روسيا وحلم العودة قوة عظمى – الحائط العربي
روسيا وحلم العودة قوة عظمى

روسيا وحلم العودة قوة عظمى



أجاب الكرملين مؤخراً، عن سؤال ظل يلحّ طيلة سنوات غير قليلة. السؤال يتعلق أساساً بكلمات قليلة سجلتها أقلام العديد من المؤرخين، وتعديلات غير طفيفة أدخلها علماء السياسة على خرائط توزيع القوة والنفوذ في القارة الأوروبية. انهزمت روسيا هزيمة مدوية عندما انفرطت إمبراطوريتها المسماة الاتحاد السوفييتي، من دون إطلاق رصاصة واحدة. وتقلصت المساحات، وكانت شاسعة ولكن، وهو الأهم في رأيي أنا وآخرين، سقطت نخبتها الحاكمة، ومع سقوطها تبعثرت الأيديولوجية التي بررت القوة الفائقة، والإمبراطورية الشاسعة. تفكك الحزب اللينيني، واختفت زعاماته، وتشتت لجانه ومكاتبه ومنظمات شبابه ونسائه. وبيعت بقروش زهيدة أهمّ أصول الإمبراطورية في الخارج، والدولة في الداخل، فأثرى من أثرى ثراء فاحشاً، وتكالب على موسكو أهم خبراء الرأسمالية لتفكيك الاقتصاد الاشتراكي. وبعد قليل خرج من تحت عباءة أجهزة الدولة من عرف كيف يستفيد من ظروف الانتقال غير العنيف نسبياً، ويستفيد من قوة الكنيسة وشعبيتها ليعيد إلى الحياة الكيان الروسي القديم.

 عشت سنوات أراقب تطورات الحكم في روسيا، وأساليب الكرملين في التعامل مع العالم الخارجي. وقابلت عدداً غير قليل من رجال السياسة والمفكرين ومن صناع الرأي في عالمنا العربي لم يخفوا قناعتهم بأن فرداً يقف وراء كل إنجاز عظيم في مرحلة أو أخرى، من مراحل صعود الأمم. ويعتقدون بأن وراء كل ثورة يقف فرد، ووراء التوسع الإمبراطوري فرد، ووراء الثورة الدينية في أي مكان وزمان فرد، ووراء كل نصر عسكري فرد، ووراء كل عقيدة سياسية يقف فرد. اختلفنا واتفقنا حول موقع القوى الاجتماعية التي ساهمت مع هذا الفرد، أو ذاك، في صنع الإنجاز، هل كانت تقف وراءه تدفعه ليظهر ويقود، أم لحقت به بعد أن ظهر وتمكن واختارها ليعتمد عليها فدفعته لينجز؟ ظل هناك على كل حال من يعتقد أن هذا الفرد لا بد أن يكون ثمرة ظروف معيّنة، وليس نبتاً في أرض بور.

 بهذا المعنى، لم يأت الرئيس فلاديمير بوتين من فراغ. ظهر، وكان في داخلها، عندما بدأت أركان النظام السوفييتي تكشف عن ضعفها، وعن استحالة أن تستمر في تحمّل مسؤولية هذا العبء الثقيل، عبء فساد حزب، وترهّل قادة، ولا مبالاة شعب، وخسائر دولة دخلت سباق تسلح وهي غير مؤهلة له. عبء عقيدة رفض دعاتها تجديدها حتى عندما ارتفعت أصوات التجديد في الأحزاب الشيوعية في إيطاليا وفرنسا، وغيرهما.

 ذات صباح يوم قريب جداً استيقظت لأسمع مع آخرين أذهلهم، كما أذهلني، نبأ إطلاق روسيا لصاروخ بعيد المدى، أو هكذا فهمت، نحو الفضاء ليقصف قمراً صناعياً بعينه فيفتته إلى جزيئات شكلت سحابة سرعان ما تناثرت رماداً، أو رذاذاً. أمريكا اتهمت روسيا بتهديد سلامة رواد وعلماء الفضاء متعددي الجنسيات المقيمين في محطة فضاء، أو أخرى. ومن ناحيتي قدّرت خيبة أمل الشركات الخاصة التي أعلنت عن نشأتها مؤخراً بنيّة تنظيم رحلات تنقل السياح في جولات بالفضاء. الأهم في نظري هو ما لم يعلن في كل من عاصمتي الولايات المتحدة والصين، وربما لن يعلن. يقف وراء اهتمامي نتفٌ ممّا تحويه ذاكرتي، و«خزنة» أحفظ فيها بعض ما تعلمت وقرأت عن الحرب العالمية الثانية، وظروف نشأة نظام القطبين. 

