أعادت زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى تونس، في 15 و16 ديسمبر الجاري، التأكيد على أهمية العلاقات بين الدولتين، إذ استدعت عدداً من الدلالات الرئيسية، لاسيما أنها جاءت بالتزامن مع تصاعد حدة التوتر بين الجزائر والمغرب، وبالتالي رغبة الجزائر في الحفاظ على تحالفات مستقرة في المنطقة يمكن الاستناد إليها في إدارة علاقاتها المتوترة مع الرباط، فضلاً عن اهتمام الجزائر وتونس المشترك بما يجري في ليبيا، وهو الأمر الذي يتطلب التنسيق والتعاون بينهما، إلى جانب الأبعاد الاقتصادية المرتبطة بالتقارب بين الدولتين، والمصالح السياسية التي يمكن أن يحققها الرئيس التونسي قيس سعيّد في خضم الأزمة السياسية الداخلية.
تواصل مُكثَّف
تكشف مؤشرات عديدة عن تزايد اهتمام الجزائر وتونس بتعزيز علاقاتهما الثنائية. فقد تبادل مسئولو الدولتين الزيارات في الفترة الأخيرة، حيث قام وزير الشئون الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة بعدد من الزيارات إلى تونس، كان أبرزها في 27 يوليو الماضي، حيث التقى بالرئيس سعيّد، وسلمه رسالة شفوية من الرئيس تبون تتصل بالعلاقات بين الدولتين، كما بدت الزيارة حينها، التي جاءت بعد يومين من إجراءات الرئيس التونسي بتعليق عمل البرلمان وحل الحكومة، رسالة بأن الجزائر حاضرة في الملف التونسي. ناهيك عن أن الزيارة جاءت بعد يوم واحد من اتصال هاتفي جرى بين الرئيسين التونسي والجزائري.
ومن جانبها، قامت رئيسة الوزراء التونسية نجلاء بودن، في 25 نوفمبر الفائت، بزيارة الجزائر، وأشار بيان للحكومة التونسية إلى أن “الزيارة تأتي تأكيداً على العلاقات التونسية الجزائرية المتينة وترجمة لإرادة قيادتى البلدين للارتقاء بهذه العلاقات إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية المتضامنة والمستديمة، استجابة لتطلعات الشعبين الشقيقين”، وأضاف البيان أن “الزيارة مناسبة لتعزيز التشاور وبحث سبل دعم التعاون الثنائي بين البلدين ودفعها إلى أفضل المراتب، والإعداد للاستحقاقات الثنائية المنتظرة وفي مقدمتها اللجنة العليا المشتركة التونسية الجزائرية المزمع عقدها في المنظور القريب إضافة إلى بقية اللجان القطاعية الثنائية المشتركة”.
وفي هذا الإطار، جاءت زيارة الرئيس تبون إلى تونس، في 15 و16 ديسمبر الجاري، لتؤكد على مسار التقارب بين الدولتين. فخلال الزيارة أشار الرئيسان الجزائري والتونسي إلى ضرورة تعزيز العلاقات الوثيقة بين الدولتين، ولعل هذا ما دلل عليه توقيع الدولتين على 27 اتفاقية تعاون أثناء الزيارة.
دلالات رئيسية
ينطوي التقارب الراهن بين الجزائر وتونس على عدد الدلالات الرئيسية التي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تصاعد تأثير المصالح الاقتصادية: مثّل البعد الاقتصادي محدداً هاماً في مسار التقارب الحاضر بين الجزائر وتونس، ولعل هذا ما أكد عليه الرئيس تبون، أثناء زيارته الأخيرة إلى تونس، حينما أبدى حرصه على دفع التعاون الثنائي، وصولاً إلى اندماج اقتصادي مع تونس. وفي الإطار نفسه، يبدو أن تونس تراهن على علاقاتها مع الجزائر كمدخل للتعافي من أزمتها الاقتصادية، وبدا ذلك جلياً في 3 نوفمبر الفائت، حينما أجرى وزير الطاقة والمناجم الجزائري محمد عرقاب مباحثات مع وزيرة الصناعة والطاقة والمناجم التونسية نائلة نويرة القنجي، حول “إمكانية زيادة حجم إمداد تونس بالمنتجات البترولية وغاز البترول المسال وغاز البوتان من قبل الجزائر”. كما تم الإعلان، في 14 ديسمبر الجاري، عن حصول تونس على قرض مالي من الجزائر بقيمة 300 مليون دولار.
2- تداعيات الأزمة الداخلية التونسية: لا ينفصل التقارب التونسي- الجزائري عن تطورات الأزمة الداخلية التونسية. وبالرغم من أن الجزائر أكدت في موقفها الرسمي أن “ما يجري في تونس هو شأن داخلي”، إلا أنها في الوقت ذاته كثَّفت من تواصلها الدبلوماسي مع القيادة التونسية خلال الشهور الماضية حتى أن الرئيس تبون كان أول من اتصل به الرئيس سعيّد بعد قرارات 25 يوليو التي هدفت إلى تعزيز سيادة الدولة، ناهيك عن تكرار الاتصالات الهاتفية بين الرئيسيين في الشهور التالية على هذه القرارات، بالإضافة إلى الزيارات المتعددة لوزير الشئون الخارجية الجزائري إلى تونس.
