على الرغم من تصاعد الحديث داخل الأوساط الأمريكية عن تراجع اهتمام إدارة الرئيس “جو بايدن” بمنطقة الشرق الأوسط، والذي لا يعد أمراً جديداً في ظل تبني إدارتي الرئيسين “باراك أوباما” و”دونالد ترامب” لهذا التوجه، للتحولات في السياسة الخارجية الأمريكية التي أضحت أكثر تركيزاً على التعامل مع التغيرات الحادثة في النظام الدولي، وتصاعد منافسة القوى العظمى مع روسيا والصين اللتين تتحديان القيادة الأمريكية المنفردة لنظام ما بعد الحرب الباردة، وإعادة الاهتمام بقضايا الداخل الأمريكي، وتبني سياسات خارجية تخدم الطبقة الوسطى الأمريكية؛ فإن قضايا المنطقة وأزماتها وصراعاتها لا تزال تحظى باهتمام واسع داخل الإدارة الأمريكية الحالية، وقد شهدت رؤى متعددة لكيفية التعامل معها، ومن أبرزها:
١- الاختلاف حول التعامل مع الأزمة النووية الإيرانية: شكّل الرئيس الأمريكي “جو بايدن” إدارة توافقه العمل على عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي الإيراني لعام ٢٠١٥ بعد انسحاب الإدارة الأمريكية السابقة منفردة منه في مايو ٢٠١٨، ومن الذين ساهموا في التوصل إلى خطة العمل الشاملة المشتركة خلال إدارة الرئيس “باراك أوباما”. ورغم ذلك فقد تبنى عدد من مسؤولي الإدارة مقاربات تجاه إيران، حيث يرى بعضهم ضرورة اتّباع سياسة متشددة، وأن التفاوض مع طهران لا بد أن يقود إلى توسيع نطاق الاتفاق وتقويته ليضم ملفات لم تتفاوض عليها إدارة “أوباما”، على غرار الدور الإقليمي وبرنامج الصواريخ الباليستية. بينما يرى آخرون إعطاء الأولوية للالتزام الإيراني بالاتفاق مقابل الالتزام الأمريكي، ويرون أن الإصرار على إضافة القضايا الخلافية مع إيران، مثل الدور الإقليمي وبرنامج الصواريخ، في المراحل الأولى من المفاوضات، سوف يؤدي إلى تعقيد الجهود المبذولة للعودة إلى الالتزام المتبادل بالاتفاق النووي، وربما يدفع إيران إلى المضيّ قدماً في تطوير برنامجها النووي.
٢- رفض “بايدن” بعض نصائح القادة العسكريين: كشف عدد من المسؤولين العسكريين خلال جلسة استماع بالكونجرس الأمريكي لمناقشة عملية الانسحاب الأمريكي الفوضوية من أفغانستان رفض الرئيس “بايدن” نصيحة عدد من القادة العسكريين ببقاء قوات أمريكية في أفغانستان، حيث ذكر رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال “مارك ميلي”، وقائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال “كينيث ماكنزي”، أنهما نصحا الرئيس “بايدن” ببقاء حوالي ٢٥٠٠ جندي أمريكي في أفغانستان خوفاً من الانهيار السريع للجيش الأفغاني الذي أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية على مدار العقدين الماضيين حوالي ٨٣ مليار دولار لتدريبه ليكون قادراً على محاربة حركة “طالبان”، والمساهمة في دعم استقرار أفغانستان، في أعقاب انسحاب القوات الأمريكية؛ لكن الرئيس صمم على سحب جميع القوات الأمريكية قبل حلول الذكرى العشرين لأحداث سبتمبر الإرهابية.
٣- توجهات مختلفة للتعامل مع المليشيات المسلحة في المنطقة: لم تتبنَّ الإدارة الأمريكية سياسة واحدة تجاه تلك المليشيات، وإنما سياسات متعددة وأحياناً متناقضة، وهو ما تفرضه عليها مصالحها ورؤيتها للتطورات التي تشهدها الملفات الإقليمية المختلفة. فبينما سعت إلى محاصرة المليشيات الشيعية الموالية لإيران مثل “حزب الله” اللبناني من خلال العقوبات لكونه يشكل تهديداً للولايات المتحدة الأمريكية ولحلفائها ومصالحها في منطقة الشرق الأوسط والعالم، وكذلك جماعة الحوثي في اليمن، وشن هجمات عسكرية ضد بعضها في العراق وسوريا؛ فإنها قدمت كافة أنواع الدعم لقوات سوريا الديمقراطية، ولا سيما بعد المخاوف التي انتابتها في أعقاب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وخشية تخلي واشنطن عنها بعد الدعم الذي قدمته لها في حربها ضد تنظيم داعش الإرهابي في سوريا.
٤- رؤى تقدمية داخل الكونجرس الأمريكي: يتبنى أنصار التيار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي، الذي أضحى مؤثراً في الساحة السياسية الأمريكية بعد نجاح العديد من أنصاره في انتخابات عامي ٢٠١٨ و٢٠٢٠، رؤى مختلفة للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط عن تلك التي يتبناها التيار المؤسسي والمعتدل داخل الحزب والذي يمثله حالياً الرئيس “جو بايدن”. ويمارس العديد من المشرعين الديمقراطيين الذي يصفون أنفسهم بالتقدميين ضغوطاً على المسؤولين الأمريكيين لتجنب الانخراط في الصراعات في منطقة الشرق الأوسط، والاهتمام بقضايا حقوق الإنسان، والدعوة لخفض المساعدات العسكرية لإسرائيل، واستشارة الكونجرس قبل توجيه ضربات عسكرية بالمنطقة، وكذلك إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في سوريا.
٥- تنوع أدوات السياسة الخارجية الأمريكية: مزجت الإدارة الأمريكية بين أكثر من أداة للتعامل مع التحديات والأزمات في المنطقة. ففي الوقت الذي ركزت فيه على الأداة الدبلوماسية للتعامل مع الملف النووي الإيراني، ورفض المخططات الإسرائيلية لشن عمليات عسكرية ضد البرنامج النووي الإيراني؛ فإنها اعتمدت على مصادر القوة الخشنة الأمريكية للتعامل مع عدد من التحديات في الشرق الأوسط، والتي تضمنت فرض العقوبات الاقتصادية على خصومها المهددين للمصالح الأمريكية وأمن واستقرار حلفائها، وتوجيه ضربات عسكرية “عقابية” لهم لشنهم هجمات ضد القوات الأمريكية في سوريا والعراق.
وتأسيساً على ما سبق، يُناقش هذا الملف، الذي يضم تحليلات وتقديرات مركز العالم العربي وفريق موقع الحائط العربي، أبعاد التباين في الرؤى داخل الإدارة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط وقضاياها، وكذلك أسبابه، ومدى تأثير ذلك على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة، وفرص الاستمرارية والتغيير في تلك السياسات.