شهدت العلاقات التركية-الروسية حالة من التوتر على إثر استخدام أوكرانيا طائرات بدون طيران “بيرقدار”، تركيّة الصنع في النزاع الدائر بمنطقة دونباس، وهو ما دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى إبداء استيائه أثناء اتصال هاتفي، يوم 3 ديسمبر 2021، مع الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، حيث طالب الرئيسُ الروسي بوقف تركيا تصديرَ طائرات “بيرقدار” المسيرة، وذلك في الوقت الذي أعلن فيه الرئيس التركي استعداد بلاده للوساطة بين روسيا وأوكرانيا لتخفيف حدة التوتر بينهما، حيث أكد الرئيس التركي أنه قدم عرضاً سابقا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن هذه المسألة، وهو ما قوبل بعدم ترحيب من قبل موسكو. هذا التوتر المتصاعد في العلاقات بين الجانبين التركي والروسي يطرح العديد من التساؤلات حول دوافع الجانب التركي من التدخل في الأزمة بين كييف وموسكو، وانعكاسها على مستقبل العلاقات بين الجانبين.
أبعاد الأزمة
شنّت القوات العسكرية الأوكرانية، في أكتوبر الماضي، هجوماً على الانفصاليين في منطقة دونباس، وهي مجموعات مدعومة من روسيا، باستخدام طائرات “بيرقدار” المسيرة، تركية الصنع، وهو ما أثار انزعاج الجانب الروسي، ودفع الكرملين لإصدار بيان، في 27 أكتوبر 2021، أكد على أن “الرئاسة الروسية تحذر تركيا من تصدير طائرات مسيرة إلى حكومة أوكرانيا، وهو ما قد يؤثر سلباً على الوضع في منطقة دونباس جنوب شرقي هذا البلد”. كما أجرى الرئيس الروسي “بوتين” اتصالاً هاتفياً مع الرئيس التركي “أردوغان”، يوم 3 ديسمبر الجاري، انتقد خلاله استخدام أوكرانيا طائرات مسيّرة تركية الصنع من طراز “بيرقدار” بمنطقة الصراع في دونباس، واصفاً هذا السلوك بالـ”مدمر”.
بدورها، ردت أنقرة على لسان وزير خارجيتها، يوم 31 أكتوبر الماضي، مؤكدة أنه لا يمكن تحميلها مسؤولية نشر كييف طائرات تركية. كما أعلن “إبراهيم كالين” المتحدث باسم الرئاسة التركية، في مقابلة مع وكالة “الأناضول” يوم 5 ديسمبر 2021، أن أنقرة تحافظ على علاقات جيدة مع كل من روسيا وأوكرانيا، وستسعى لبذل ما في وسعها لتخفيف حدة التوتر بين البلدين. وأضاف كالين أن “بلاده لديها علاقات جيدة مع البلدين، ولا تدعم أي خطوات من شأنها زيادة حدة التوتر، كما تسعى للقيام بما يقع على عاتقها من أجل خفض التوتر”.
وبموازاة هذا التوتر بين موسكو وأنقرة، ذكرت وكالة “بلومبرج” الأمريكية في تقرير لها، في ديسمبر الجاري، أن عدد الطائرات بدون طيار من طراز بيرقدار، التي اشترتها أوكرانيا من تركيا، أكبر بكثير مما تم الإعلان عنه سابقاً. ونقلت الوكالة عن مصادر حكومية تركية أن الجانب التركي باع سلطات كييف منذ عام 2019، كمية كبيرة من هذه الطائرات بدون طيار، إلى جانب الصواريخ ومحطات التحكم والتوجيه اللازمة لها، ومن المتوقع أن يتم إبرام صفقات جديدة في المستقبل القريب، وأكدت الوكالة عن خطط لأنقرة وكييف لتنظيم عمليات إنتاج مشترك لصواريخ شبيهة بصاروخ “زينيت -2” الأوكراني.
دوافع التدخل
يرتبط الانخراط التركي في الملف الأوكراني بعددٍ من الدوافع الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1- دعم أتراك القرم المسلمين: لدى تركيا العديد من المصالح في أوكرانيا والتي برزت منذ عام 2014، ولا سيما فيما يخص أوضاع ترك القرم المسلمين وحقوقهم، حيث تعتبرهم أنقرة امتداداً عرقياً لها في شبه جزيرة القرم. ويتخذ ترك القرم مواقف مناوئة للتدخل الروسي، مما يجعلهم مستهدفين من قبل السلطات الروسية، وهو ما دفع أنقرة إلى عدم الاعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وتتمسك تركيا بالدفاع عن أتراك القرم في إطار ما تُسميه “دعم وحدة وسيادة أوكرانيا على كامل أرضها”.
2- المصالح في البحر الأسود: تقع شبه جزيرة القرم شمال البحر الأسود، ولها أهمية جيوسياسية قصوى لاحتوائها على قاعدة بحرية روسية هي الوحيدة من نوعها في المنطقة، فهي مقر أسطول البحر الأسود الروسي، وبالتالي من مصلحة تركيا التعاون والتنسيق مع أوكرانيا للحد من النفوذ الروسي في منطقة شمال البحر الأسود لضمان أمن حدودها الشمالية، لا سيما أن روسيا تتواجد على حدودها الجنوبية في سوريا. هذا فضلاً عن مساعي تركيا لتأمين حركة الملاحة والتجارة والتنقيب عن الغاز في البحر الأسود.
