رغم أن روسيا مثّلت دائماً ظهيراً دولياً ساهم في تقليص حدة الضغوط والعزلة الدولية التي كانت مفروضة على إيران في مراحل سابقة، فضلاً عن دورها البارز في الوقوف ضد السياسة التي تبنتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بعد أن انسحبت من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018، وبدأت في فرض عقوبات أمريكية على إيران في 7 أغسطس من العام نفسه، ومع أن هناك تقارير تتحدث عن قرب توقيع اتفاق تعاون استراتيجي شبيه باتفاق الشراكة الاستراتيجية مع الصين، إلا أن ذلك في مجمله لا ينفي أن الخلافات بين الطرفين بدأت تتزايد تدريجياً، نتيجة التباين في التعامل مع بعض الملفات، التي لم تعد تنحصر في التطورات السياسية والميدانية التي تجري على الساحة السورية، وإنما بدأت تمتد حتى إلى الملف النووي إلى جانب الملفين الأفغاني والآذري، بعد أن بدأت روسيا في إبداء استياءها من الموقف الإيراني من المفاوضات النووية، وتوجيه رسائل ضمنية بأنها لا تثق في مدى جدية إيران في الوصول إلى صفقة خلال مفاوضات فيينا التي سوف تستأنف في 29 نوفمبر الجاري، فضلاً عن حرصها على التنسيق مع خصوم طهران في ملفات إقليمية عديدة.
سقف واضح
أبدت روسيا في الآونة الأخيرة اهتماماً بتوسيع نطاق التنسيق مع إيران حول الملفين السوري والنووي. فقد قام المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا الكسندر لافرنتييف، ومساعد وزير الخارجية الروسي سيرجي فيرشينين، بزيارة طهران، في 22 نوفمبر الجاري، حيث التقيا وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، وتركزت المحادثات حول التعاون الإيراني- الروسي في إطار عملية أستانا والمحادثات السورية- السورية.
وقبل ذلك، بحث الرئيسان الروسي فيلاديمير بوتين والإيراني إبراهيم رئيسي، خلال اتصال هاتفي أجراه الأول في 16 من الشهر نفسه، المسارات المحتملة للمفاوضات التي سوف تجري في فيينا، حيث كان لافتاً أن رئيسي أكد “جدية” إيران في المباحثات النووية. ويوحي هذا التأكيد في المقام الأول بأن الرئيس الروسي كان حريصاً على استيضاح نوايا إيران من المفاوضات، وما إذا كانت لديها رغبة في الوصول إلى صفقة فعلاً في المفاوضات أم أنها تسعى إلى كسب مزيد من الوقت، وهو انطباع بدأ يسود لدى الدوائر الغربية تحديداً، على نحو انعكس في التحذيرات التي وجهها وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان، في 19 نوفمبر الجاري، من احتمال أن تنخرط إيران في المفاوضات بشكل “صوري”.
هنا، يمكن القول إن تشكك موسكو في جدية طهران في الوصول إلى صفقة نووية، فضلاً عن ما تشير إليه تقارير عديدة من وجود خلافات تتسع تدريجياً في التعامل مع تطورات الملف السوري، إلى جانب الأزمة في أفغانستان والتصعيد مع أذربيجان، كل ذلك يوحي بأن العلاقات بين الدولتين لا تندرج في إطار “التحالف”، وإنما في سياق “توافق المصالح” الذي يتيح حرية حركة وهامشاً أوسع من المناورة أمام طرفيه. وربما تكون روسيا تحديداً أكثر حرصاً على ذلك مقارنة بإيران التي لا تتيح لها الضغوط الدولية والإقليمية التي تتعرض لها، بسبب برنامجها النووي وتدخلاتها المستمرة في أزمات المنطقة، خيارات متعددة في هذا السياق، لاسيما مع عدم وضوح النتائج التي يمكن أن تنتهي إليها مفاوضات فيينا، في ظل الخلافات المتصاعدة مع الدول الغربية، على خلفية الشروط المسبقة التي تتبناها إيران.
ملفات عديدة
ويمكن تناول أبرز الخلافات العالقة بين إيران وروسيا حول الملفات الإقليمية والنووية على النحو التالي:
1- التشكيك في الموقف الروسي من الاتفاق النووي: رغم المواقف الإيجابية التي اتخذتها روسيا لدعم إيران في مواجهة إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، إلا أن اتجاهات إيرانية عديدة اعتبرت أن روسيا بدأت تتماهى تدريجياً مع المواقف الأوروبية، وربما الأمريكية، لاسيما فيما يتعلق بممارسة ضغوط على إيران من أجل استئناف المفاوضات النووية التي توقفت عند جولتها السادسة في 20 يونيو الماضي. ووفقاً لذلك، فإن التقدم الملحوظ في الأنشطة النووية الإيرانية لم يعد يثير مخاوف الدول الغربية فحسب، وإنما روسيا أيضاً، بعد أن وصلت الكمية المنتجة من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% إلى 25 كيلو جرام. وقد بدا امتعاض روسيا من السياسة الإيرانية في الملف النووي واضحاً في “التغريدة” التي كتبها المندوب الروسي لدى المنظمات الدولية ميخائيل أوليانوف، على موقع “تويتر” في 6 نوفمبر الجاري، والتي قال فيها: “لنكن موضوعيين، إيران تنحرف عن الاتفاق النووي أكثر فأكثر؛ لكن أمريكا لا تحافظ على سياسة الضغط القصوى فحسب وإنما تفرض أيضاً مزيداً من العقوبات”.
