إشكالية تغيير الوعى فى المجتمع المصرى – الحائط العربي
إشكالية تغيير الوعى فى المجتمع المصرى

إشكالية تغيير الوعى فى المجتمع المصرى



قضية تغيير الوعى فى مصر هى مشكلة قديمة، مثلت تحديًا للسياسات الحكومية والأفكار الداعية الى الإصلاح الاجتماعى وتغيير أنماط سلوك وقيم الأفراد. ومن الكتابات الرائدة فى هذا المجال أبحاث عالم التربية العظيم د. حامد عمار الذى حصل على درجة الدكتوراه من جامعة لندن عن التنشئة الاجتماعية فى قرية مصرية عام 1952.

وعلى مدى السبعين عامًا الأخيرة، تبنت الدولة المصرية أفكارًا وشعارات كثيرة، وأطلقت مبادرات عديدة لتغيير الوعى فى بعض المجالات، مثل اقناع المواطنين بتنظيم الأسرة والذى سعت الدولة إليه، أو اقناع الاميين بأهمية تعلم القراءة والكتابة، أو التعريف بالأخطار الجسمية والنفسية المترتبة على عادة ختان الإناث، وفى هذه الموضوعات وغيرها كان النجاح محدودًا أو مؤقتًا.

ربما يرجع ذلك كما شرحت فى مقال الأسبوع الماضى إلى أن تغيير الوعى مرهون بتغيير القيم والاتجاهات الكامنة فى الإنسان، والتى تتكون عادة فى السنوات الأولى من حياته، ثم تتكرس فيما بعد. لذلك، فإن تغيير الوعى يتطلب المعرفة بكيفية تكوينه وتشكيله حتى يمكن تحديد طريقة التأثير عليه وتغييره. وربما يرجع إلى أن الجهود الحكومية من أجل تغيير الوعى كانت قصيرة الأمد ولم تستمر لفترة كافية، وأصابها انقطاعات أو تغيرات لسبب أو لآخر. وربما لأن هذه الجهود كانت أحيانًا ذات طابع حكومى ورسمى أى من أعلى لأسفل وحسب، ولم تساندها جهود مجتمعية شعبية. وربما يرجع إلى غلبة الماضاوية فى تفكير كثير من المصريين وارتباطهم بالماضى وولعهم بالقديم.

وأتذكر جيدًا انه فى نهاية الستينيات، نشرت مجلة الطليعة الشهرية التى رأس تحريرها الأستاذ لطفى الخولى نصوص مقابلات مع بعض الأشخاص من العامة والبُسطاء، ومثلت صدمة للقارئ. فقد كشفت عن أن ما يختزله هؤلاء من معلومات وأفكار ووعى يختلف كثيرًا عن الأفكار الشائعة وقتذاك فى الإعلام والتنظيمات السياسية، والتى ساد الاعتقاد بأنها تغلغلت فى نفوس الناس.

تظهرُ مُشكلة تغيير الوعى عندما يسودُ فى مُجتمع ما قيم ووعى مُناهضة لمفهوم الدولة الوطنية الحديثة أو التقدم الاجتماعى، فيثور السؤال حول كيف يتغير الوعى، وما هى النظريات الكبرى فى هذا الشأن؟

هناك نظريتان رئيسيتان فى هذا الشأن. الأولى، تقول إن تغيير الوعى يكون بتغيير مضمون القيم والاتجاهات الموجودة لدى الإنسان من خلال تغيير الرسائل الثقافية والفكرية التى تبثها أدوات التنشئة الاجتماعية. ومن أهم رواد هذه النظرية دانيل ليرنر فى كتابه عبور المجتمع التقليدى، الذى ركز فيه على أهمية تغيير القيم والمعايير حتى يتم الانتقال إلى المجتمع الحديث. وحدد ليرنر قيمة التعاطف باعتبارها القيمة الرئيسية فى هذا الانتقال، وقصد بها قدرة الانسان على أن يضع نفسه فى مواقع الآخرين، واستعداده للتعاطف معهم، ومن ثم يحترم التقديرات والتفضيلات التى يعبرون عنها. ويندرج فى هذا الإطار الدعوات إلى إعادة كتابة المناهج الدراسية، وتطوير مضمون الخطاب الدينى، ومضمون الرسالة الإعلامية، وكل ما يتصل بالسياسة الثقافية.

والثانية، تنطلق من أن الوعى هو علاقة بين الإنسان وواقعه وبيئته، وأن استقرار القيم والاتجاهات لديه مرتبط بالواقع المادى الذى يعيشه. ويترتب على ذلك، أن أسلوب النصح والإرشاد وبث الرسائل الفكرية من خلال المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية لن يؤدى فى حد ذاته إلى تغيير الوعى، لأن تغييره يتطلب ـــ وفق هذه النظريةـــ تغييرالبيئة المادية المحيطة بالإنسان. ومن ثم، فإن الذين يرغبون فى تغيير وعى البشر فى مجتمع ما عليهم أن يركزوا على البيئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى يعيش الإنسان فى إطارها ويخضع لمؤثراتها ويتكون وعيه وفقًا لخبراته وتفاعلاته معها.

وأعتقد أن كلًا من الرأيين له ما يدعمه، وفيه قدر من الصحة. ومن الناحية العملية، لجأت الدول إلى تبنى سياسات تستفيد منهما وتمزج بينهما حسب كل حالة. وأعتقد أن هذا هو ما تقوم به مصر الآن: تغيير فى الواقع المادى المحيط بالإنسان، وبث مضمون جديد لمخاطبة العقل والوجدان.فى هذا السياق، يأتى أهم مشروع عمرانى واجتماعى مصرى منذ بداية القرن العشرين وهو تطوير الريف المصرى، والذى سوف يؤدى بعد اكتماله إلى إحداث نقلة مهمة فى نوعية الحياة التى يحياها البشر ومستوى معيشتهم، والخدمات المقدمة إليهم، ويترافق مع ذلك جهد ثقافى وتعليمى على مستوى الأفكار والقيم تُشارك فيه أجهزة الدولة والمُجتمع المدنى حتى يحدث التغيير المنشود فى الوعى. وأود تأكيد أهمية دور الجمعيات الأهلية فى هذا المجال.

ذكرت من قبل أن خبرة الفرد أو أحد القريبين منه هى أحد المصادر الرئيسية المباشرة لتكوين الوعى وتغييره. وتشير تجارب الدول الأخرى فى مجال رؤية الفرد لعلاقته بسلطات الحكم، ومدى ثقته فيها إلى عدة دروس. منها تطبيق القانون علىجميع المواطنين، وأن يسود الشعور بينهم بالعدالة وتكافؤ الفرص دونما حاجة لواسطة أو محسوبية. ويقود هذا إلى الوعى بأن المجتمع يوفر للجميع قنوات شفافة للحراك الاجتماعى والارتقاء الوظيفى والمادى حسب قدراتهم ومهاراتهم. كما يقود إلى خفض حدة التوترات فى المُجتمع، وشيوع مناخ من التسامح السياسى والاجتماعى، وزيادة فرص المشاركة التطوعية والسياسية، وازدياد ثقة المواطنين بمؤسسات الحُكم والإدارة. المهم، هو تطبيق قواعد ومعايير واحدة على الجميع.

ومن المُهم أن يستمر الحوار حول إشكالية تغيير الوعى فى بلادنا لأن الحديث عنه هو بحث فى شكل المستقبل الذى نريده لها.

نقلا عن الأهرام