3- كسب أوراق تفاوض: تتقاطع مصالح تركيا مع روسيا في سوريا وليبيا وآسيا الوسطى والقوقاز، وهو ما يجعل من الأزمة الأوكرانية مع روسيا ورقة ضغط تركية للتفاوض مع موسكو حول بؤر التداخل الروسي التركي في الشرق الأوسط، وخصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الليبية في 24 ديسمبر 2021، والتي تمثل لتركيا أهمية قصوى في الوقت الذي تتعارض فيه الأجندة الروسية بليبيا مع الأجندة التركية، مما يجعل من التدخل التركي في أزمة القرم ورقة ضغط تركية على الجانب الروسي في ليبيا وسوريا.
4- تحسين الوضع الاقتصادي التركي: في ظل الأزمة الاقتصادية التي يمر بها الاقتصاد التركي، وتراجع سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار والتي وصلت إلى أدنى مستوى لها خلال الربع الأخير من العام الجاري؛ يسعى الرئيس التركي إلى الاستفادة من تسويق الأسلحة العسكرية التركية لدول أوروبا الشرقية، حيث تعتمد تركيا في جزء كبير من نفوذها العسكري وكذلك من مصادرها الاقتصادية على توريد طائرات الدرونز والإنتاج العسكري. وعليه، من المتوقع أن تستمر تركيا في استثمار بيع الطائرات المسيرة لكسب الأموال وتحسين وضعها الاقتصادي، وهو ما يفسر التطورات المتسارعة لتعميق العلاقات بين أنقرة وكييف، والحديث عن صفقة تجارية مرتقبة، حيث أشارت تقارير إلى خطط لأنقرة وكييف لتنظيم عمليات إنتاج مشترك لصواريخ شبيهة بصاروخ “زينيت-2” الأوكراني، بالإضافة إلى صفقة طائرات بدون طيران ستحصل عليها كييف في العام المقبل.
5- التقرب من إدارة بايدن: يبدو أن الطائرات المسيَّرة التركية المباعة لأوكرانيا أصبحت أداة أنقرة لإذابة الجليد مع واشنطن، إذ يُعتقد أن أنقرة تتطلع إلى الاستفادة من نجاح طائراتها التي أثبتت جدارتها في مواجهة الأسلحة الروسية، لتقديم نفسها كشريك رئيسي في جهود الولايات المتحدة لاحتواء روسيا في أوروبا الشرقية وخارجها. ويبدو أن تركيا تحاول تسويق فكرة أنه على الرغم من الأزمة المستمرة بشأن شرائها أنظمة الدفاع الجوي الروسية S-400، تظلّ تركيا الشريكَ الأكثر قيمة للولايات المتحدة بالمنطقة في أي جهد لموازنة روسيا، ويمكنها دعم استراتيجيات الولايات المتحدة من خلال إنشاء “هلال بدون طيار” أو “هلال المسيَّرات” ضد روسيا في منطقة القرم.
6- الاقتراب من الموقف الأوروبي: يعمل الاتحاد الأوروبي على تجنب أي تصعيد على الحدود الروسية الأوكرانية، مؤكداً دعمه لأوكرانيا دبلوماسياً لمنع أي تصعيد للتوترات على الحدود الروسية الأوكرانية، ولا سيما في ظل القلق إزاء تنامي وتيرة التحركات العدوانية من قبل روسيا على الحدود، وهو ما يعتبره الاتحاد الأوروبي أعمالاً استفزازية، وتهديداً مباشراً لأوكرانيا ودول الجوار الأوروبي. ويأتي عرض تركيا بالوساطة بين موسكو وكييف ليساعد الجانب الأوروبي على خفض حدة التصعيد الجارية، وعدم تطور الأوضاع لمواجهة عسكرية محتملة، وهو الأمر الذي سيكون من شأنه حصول تركيا على الإشادة الغربية.
7- كسب الدعم الداخلي: ففي خضمّ الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في تركيا، وتراجع القاعدة الشعبية للحزب الحاكم، يسعى الرئيس التركي من خلال تقديم عرض الوساطة وحماية حقوق أتراك القرم، إلى تعزيز وتكريس الصورة الذهنية حول حماية الأقليات التركية وأنه المدافع عن المسلمين الأتراك في المحيط الإقليمي، بما يدعم ويحشد التأييد الشعبي للنظام السياسي، لا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات القادمة.
التعاون العدائي
في المجمل، تشهد العلاقات التركية الروسية مرحلة جديدة من الخلافات الشديدة، وصفتها برياح جليدية تهب على علاقة الرئيسين أردوغان وبوتين، والتي تميزت دائماً بـ”التعاون العدائي”، فتارة حلفاء وتارة خصوم. ولا بدّ من الأخذ في الحسبان أن المساهمة التي قدمتها تركيا لأذربيجان في معارك استعادتها إقليم ناغورني قره باغ، دفعت الجانب الأوكراني لتوقع إمكانية تكرار تطبيق سيناريو مماثل عبر تقديم دعم عسكري تركي يساعد على رفع القدرات العسكرية الأوكرانية، وهو ما سينعكس بشكل كبير على العلاقات التركية الروسية خلال المرحلة المقبلة.