، باتت العلاقات التركية- الروسية أكثر تعقيداً وتتسم بدرجة عالية من التنافس في ظل تقاطع، وكذلك تصادم، مصالح الدولتين في أكثر من ملف في المنطقة، ولاسيما الملفين السوري والليبي. صحيح أن ثمة تفاهمات حدثت بين الدولتين في هذا الصدد، إلا أن هذه التفاهمات لم تنف الصراع المكتوم، إن جاز التعبير، بينهما، فضلاً عن ارتباط ذلك بصراع آخر في مناطق تحظى بأهمية خاصة من جانبهما مثل منطقة القوقاز، بدءاً من الخلاف الحاد بين الدولتين عقب التدخل العسكري التركي في الصراع بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناغورني كاراباخ عام 2020، وصولاً إلى التنافس بين الدولتين على النفوذ في منطقة آسيا الوسطى، والتي تشكل كازاخستان جزءاً منها.
مواقف متباينة
أظهرت الأزمة المتصاعدة في كازاخستان رد فعل روسياً استباقياً. ففي 6 يناير الجاري، أعلنت روسيا إرسال كتيبة من قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي بالتعاون مع الدول الأخرى بالمنظمة، وذلك بهدف استعادة الاستقرار داخل كازاخستان، وهو التدخل الذي جاء أيضاً بناءً على طلب الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف الذي أعلن أنه “طلب المساعدة من قادة الدول الأعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي بسبب الوضع الحالي في البلاد ولإعادة النظام في بلاده في إطار الاتفاقية بين الدول الأعضاء”.
وقد أعاد التدخل العسكري الروسي في كازاخستان إلى الواجهة مجدداً فكرة المجال الحيوي الروسي، إذ تنظر موسكو إلى كازاخستان بوصفها جزءاً من الإرث التاريخي للاتحاد السوفيتي والذي لا يمكن قبول أى فوضى فيه تؤثر على المصالح الروسية، أو تسمح بتدخل أطراف خارجية على غرار تركيا التي أبدت موقفاً حذراً تجاه الأحداث، حيث اكتفت بإصدار بيانات تطالب بالتهدئة، فعلى سبيل المثال، أصدرت الرئاسة التركية، في 6 يناير الجاري، بياناً قالت فيه أن الرئيس التركي أجرى اتصالاً هاتفياً مع الرئيس الكازاخستاني، أعرب خلاله عن أمله في أن يتم تشكيل حكومة جديدة في أقرب وقت ممكن وأن ينتهي التوتر في وقت قصير، وأن يتغلب شعب كازاخستان على المشاكل في إطار الثقة والحوار المتبادلين.
حدود التأثير
بقدر ما تُضفي أزمة كازاخستان المزيد من التشابكات على ديناميات التفاعل الروسي – التركي في منطقة الشرق الأوسط وقضاياها، فإنه من المرجح ألا تؤدي الأزمة إلى تقويض تفاهمات الضرورة بين الدولتين، وذلك بالتوازي مع التنافس على النفوذ، في قضايا الشرق الأوسط، وتجنب اللجوء إلى سيناريو الصراع المفتوح لتكلفته المرتفعة بالنسبة لهما. ويرتبط هذا الطرح بعدد من العوامل الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1- الرد الروسي عبر التدخل العسكري: جاء التدخل العسكري الروسي السريع في كازاخستان ليؤكد على النفوذ الروسي في آسيا الوسطى، والجمهوريات السوفيتية السابقة، بالرغم من محاولات تركيا التكريس لدورها في المنطقة خلال السنوات الماضية عبر عدد من الأدوات الاقتصادية والثقافية والسياسية، حتى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن، خلال اجتماعات القمة الثامنة للمجلس التركي التي عقدت في 12 نوفمبر الماضي بمدينة اسطنبول، عن تحويل المجلس التركي إلى منظمة الدول التركية بهدف تعزيز الدور التركي في منطقة آسيا الوسطى وتطوير صيغ العلاقات معها.
