لبنان العربي لا الفارسي – الحائط العربي
لبنان العربي لا الفارسي

لبنان العربي لا الفارسي



حينما كنا صغاراً كانت قلوبنا جميعاً تشرئِبّ صوب لبنان قِبلةِ الشرق. لبنان الذي عرفناه في ستينيات القرن الماضي، كان مركزاً للتعددية السياسية والإشعاع الفكري الحقيقي، وبؤرة للحياد الإيجابي. وفي الاقتصاد، كان لبنان نموذجاً للتحرر الاقتصادي، ومركزاً مالياً لمنطقة الشرق الأوسط.

قدّم اللبنانيون من خلال دولتهم نموذجاً غير مسبوق في عالمنا العربي للتعايش بين الأعراق والأديان، وطوّعوا الاختلاف لصناعة التفرّد، فقد كان لبنان مركزاً علمياً وقِبلةً للإعلام العربي والدولي، وللثقافة بشتى ألوانها، وكان في مقدمة مؤشرات التنمية البشرية.

وحينما سنحت لي فرصة زيارة بيروت في بداية الثمانينيات بدعوة من منظمة التحرير الفلسطينية، في أوج الحرب الأهلية التي استمرت من 1975 – 1990، وذلك لتسليط الضوء على الحراك الثقافي البيروتي الواسع، لم أجد أنني وطئتُ بلداً في حال حرب أهلية، وكنت أتجوّل في قطاعيه الغربي والشرقي من دون كثير عناء.

وخلال الزيارة، التقيت عديداً من الأعلام الثقافية والفنية، أذكر منهم الموسيقي اللبناني الكبير مارسيل خليفة، والفنان التشكيلي الفلسطيني إسماعيل شموط، ورسام الكاريكاتير العالمي ناجي العلي، والكثيرين من رموز الثقافة العربية، الذين وجدوا في بيروت ملاذاً لإبداعاتهم. وكانت بيروت على الرغم من لحظات الصراع الطائفي، تعيش مجد تجلّياتها الثقافية والفنية، فيما استمرت الخدمات العامة من دون انقطاع.

وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، قرأت مقالاً في “نيويورك تايمز” للصحافية اللبنانية لينا منصور، بعنوان: “لبنان الذي كنا نعرفه من قبل انتهى!”، يصور الحياة الحالية في بيروت، فكانت تصف مدينة في حال حرب، وانفلات أمني، وغياب الخدمات، مع عدم توافر الحد الأدنى من مظاهر الحياة، مثل الكهرباء، والمشتقات النفطية، والمواد الغذائية، والعلاج الضروري المنقذ للحياة.

وعلى الرغم من أن بلدي اليمن يعيش حالة حرب، فإن الوضع لم يصل إلى كارثية كهذه، فلم تشهد بيروت وضعاً مُزرياً حتى في سنوات الحرب الأهلية، وهي تمر اليوم بأصعب أزمة اقتصادية ضربت لبنان منذ قرابة قرن، فمتوسط دخل الفرد الشهري أقل من 50 دولاراً، فيما ارتفعت أسعار المواد الغذائية لأكثر من 500 في المئة.

ويشير التقرير إلى أن 78 في المئة من سكان لبنان يعيشون في ظروف الفقر. وتقول الكاتبة، إن جهاد اللبنانيين اليوم بات منصبّاً على توفير شروط البقاء على قيد الحياة، مثل توفير رغيف الخبز، وإن كل يوم يمر يشهد مغادرة مزيد من اللبنانيين وطنهم من دون رجعة. لكن الكاتبة لم تتطرق إلى الأسباب التي أوصلت لبنان إلى حال كهذا، وكحال كل اللبنانيين ركزت انتقاداتها على الحكومة، بينما لم تذكر “حزب الله” المتسبب الرئيس في كل المآسي التي حلّت بلبنان، لكنه يتخفّى خلف الدولة التي باتت عاجزةً عن قول ذلك.

لقد استطاع “حزب الله” الحفاظ على وضع يجعله بعيداً عن المساءلة عن أفعاله ومآلاتها، وفي الوقت ذاته يمارس الفيتو على أي شيء تفعله الحكومة، فهو يتمتع بالقوة، لفرض شروطه من دون أن يتحمل المسؤولية عن التداعيات المترتبة عنها.

