البحث عن تعريف وعى الإنسان – الحائط العربي
البحث عن تعريف وعى الإنسان

البحث عن تعريف وعى الإنسان



عندما يثير الرئيس السيسى مشكلة الوعى ويعتبرها من أهم التحديات التى تواجه المجتمع والدولة اليوم على النحو الذى طرحته فى مقال الأسبوع الماضى، فإنه يُثير مسألة صعبة ليس من اليسير تقديم إجابات حاسمة أو قطعية بشأنها. فموضوع الوعى الإنسانى تتناوله علوم اجتماعية مختلفة من أهمها، علوم الانثروبولوجى، والنفس، والاجتماع، والسياسة، والاتصال والإعلام. وكل منها يدرس الوعى من منظور تخصصه، فيتناول تعريفه، ومصادر تكوينه وتشكيله، وعوامل تطوره وتغيره.

وتعبير الوعى يشير إلى معان مختلفة. فهناك التعريف اللغوى، ويقصد به معرفة الأشخاص والأحداث والأفكار. ووفقا له، فإن الوعى يعنى الإدراك والمعرفة. وهناك التعريف السوسيولوجى، الذى يُشير إلى إدراك الإنسان لذاته وما يميزه عن الآخرين، والشعور بالانتماء إلى جماعة. وحسب هذا التعريف، فإنه حالة عقلية ونفسية تبين علاقات الإنسان بمُحيطه المادى والاجتماعى. والتعريف الماركسى الذى يربط الوعى بالوضع الطبقى للإنسان وعلاقته بوسائل الإنتاج. والاستخدام الطبى، فيقال إن فلانا فقد وعيه أى أغمى عليه ولم يعد قادرًا على التمييز لفترة.

وتتفق العلوم الاجتماعية على أن وعى الانسان هو أساسًا ثمرة التفاعل بينه وبين المجتمع المحيط به، سواء المجتمع الصغير أو المحدود للإنسان كالأُسرة والحى أو القرية، والمجتمع الأكبر الذى يشمل المدينة والمحافظة فالوطن بأسره، والمجتمع الإنسانى أو العالمى الذى أتاحت تكنولوجيات الاتصال الحديثة التعرف عليه والتفاعل معه. ويستخدم البعض تعبير رؤية العالم للتعبير عن هذه الأُطر المختلفة لمفهوم الوعى. ويميز الباحثون بين مستويات الوعى ومجالاته وأنماطه ومصادر تكوينه. فمن حيث المستوى، يتم التمييز بين الوعى الفردى، أى الوعى الخاص بكل إنسان، والوعى الجماعى الخاص بمجموعات من البشر. أما من حيث المجالات، فتتعدد أشكال الوعى بين الوعى السياسى، الوطنى والقومى، والدينى، والطبقى، والاجتماعي-الثقافى وغيرها. وكذلك تتعدد أنماط الوعى من حيث مصادره وعوامل تشكيله، بين ثلاثة أنماط: أولها ذاتى يرتبط بالخبرة المُباشرة للإنسان أو لأحد القريبين منه. إذ يمكن لتجربة سلبية لأحد الأفراد فى هيئة حكومية مثلًا أن تمحو تأثير عشرات المحاضرات والندوات والبرامج التليفزيونية عن دور الجهاز الحكومى فى حل مشكلات المواطنين. وثانيها، فكرى أو تأملى تكون من خلال إعمال العقل والتفكير والاطلاع على خبرات آخرين فى الحاضر والماضى. وثالثها، حدسى يعتمد على معارف لا تعتمد على العلم أو الخبرة وإنما بناء على تصورات واعتقادات وتخيلات ذائعة.