وفي هذا الإطار، يحتمل أن يؤدي هذا التدخل السريع من موسكو في كازاخستان إلى الحفاظ على معادلة التوازن القائمة بين أنقرة وموسكو في قضايا الشرق الأوسط، لأن الموقف التركي الأوَّلي الحذِر من الأزمة يكشف، في جانب منه، عن تلاقي المصالح مع موسكو في الحفاظ على الاستقرار داخل كازاخستان، ويدلل أيضاً عن تجنب تركيا الدخول في صراع جديد مع روسيا، وخصوصاً أن الآونة الأخيرة شهدت توترات بينهما في بعض الملفات مثل الملف الأوكراني عقب انتقاد موسكو توريد أنقرة طائرات مُسيَّرة لأوكرانيا.
2- تصاعد الأزمة الداخلية التركية: وهو متغير هام يحول دون حدوث تصعيد حالي بين تركيا وروسيا في منطقة الشرق الأوسط وغيرها من مناطق التماس بين الدولتين. إذ واجهت أنقرة في السنوات الأخيرة خطر التوسع المُفرِط نتيجة لانخراطها عسكرياً ودبلوماسياً في العديد من الأزمات في وقت واحد. وكان لهذه السياسات ارتدادات كبيرة على الداخل التركي، وخصوصاً على المستوى الاقتصادي، إذ تعرضت تركيا لأزمة اقتصادية حادة في الآونة الأخيرة، تجلت ملامحها في تراجع سعر صرف الليرة مقابل الدولار خلال العام الجاري. علاوة على ذلك، فقد ارتفعت مؤشرات التضخم، فضلاً عن مؤشرات تراجع ثقة المواطنين في الاقتصاد. ولعل هذا ما يكشف عنه مؤشر ثقة المستهلك، الذي ينشر شهرياً من قبل معهد الإحصاء التركي، حيث انخفض المؤشر بمقدار 7.3 نقطة في نوفمبر الماضي مقارنة بالشهر السابق، وهو المعدل الأسوأ منذ عام 2004. وقد أضفت هذه الأوضاع المتردية مزيداً من الزخم على الخطاب المعارض للنظام التركي، وهو أمر قد يكون له انعكاسات سلبية على فرص حزب العدالة والتنمية الحاكم والرئيس أردوغان في الانتخابات المزمع إجراءها في عام 2023.
3- ضغوط المصالح الاقتصادية المشتركة: بالرغم من صراع النفوذ والتنافس القائم بين موسكو وأنقرة، فقد ظل الجانب الاقتصادي محدداً هاماً لتخفيف حدة التوترات بينهما، ولذا ليس من المرجح أن تتراجع حالة الهدوء الراهن بين الدولتين، بالرغم من التنافس البنيوي، في ملفات الشرق الأوسط. لكن الأمر الملفت هنا أنه حتى مع صراع النفوذ بين الدولتين ظل البعد الاقتصادي حاضراً في العلاقات بينهما. فعلى سبيل المثال، تعد روسيا واحدة من أكبر مزودي الغاز الطبيعي لتركيا، كما سعت الدولتان، في السنوات الماضية، إلى تطوير مشروعات مشتركة في مجال الطاقة، على غرار مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي “ترك ستريم”، والذي تم تدشينه، في 8 يناير 2020، بهدف نقل الغاز الطبيعي الروسي إلى تركيا وأوروبا تحت مياه البحر الأسود.
كما نجحت روسيا في أن تكون شريكاً في جهود تركيا لتنويع مصادر طاقتها من خلال بناء محطة “أكويو” النووية التركية. وتمثل السياحة أيضاً مدخلاً هاماً للعلاقات الاقتصادية بين الدولتين، فخلال السنوات الماضية شكل السياح الروس نسبة كبيرة من إجمالي السياح الذين زاروا تركيا، ووفقاً لبعض التقديرات بلغ عدد السياح الروس الذين زاروا تركيا خلال عام 2019 أكثر من 7 مليون سائح.