حينما زُرتُ لبنان في عام 1982، لفت انتباهي بداية انتشار نواة فيلق القدس في بيروت الغربية بمنطقة ليست بعيدة عن قيادة “القوة 17” الخاصة بحماية مقر الرئيس عرفات، وحينما سألت مرافقينا الفلسطينيين أكدوا لي زيادة ملحوظة في وجود الإيرانيين بالتعاون مع حركة “أمل” و”حزب الله” الذي بدأ بالظهور تحت رعاية منظمة التحرير الفلسطينية كمكون لبناني للمقاومة، وترعرع تحت عباءتها.

كان الإيرانيون يسعون إلى حماية وليدهم “حزب الله” الذي سينمو خلال السنوات المقبلة، ليمتص أحشاء الدولة اللبنانية، ويتغذى من شرايينها، حتى بات اليوم غولاً يصعب انتزاعه، لأنه تمكن من اختراق السيادة، وتدمير النسيج الاجتماعي اللبناني الموحد، واختطاف الدولة اللبنانية، واستطاع أن يُسخّر كل مواردها لصالح شراء الولاءات، وتفتيت النخب السياسية التي كان يفترض بها أن تكون الحامية للسيادة اللبنانية، التي باتت في حكم المتواطئ مع المصالح الإيرانية فوق المصالح السيادية اللبنانية. واليوم، يغامر بما تبقّى من سيادة لبنان، وهو ينفّذ أجندة إيران التوسعية في اليمن والعراق وسوريا.

ويُجاهر “حزب الله” بتبعيته لإيران، وبأنه جزء من منظومتها العسكرية، حيث يحصل على تمويلاته المباشرة من طهران بواقع مليار دولار سنوياً، إضافة إلى ما يحصل عليه من طهران نظير تدخلاته في البلدان العربية، والتحويلات المالية من الشتات الشيعي في العالم، والموارد التي يحصل عليها من اقتصاده الخاص الموازي للاقتصاد اللبناني، من خلال شركات مثل “جهاد البناء”، وشركة “وعد”، وتجارة تهريب المخدرات داخل لبنان، وعبر العالم. ومن هنا، فإنه يستخدم مطار وميناء بيروت لأغراض تهريب الأسلحة والمخدرات، فيما يستخدم المنظومة المصرفية اللبنانية في عمليات غسل الأموال.

وبالنسبة إلى تورّطه في اليمن، فهناك تقارير حول تمدّد عمليات ومصالح “حزب الله” إلى اليمن عبر ميناء الحديدة، وبالتعاون مع الوكلاء المحليين في مناطق سيطرة الميليشيات الحوثية، بما في ذلك زيادة عمليات تهريب المخدرات إلى الداخل اليمني، أو عبر اليمن إلى دول أخرى.

“حزب الله” الذي بدأ مقاوماً، وتعفّف عن الانخراط في السياسة اللبنانية منذ البداية، كان نموذجاً للسياسة الإيرانية التي تُعلن غير ما تُبطن وتمارس “التقية السياسية”، فهي تقول بحرمة السلاح النووي، بينما تسارع في الباطن في سباق محموم للوصول إليه. وبعد أن تمكن الحزب من فرض هيبته على الساحة الشيعية، وسيطر على قرار حركة “أمل”، دخل البرلمان في عام 2000، ودخل الحكومات المتعاقبة منذ 2005، وبدأ يمارس العنف ضد خصومه في الداخل اللبناني، وتسبب في شلل الدولة اللبنانية، ورفع السلاح في وجه معارضي هيمنته على السلطة في مايو 2008، ووصل به الحال إلى اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وعديد من الرموز السياسية والإعلامية اللبنانية الحرة، وصولاً إلى التسبب في كارثة تفجير مرفأ بيروت في أغسطس (آب) 2020، وتهديد زعيمه حسن نصرالله العلني لقاضي التحقيق طارق البيطار، واتهامه إياه بـ”تسييس التحقيق”.

ومع الوقت، ازدادت النبرة الاستعلائية للحزب تجاه الدولة اللبنانية، مستغلاً نفوذه، وتحالفاته مع القوى الأخرى، مثل التيار الوطني الحر، الذي فقد كثيراً من شعبيته في الساحة المسيحية لتورطه مع “حزب الله”، وما أحدثه من شق في الصف المسيحي الوطني اللبناني. وكانت أكثر تصريحات حسن نصرالله عنفاً تلك التي تستقوي بالسلاح لترهيب مواطنيه، عندما قال عقب اشتباكات الطيونة، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إن لحزبه مئة ألف مقاتل جاهزين للنزول إلى الشارع، في إشارة إلى أن لديه جيشاً يفوق جيش الدولة!