 نعرف الآن أن السباق في أوروبا على تحرير القارة من الاحتلال النازي منح الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي شرعية تسمح للأولى، أي لأمريكا، بأن تحتل مكانة «الأول بين متساويين» على قمة النظام الدولي، ولكننا نعرف أيضاً أن تجربة تفجير قنبلة نووية في ألامو جوردو، بولاية نيو مكسيكو في 16 يوليو/ تموز من عام 1945، ثم إلقاء قنبلتين على هيروشيما وناجازاكي في 6 و9 أغسطس/ آب من العام نفسه، أكدت جميعها مكانة أمريكا على قمة النظام الدولي، وأحقيتها في وضع القواعد اللازمة لضبط السلوكات كما تراها متسقة مع ثقافتها ومصالحها طويلة الأمد، ولتثبيت الهيمنة الأمريكية. ومرت سنوات أربع قبل أن يجرب الاتحاد السوفييتي قنبلته في 29 أغسطس عام 1949. أعرف أنه في هذا التاريخ أصبح الاتحاد السوفييتي في عرف علماء السياسة الدولية والمجتمع الدولي بصفة عامة، قطباً دولياً كامل الأهلية في نظام ثنائي القطبية.

 نعود إلى السؤال، وهو «ماذا تريد روسيا البوتينية؟»، وبمعنى أدق، ماذا يريد بوتين لروسيا أن تكون؟ هل يراها في أحلامه كما رآها القياصرة والزعماء الشيوعيون في أحلامهم وسياساتهم قوة بمعالم إمبراطورية؟ كلهم جربوا. وكانت لهم إمبراطورياتهم. 

 أم أنه، وأقصد الرئيس بوتين، يريد، أو يريد أيضاً، أن تعود روسيا لتكون قوة عظمى، وعلى وجه الدقة لتصبح قوة عظمى ثالثة، في نظام جديد للقمة الدولية جارٍ صنعه أو صياغته، إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية؟ بهذه الصياغة نعني بكل الوضوح الممكن أن الرئيس بوتين لا بد، ويعلم حق العلم، أن هناك فجوة واسعة تفصل بين القطبين الصيني والأمريكي من ناحية، والاتحاد الروسي من ناحية أخرى. لا يكفي أن تصعد روسيا في المكانة الدولية مستفيدة من كبوات القطبين الآخرين. 

 لاحظنا خلال السنوات الأخيرة أن روسيا عادت تجرّب التوسع بالنفوذ في الشرق الأوسط منذ أن اتضحت لها في أيام الرئيس أوباما نيّة الأمريكان الخروج من الشرق الأوسط. وبعد سنوات تأكدت نية الخروج. وتأكدت معها تعديلات في السياسات والتوجهات لا تقل أهمية. منها، مثلاً، أننا صرنا نعرف أن أمريكا لن تخرج تماماً من الشرق الأوسط، وأن روسيا لن تدخل تماماً. أمريكا لن تخرج تماماً إذ وجد في داخلها وفي الشرق الأوسط من ينبهها إلى أن خروجها الكامل يعني انتقاصاً في مكانتها كقوة عظمى. وروسيا لن تدخل تماماً بمعنى أنها أصلاً لم تزمع التوسع في كل أنحائه وفي قواعدها السابقة أفقياً، أو رأسياً، على الأقل في الأجل المنظور. 

 تغيّر الكثير على كل حال، سواء نتيجة التخبط السياسي في أمريكا الذي صاحب نهاية عهد ترامب، أو نتيجة تسارع الانحدار الأمريكي الذي صاحب بدايات عهد بايدين. بعض هذا التغير يدفع الآن كلاً من روسيا والصين إلى حرص زائد وبذل جهد خاص لتأكيد أحقيّتهما في موقع على القمة. وما الصاروخ الذي أطلقته موسكو لتدمّر به قمراً صناعياً في فضاء الكون إلا خطوة سوف تليها خطوات تسعى لتأكيد حق روسيا في موقع على القمة. هكذا تحاول روسيا وتجازف بكلفة باهظة لتكون طرفاً ثالثاً في المنافسة الاستراتيجية بين الصين وأمريكا.

نقلا عن الخليج