4- إدارة العلاقات مع الدول الغربية: وظَّفت تركيا، خلال السنوات الماضية، علاقاتها مع روسيا كورقة مهمة في إدارة علاقاتها مع الدول الغربية، وذلك في ضوء توتر العلاقات بين أنقرة وعدد من الدول الأوروبية، وكذلك الولايات المتحدة. وبدا هذا الطابع البراجماتي مع إصرار تركيا على شراء منظومة الدفاع الصاروخي “إس-400” الروسية بالرغم من الانتقادات الأمريكية. كما ذكر الرئيس أردوغان بعد لقاءه مع الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين في سوتشي، في 29 سبتمبر الماضي، أن تركيا تبحث اتخاذ مزيد من الخطوات المشتركة فيما يتعلق بالصناعات الدفاعية مع روسيا في مجالات مثل محركات الطائرات والطائرات المقاتلة والغواصات.
5- الاستدارة الإقليمية في السياسة التركية: بعد سنوات من التصعيد التركي في المنطقة، أظهرت أنقرة مؤخراً مؤشرات كبيرة حول رغبتها في التهدئة مع دول رئيسية بالمنطقة، وفي هذا الإطار، أشار المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، في مقابلة مع مجلة “كريتر” التركية في 4 يناير الجاري، إلى أن “عام 2022 سيكون عام انفتاحات إقليمية جديدة وسيشهد تسارعاً في خطوات التطبيع”. وقال في هذا الصدد: “لا نترك أى يد ممدودة لنا معلقة في الهواء، ونخطو خطوتين نحو كل من يخطو خطوة ودية تجاهنا، ونحرص على تجاوز الأزمات والتوترات المرحلية، والإقدام على خطوات تطبيع جديدة”.
وتعني هذه الاستدارة النسبية في السياسة الإقليمية لتركيا، بشكل أو بآخر، أن أنقرة ستكون حريصة خلال الفترة القادمة على عدم الانجرار لمواجهة واسعة مع روسيا في الملفات المتداخلة بينهما، ففي سوريا على سبيل المثال، لن تتراجع التفاهمات المشتركة بينهما كثيراً بالرغم من تباينات المواقف بينهما. وعلى المستوى الليبي، ستظل هناك حالة من التوازن في المصالح بين موسكو وأنقرة، ومحاولة لتجنب أى تصعيد عبر حلفاءهما في الداخل الليبي، بالتوازي مع الاستعداد للانتخابات القادمة التي تمثل محوراً هاماً في التنافس على النفوذ بين الطرفين.
6- فاعلية التدخل غير المباشر: صحيح أن سيناريو الصراع المفتوح والتصعيد بين تركيا وروسيا قد يكون مستبعداً، ولكن مع ذلك، يرجح أن تستمر أنقرة في سياسات التدخل غير المباشر لدعم مصالحها ومزاحمة موسكو في مناطق النفوذ. وترتبط هذه السياسات في المقام الأول بالتطور الحادث في الصناعات العسكرية التركية، والتوسع في تصدير الطائرات المُسيَّرة للدول الأخرى، ويدلل على هذه الفرضية تصريحات الرئيس أردوغان، في 7 يناير الجاري، خلال مشاركته في فعالية أقامتها الشركة التركية لصناعات الفضاء (توساش) ومراسم افتتاح المنشأة الوطنية لإنتاج الطائرات المقاتلة في العاصمة أنقرة، التي أكد خلالها أن “تركيا أصبحت بين أول 3 دول بالعالم في إنتاج الطائرات الحربية المُسيَّرة”، كما كشف عن أن “حكومته عازمة على إخراج المقاتلة التركية الجديدة من الحظيرة عام 2023 وعرضها للعالم أجمع”.
مسارات مزدوجة
ختاماً، ليس من المرجح أن تؤدي أزمة كازاخستان إلى تصاعد حدة التوترات بين موسكو وأنقرة، وخاصة أن هناك تلاقياً في المصالح بينهما بشأن تهدئة الأوضاع هناك واستعادة الاستقرار، ومن ثم، ستظل معادلة التعاون التنافسي هى الحاكمة للعلاقة بين الطرفين في الملفات المتداخلة بما في ذلك ملفات الشرق الأوسط. فالدولتان ستحافظان على مساحات للتفاهم والتعاون البراجماتي في بعض الملفات، بالتوازي مع التنافس في ملفات أخرى.