وليس مستغرباً ما يصرح به عديد من السياسيين اللبنانيين المحسوبين على تحالفات “حزب الله” في جلساتهم المغلقة، التي تعكس حال تذمر عام، مثل تصريحات وزير الخارجية السابق الذي تمنى قيام أميركا بتخليص لبنان من “حزب الله”، وهو سيتحمل تكاليف “الشمبانيا” للاحتفال.

ومن خلال متابعاتي لتناولات كتاب الرأي في لبنان الناقدة “حزب الله”، باعتباره وكيلا ًللحرس الثوري الإيراني في المنطقة العربية، لاحظت أن جُلّها يركز على تدخل “حزب الله” في الحرب السورية، ولم تفرد مساحات كافية للتحقيق، ولكشف حجم تدخل الحزب في حرب اليمن عبر إرسال العشرات من الخبراء العسكريين وخبراء الصواريخ والطائرات المسيّرة، لتمكين الحوثيين في حربهم ضد الشعب اليمني، التي تبلغ عامها الثامن خلال الشهر المقبل، والاعتداءات المستمرة على الأعيان المدنية في السعودية، واستهداف ممرات الملاحة الدولية جنوب البحر الأحمر، إضافة إلى قيادة العمليات الحوثية والتدريب والتخطيط والتحريض، يوجد كثير من العناصر الحوثية في دورات تدريبية في قواعد الحزب في بيروت وجنوب لبنان والبقاع، كما يمول الحزب ومؤسسة القنوات الإسلامية، وهي مؤسسة إيرانية تنشط في بيروت قنوات “المسيرة” الحوثية الرسمية، و”الساحات”، و”نبأ”، وموقع “العربي”، وكلها تعمل لصالح المشروع الحوثي وللتحريض وبث الخطاب العدائي ضد الدولة اليمنية والتحالف العربي بقيادة السعودية.

وكانت الحكومة اليمنية قد توجهت في يوليو (تموز) 2018 برسالة إلى الحكومة اللبنانية، تشجب وتدين فيها قيام عناصر “حزب الله” بالمشاركة إلى جانب الحوثيين في الحرب ضد الشرعية اليمنية، مؤكدة اعتراف حسن نصرالله بوجود مقاتلي حزبه في اليمن، بما يشكل إضراراً بمصالح اليمن العليا وأمنها القومي، وطالبت الحكومة اليمنية نظيرتها اللبنانية باتخاذ ما يلزم لوقف هذا السلوك العدواني لـ”حزب الله”، تماشياً مع سياسة النأي بالنفس، التي تعتمدها الحكومة اللبنانية. وأكدت رسالة الحكومة اليمنية الاحتفاظ بحق رفع القضية إلى مجلس الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ومجلس الأمن.

وكان رد وزير الخارجية اللبنانية حينها، جبران باسيل، حليف “حزب الله” الرئيس، إقراراً ضمنياً بما يقوم به الحزب في اليمن، حينما قال إن موقف حكومته لا يتطابق بالضرورة مع موقف جميع القوى السياسية في لبنان، وإن بلاده تنأى عن النزاعات والحروب، ولا تقبل التدخل في الشؤون الداخلية للدول بما يتوافق مع مصلحة لبنان.

جاء الصوت العربي اللبناني المتضامن مع الشعب اليمني وحكومته الشرعية والصريح في شجبه لتدخل “حزب الله” في اليمن، عبر تصريحات صدرت عن قوى “14 آذار” والمكونة من القوى السنية والشيعية، التي لا تتفق مع سياسة “حزب الله” الإيرانية، والقوى الدرزية والمسيحية المارونية والأرثوذكسية.

وجاء رد وزير الداخلية حينها، نهاد المشنوق، ليؤكد صحة اتهامات الحكومة اليمنية لـ”حزب الله”، وإنه لم يعد يصح لـ”حزب الله” أن يكون جزءاً منفذاً للسياسة الإيرانية في المنطقة، بما يؤكد أن قوى المشروع العربي في لبنان حاضرة في مواجهة المشروع التوسعي الإيراني. كما بعث ممثلو قوى “14 آذار” برسائل التضامن مع الشعب اليمني، الذي يتعرض لاعتداء مباشر من فصيل سياسي أساسي في المعادلة السياسية اللبنانية دون تفويض من المؤسسات السيادية، ليطعن في الصميم سياسة الحياد والنأي بالنفس التي يكثر الحديث عنها في لبنان.