واللافت في هذا السياق، هو أن الإعلام الإيراني بدأ في توجيه انتقادات للسياسة الروسية إزاء الاتفاق النووي، حيث نشرت صحيفة “آرمان ملي” حواراً مع علی اصغر زرگر الخبير في الشئون الدولية، في 17 نوفمبر الجاري، قال فيه أن “روسيا لم تتخذ موقفاً داعماً لإيران باستمرار في المفاوضات النووية، وأنها لا تريد تسوية مجمل الخلافات بين إيران والدول الغربية حتى لا تتأثر مصالحها لاسيما فيما يتعلق بإمدادات الطاقة”.
2- التباين في التعامل مع حركة “طالبان” الأفغانية: تبدي طهران قلقاً واضحاً إزاء السياسة التي تتبناها موسكو في التعامل مع حركة “طالبان” التي سيطرت على الحكم في أفغانستان في منتصف أغسطس الماضي. ففي رؤية الأولى، فإن هناك انفتاحاً روسيا على الحركة يمكن أن ينتهي إلى دعم موسكو للاعتراف الدولي بها، بشكل قد لا يتوافق مع مصالح طهران. وبدت مؤشرات هذا الانفتاح جلية في دعوة “طالبان” للمشاركة في مؤتمر موسكو حول أفغانستان الذي عقد في 20 أكتوبر الفائت، وحرص الأخيرة على استغلال المؤتمر لتأكيد أن “الاعتراف بالحركة مرهون بتنفيذ تعهداتها”. وهنا، فإن إيران ترى أن هذه التعهدات قد لا تتضمن المحددات التي تضعها للوصول إلى تلك الخطوة التي ستعزز موقع الحركة في الحكم، وعلى رأسها عدم تبني سياسة تمييزية ضد الشيعة الأفغان. ولذا كان لافتاً أن إيران حرصت على استضافة مؤتمر آخر موازٍ حول أفغانستان، بعد أسبوع واحد من مؤتمر موسكو، لم تشارك فيه “طالبان”، بما يشير إلى أن هناك قلقاً إيرانياً من التحركات الروسية في أفغانستان.
3- النزاع حول التطورات الميدانية في سوريا: أشارت تقارير عديدة إلى أن أحد الأسباب التي أدت إلى إخراج قائد قوات الحرس الثوري في سوريا العميد أحمد مدني، الذي يلقب بـ”جواد غفاري”، من سوريا في النصف الثاني من نوفمبر الحالي، يكمن في اتساع نطاق الخلافات مع القوات الروسية، لاسيما حول استهداف القوات الأمريكية تحديداً. وربما لا يمكن فصل ذلك عن الاتهامات التي وُجِّهت إلى إيران بالمسئولية عن الهجوم الذي تعرضت له قاعدة “التنف” التي تتواجد بها قوات أمريكية، في 20 أكتوبر الفائت.
4- التغاضي عن الهجمات العسكرية الإسرائيلية: ترى إيران أن روسيا لا تتخذ موقفاً حازماً تجاه الهجمات التي تقوم إسرائيل بشنها ضد المواقع التابعة لها إلى جانب القواعد التي تتواجد بها المليشيات الموالية. وفي رؤية اتجاهات عديدة في طهران، فإن موسكو ترى أن ذلك يتوافق مع مصالحها، خاصة لجهة منع إيران من تكريس وجودها العسكري على الأرض، وتعزيز موقع روسيا باعتبارها الطرف الأساسي الذي يمتلك القدرة على إعادة صياغة الترتيبات الأمنية والسياسية في سوريا.
5- القلق من التعاون الروسي- التركي في آسيا الوسطى: لا تبدو إيران مطمئنة، إلى حد كبير، من الحسابات الروسية في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، على نحو بدا جلياً سواء في تجدد النزاع حول إقليم ناجورنو كارباخ بين أرمينيا وأذربيجان، أو في التصعيد مع الأخيرة. إذ اعتبرت اتجاهات في طهران أن روسيا تبدو أقرب في موقفها إلى تركيا، وأنها ربما تعترف بمصالح الأخيرة في تلك المنطقة الحيوية، دون أن ينطبق ذلك على مصالح إيران. كما أنها، وفقاً لتلك الرؤية، لم تتعاطى إيجابياً مع المخاوف الإيرانية من الوجود الإسرائيلي في أذربيجان، والذي كان العنوان الرئيسي للأزمة التي تصاعدت حدتها مع الأخيرة منذ بداية أكتوبر الفائت.
نمط مرن
في النهاية، فإن هذه المؤشرات في مجملها لا تنفي أن هناك رغبة من جانب روسيا وإيران في تطوير التعاون فيما بينهما على مختلف المستويات، لكنها تعني في الوقت نفسه أن هذا التعاون لا يرقى إلى مستوى التحالف، في ظل تشابك الحسابات في معظم الملفات التي تحظى بأهمية خاصة من جانبيهما إن لم يكن مجملها، بما يعني أن المرونة هى السمة الرئيسية في العلاقات بين الطرفين، على نحو يتيح التعاون في ملفات عديدة مع الإقرار في الوقت نفسه بوجود خلافات وربما صراعات في ملفات أخرى.