ويختلف الوعى فى نطاقه بين وعى كامل وجزئى. ومن حيث تقييمه وتأثيره على علاقة الإنسان بمحيطه إلى وعى حقيقى أو وعى مشوش أو زائف. وكذلك بين وعى إيجابى يدفع الإنسان إلى العمل على تغيير الواقع الذى يعيشه وإصلاحه، ووعى سلبى يؤدى إلى الانطواء وعدم الانخراط فى تفاعلات اجتماعية وثيقة. وبصفة عامة، فإن اكتساب الوعى وتشكيله هو عملية تدريجية تتم على مدى سنوات عديدة، خصوصًا فى سنوات الطفولة والشباب. وتشارك فيها أدوات التنشئة الاجتماعية مثل الأسرة والدين والتعليم وجماعات الأقران والإعلام، والمؤسسات السياسية كالأحزاب والبرلمان والمجتمع المدنى، وكذلك مختلف الآداب والفنون. وتختلف درجة تأثير هذه الأدوات من فترة لأخرى، ومن شريحة اجتماعية لأخرى. وعلى سبيل المثال، فإن دور الأسرة أكبر فى المجتمعات القروية عنها فى البيئات الحضرية.

ويتوقف تأثير وسائل الإعلام على درجة مصداقيتها واعتقاد المستخدمين لها فى مهنيتها واحترافيتها وموضوعيتها. وأُشير فى هذا السياق إلى التطور النوعى المهم الذى حدث فى العقدين الأخيرين وهو ازدياد تأثير أدوات الاتصال الحديثة على تشكيل وعى الناشئة، واعتمادهم المفرط عليها كمصدر للمعلومات والأفكار والتقييمات.

ويتفق الباحثون على أن الوعى مفهوم معقد، وجهه الظاهرى هو ما يمارسه الإنسان من سلوك بالفعل أو القول، ومضمون هذا السلوك سواء فيما يتعلق بالنظرة إلى الغير أو التوجه نحو السلطة أو الموقف تجاه الأحزاب السياسية، وما يتصف به من تعصب وتشدد أو من تسامح وأريحية. لكن هذا السلوك الظاهرى ليس هو الوعى، فهو تعبير عن قيم واتجاهات أعمق فى داخل الإنسان والتى تُشير إلى القيم الحاكمة أو المُوجهة للسلوك بشكل معين، والتى تضع الإنسان فى حالة التأهب أو الاستعداد لانتهاج سلوك مُعين. وإذا كان السلوك الظاهرى يمكن تغييره فى وقت محدود بالإقناع أو الإذعان، فإن القيم والاتجاهات الداخلية تحتاج إلى أوقات أطول، فهى نتيجة عوامل عقلية ونفسية وحدسية وعصبية، إضافة إلى الخبرة المباشرة. وتلك القيم والاتجاهات هى بيت القصيد فى توصيف وعى الإنسان، كالاتجاه نحو الخضوع للسلطة أو التمرد عليها، والاتجاه نحو احترام القانون وتطبيقه أو السعى للتحايل عليه وتجاوزه، والاتجاه نحو العمل ومدى الحرص على أدائه بتميز أو التهاون فيه، والاتجاه نحو الغير ومدى الثقة فيهم أو مدى القبول والتسامح مع المُختلفين منهم. تغيير السلوك الظاهرى للبشر هو أمر ممكن، وتستطيع أى دولة فرضه من خلال القانون وآليات الرقابة بالحوافز والعقاب، ولكن ذلك ليس ضمانًا لتغيير القيم والاتجاهات إلا إذا تم تطبيق ذلك لفترة طويلة تمتد إلى عدة حقب. أما إذا ضعُفت يد الدولة أو خفت رقابتها بعد سنوات محدودة، فإن الأمور تعود إلى ما كانت عليه. لذلك، فإن التحدى الذى يواجه دُعاة الإصلاح الاجتماعى، هو كيفية تغيير القيم والاتجاهات لدى الأفراد والجماعات. وهذا ما سوف أتناوله فى مقال الأسبوع المقبل إن شاء الله.

نقلا عن الأهرام