ويدلل استباق زيارة الرئيس الجزائري إلى تونس بالقرارات التي اتخذها الرئيس سعيّد، في 13 ديسمبر الجاري، بشأن تنظيم استفتاء وطني حول إصلاحات دستورية في 25 يوليو 2022 بالإضافة إلى إجراء انتخابات تشريعية في 17 ديسمبر من العام نفسه وتنظيم مشاورات “شعبية” عبر الإنترنت بداية من يناير القادم بشأن الإصلاحات التي يجب إدخالها على النظام السياسي القائم بالبلاد، على حضور الأزمة الداخلية التونسية في معادلة التقارب الجزائري- التونسي.
فمن جهة، يسعى الرئيس التونسي إلى الحصول على تأييد الجزائر من أجل تقليص حدة الضغوط الخارجية المفروضة عليه في ضوء الإجراءات التي تبناها وسعى من خلالها إلى دعم الاستقرار السياسي والأمني في البلاد، فضلاً عن محاولته استقطاب الدعم الاقتصادي الجزائري. ومن جهة أخرى، سعت الجزائر إلى التأكيد على دورها الإقليمي المركزي، وحاولت التكريس، عبر الأدوات الدبلوماسية، لصورتها كطرف مهم في تهدئة الأوضاع في تونس، وخاصة أنه ليس من مصلحتها تصاعد الأزمة في الأخيرة واندلاع موجة ممتدة من عدم الاستقرار.
3- الهواجس الأمنية المشتركة بين الدولتين: تدفع الهواجس الأمنية المشتركة الدولتين نحو تعزيز التقارب بينهما، ربما يتعلق أهمها بالتهديدات الإرهابية المحتملة للدولتين، لاسيما في ضوء التقارير التي تتحدث عن محاولة تنظيم “داعش” إحياء نفوذه في منطقة المغرب العربي بما في ذلك المنطقة الحدودية بين الجزائر وتونس، ولعل هذا ما دللت عليه بعض الحوادث في الشهور الماضية. فعلى سبيل المثال، أعلنت السلطات التونسية، في أول أبريل الماضي، قتل ثلاثة إرهابيين بينهم قيادي محلي في تنظيم “داعش” وامرأة آسيوية فجرت نفسها في مناطق جبلية بالقصرين التونسية قرب الحدود مع الجزائر.
وظهر أيضاً البعد الأمني في التقارب الراهن بين الجزائر وتونس مع الإعلان، في 30 أغسطس الماضي، عن تسليم السلطات التونسية سليمان بو حفص للجزائر والصادر ضده حكم بالسجن في الأخيرة، كما أنه ينتمي إلى منظمة “الحركة من أجل تقرير المصير في منطقة القبائل” (ماك) التي تُصنِّفها السلطات الجزائرية كمنظمة إرهابية.
4- تعزيز موقف الجزائر في مواجهة المغرب: يرتبط التقارب الجزائري- التونسي بملف العلاقات المغربية- الجزائرية، والصراع السياسي المتصاعد بين الدولتين في السنوات الأخيرة، والذي وصل إلى ذروته مع إعلان الجزائر، في 24 أغسطس الماضي، قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب واتهامهما بـ”مواصلة الأعمال العدائية ضد الجزائر”، كما أعلن الرئيس تبون، في 31 أكتوبر الماضي، عدم تجديد عقد استغلال خط أنابيب الغاز الذي يُزوِّد أسبانيا بالغاز الجزائري مروراً بالمغرب. وفي هذا السياق، تسعى الجزائر إلى توطيد علاقاتها مع تونس بهدف تشكيل تحالف معها يمكن من خلاله إدارة العلاقات مع المغرب.
5- توسيع نطاق التنسيق حول ليبيا: يحظى الملف الليبي بأهمية خاصة في العلاقات التونسية- الجزائرية، باعتبار أن ما يحدث في ليبيا، وفقاً لرؤية الدولتين، يفرض تداعيات مباشرة على أمنهما ومصالحهما، وليس أدل على ذلك من التأثيرات الأمنية التي أنتجتها الفوضى في ليبيا خلال السنوات الماضية بالنسبة لتونس والجزائر سواء عبر جماعات التهريب والجريمة المنظمة، أو حتى من خلال النشاط المتصاعد للعناصر الإرهابية التي استخدمت ليبيا كنقطة انطلاق لها. وعليه، كان الملف الليبي حاضراً في الزيارة الأخيرة للرئيس تبون إلى تونس، وخاصة أن الزيارة جاءت قبل أيام من إجراء الانتخابات الرئاسية في ليبيا، في 24 ديسمبر الجاري رغم التقارير التي تشير إلى احتمال تأجيلها، حيث ذكر الرئيس سعيّد، في 15 ديسمبر الجاري، أن “هناك تنسيقاً دائماً مع الجزائر بشأن ليبيا”، كما قال الرئيس تبون أنه “تبادل الرؤى مع نظيره التونسي حول مجموعة من القضايا الإقليمية، خاصة بشأن ليبيا”، مضيفاً: “نأمل بأن تتخلص ليبيا من المرتزقة، وأن يعود الوئام بين الليبيين”.
سياق مواتٍ
خلاصة القول، بقدر ما يكتسب التقارب والتعاون الجزائري- التونسي بعداً تاريخياً، فإن السياقات الإقليمية الراهنة تُكسِب هذا التقارب المزيد من الزخم، لاسيما أن هناك مصالح متعددة تجمع بين الدولتين في اللحظة الآنية، على غرار التطورات في ليبيا والتهديدات الأمنية المرتبطة بها، بالتوازي مع مساعي الجزائر للتأكيد على دورها الإقليمي والانفتاح على أطراف مختلفة يمكن عبرها إدارة علاقاتها المتوترة مع المغرب وكذلك فرنسا، فضلاً عن محاولات تونس استقطاب الدعم الجزائري في أزمتها الداخلية السياسية والاقتصادية.