إن إصرار “حزب الله” على نزع لبنان من محيطه العربي، وإلحاقه بالمحيط الفارسي، وإصرار حسن نصرالله على مهاجمة السعودية، باعتبارها المدافع عن عروبة لبنان وسيادته ضد التوسع الإيراني، تشكل الأرضية التي تجمع عليها اليوم القاعدة العريضة من أبناء لبنان ونخبها السياسية من أجل التغيير. ففي تغريدات خلال الأسبوع الماضي، أكد زعيم تيار المستقبل، سعد الحريري، “أن التاريخ لن يرحم (حزب الله)، لأنه يبيع عروبته واستقرار وطنه ومصالح أهله لقاء حفنة من الشراكة في حروب إيران. فالسعودية ودول الخليج احتضنت اللبنانيين، ووفرت لهم فرص العمل ومقومات العيش الكريم. ومن يهدد اللبنانيين في معيشتهم واستقرارهم وتقدمهم هو الذي يريد دولة لبنان رهينة لدولة إيران وامتداداتها في سوريا والعراق واليمن”.

كما أن الموقف العظيم، الذي سجله غبطة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، حينما أسقط قناع المقاومة الذي يستخدمه “حزب الله” وتلميحاته الدائمة للهرب من مشاكله الداخلية مع الشارع اللبناني بإعلانات حروب مع إسرائيل، قائلاً إن “اللبنانيين اليوم لديهم أولويات أخرى تتعلق بمعيشتهم ومشاكلهم اليومية، ولا يريدون الدخول في حرب مع إسرائيل”، مذكراً بأن بلاده وقّعت على “اتفاق هدنة رسمي مع إسرائيل منذ عام 1949″، وداعياً الجيش اللبناني إلى “منع (حزب الله) من إطلاق صواريخ من جنوب لبنان”، وفاتحاً بذلك حواراً حساساً في البلاد حول “سلاح الحزب وكيف خوّل نفسه لكي يقرر الحرب والسلم مع إسرائيل”.

ومن بين الأفكار المهمة التي أطلقها غبطة البطريرك، أخيراً، كانت فكرة تدويل القضية اللبنانية بعد فشل القوى السياسية في التعامل مع “حزب الله”، من خلال الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي تحت إشراف الأمم المتحدة لمناقشة قضايا تتصل بوحدة الكيان اللبناني، والمحافظة على الحياد، ووضع حد لسلاح “حزب الله”، مضيفاً أن السكوت الدولي عمّا يجري في لبنان يشكل تواطؤاً مع إيران وحزبها في لبنان.

ومنذ إنشاء “حزب الله” في عام 1982، تعاملت جميع القوى السياسية اللبنانية مع الحزب، باعتباره حركة مقاومة، وليس حزباً لبنانياً وطنياً، وجرى استثناء الحزب من “اتفاق الطائف” 1989، الذي ألزم جميع الميليشيات الطائفية اللبنانية بنزع سلاحها لصالح وجود جيش لبناني موحد وقوي. وهذا هو المدخل لتحوّل “حزب الله” إلى حزب سياسي لبناني غير ميليشياوي، أو حظره من الحياة السياسية اللبنانية ما لم يقبل بنزع سلاحه، وهو السبيل لوضع حد لتغوّله في المشهد السياسي اللبناني، وتدخله السافر في حروب إيران باليمن وسوريا والعراق، مع تأكيدي أن المراهنة على توقف “حزب الله” عن ممارسة دور الوكيل العربي لمشاريع إيران التوسعية تظل ضرباً من الخيال.

فهل سيكون بمقدور المجتمع السياسي اللبناني وضمير لبنان الحي وقواه السياسية العربية القيام بهذه المهمة لإنقاذ لبنان وبقية الدول العربية من شرور هذا الحزب قبل موعد الاستحقاقات الانتخابية البرلمانية في ربيع العام الحالي والرئاسية في الخريف المقبل، وإنقاذ لبنان قبل أن تجري إعادة تدوير الوضع السياسي الحالي ومنظومة “حزب الله” التي أفقرت لبنان، وتكاد تفسد هويته العربية. وسيبقى لبنان زُخراً للمشروع العربي الحداثي، وسيفشل حتماً مشروع الإلحاقية الخمينية.

نقلا عن اندبندنت عربية