مع تولي الرئيس “إيمانويل ماكرون” مقاليد الحكم في فرنسا، اكتسب “ملف الذاكرة” زخماً واسع النطاق في العلاقات الجزائرية الفرنسية، خصوصاً وأنه للمرة الأولى يحكم الدولتين (فرنسا والجزائر) رئيسان لم يعاصرا حرب الجزائر. وفي حين أن “ماكرون” قد بدأ حكمه بخطوات اعتُبِرَت تقاربية لتخفيف حدة التوتر بين الجزائر وفرنسا فيما يتعلق بإرث بلاده الاستعماري في الجزائر؛ اتخذت الأمور منحنى آخر، فلا تنفك الجزائر تطالب فرنسا بالاعتراف بمسؤوليتها عن إزهاق أرواح ما يزيد على خمسة ملايين جزائري. وفي المقابل، تُصر الأخيرة على رفض الاعتذار عن جرائمها الاستعمارية في الجزائر. وبين هذا وذاك، يتذبذب منحنى العلاقات بين الجانبين هبوطاً وصعوداً بين الفينة والأخرى، قبل أن تصل التوترات إلى مرحلة غير مسبوقة في الآونة الأخيرة، ولا سيَّما مع تصريحات الرئيس “ماكرون” في مطلع أكتوبر الماضي، التي وصف خلالها النظام الجزائري بـ”المتعب الذي أنهكه الحراك”، وانتقد ما أسماه “تزييفاً” في التاريخ الجزائري بمرجعية نابعة من “الكراهية لفرنسا”، مشككاً في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، وهو ما اعتبرته الجزائر “إهانة غير مقبولة”، وردت عليه بالاستدعاء الفوري لسفيرها لدى باريس، وإغلاق المجال الجوي للبلاد أمام الطائرات العسكرية الفرنسية المتجهة إلى منطقة الساحل في إطار عملية “برخان”.
دلالات جوهرية
يفتح بلوغ التوترات الجزائرية الفرنسية ذروتها الباب أمام تساؤلات جمة حول مستقبل العلاقات بين البلدين، وما إذا كانت نُذر التصعيد بين الجزائر وباريس ستجد طريقها إلى الخمود، وكذلك انعكاسات الأزمة على الملفات الاستراتيجية الأكثر تشابكاً وتعقيداً في العلاقات الثنائية بين الدولتين، ولا سيَّما التعاون العسكري بينهما. وفيما يلي إشارة إلى عدد من الدلالات الجوهرية:
1- إرث الاستعمار الفرنسي: ترجع التوترات بين البلدين إلى فبراير 2005، حينما أقر البرلمان الفرنسي قانوناً يعترف بـ”الدور الإيجابي للاستعمار”. ورغم إلغائه فيما بعد، فإنه تسبَّب في إبطال معاهدة الصداقة بين فرنسا والجزائر، التي وقّعها الرئيس الفرنسي الراحل “جاك شيراك” ونظيره الجزائري “عبدالعزيز بوتفليقة”. ورغم أن الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” كان أول من اعترف في سبتمبر 2018 بماضي فرنسا الاستعماري قبل نحو ستة عقود، ونظام التعذيب الممنهج الذي اتبعته ضد الجزائريين خلال حرب التحرير الجزائرية (1954-1962)؛ لكنه رفض الاعتذار عن تلك الجرائم. وفي حين كلّف في يوليو 2020، المؤرخ الفرنسي “بنجامين ستورا”، بإعداد تقرير عن الإرث الاستعماري الفرنسي في الجزائر، يتضمن توصيات لتعزيز العلاقات الجزائرية الفرنسية، وأعادت باريس إلى الجزائر في الشهر ذاته رفات 24 جزائريّاً من أبطال المقاومة الشعبية الذي لقوا حتفهم إبان الاحتلال الفرنسي؛ فقد كان التقرير الذي قدمه “ستورا” إلى قصر الإليزيه في 20 يناير 2021 حول “مصالحة الذاكرة” بين فرنسا والجزائر، موضع نقد من الجزائريين؛ لعدم تضمين “ستورا” توصية بضرورة تقديم فرنسا “اعتذاراً” عن ممارساتها في الجزائر إبان الحقبة الاستعمارية.
2- ملف الحراك الجزائري: ففي مايو 2020، تجددت التوترات بين الجانبين، حيث استدعت الجزائر سفيرها لدى فرنسا على خلفية بث فيلم وثائقي حول الحراك الجزائري على قنوات فرنسية رسمية. وفي الثامن من أبريل 2021، تم تأجيل زيارة رئيس الوزراء الفرنسي “جان كاستيكس” المُقرَّرة إلى الجزائر لأجل غير مُسمَّى، قبل موعدها بيومين فقط، بناءً على طلب الأخيرة، والتي كان مُرجَّحاً لها أن تُسهم في دفع التقارب الثنائي بين الجانبين الجزائري والفرنسي، وهو التأجيل الذي عكس خلافات الدولتين حول عدد من القضايا بما فيها قضية الحراك. وفي هذا الصدد، لم تكن النخبة الجزائرية الحاكمة راضية عن “دعم” الإعلام الفرنسي للحراك الشعبي الجزائري، ومن ثمَّ فقد آثرت قطع الطريق أمام الصحافة الفرنسية التي قد تستغل زيارة “كاستيكس” للتركيز على الحراك بشكل أكبر.
3- قضية الصحراء الغربية: وقد شكلت مدخلاً أساسياً للتوتر بين الجزائر وفرنسا، ولعل هذا ما دلل عليه إعلان حزب الرئيس الفرنسي “الجمهورية إلى الأمام” في اليوم ذاته الذي أُلغيَت خلاله زيارة رئيس الوزراء الفرنسي إلى الجزائر، عن تشكيل لجنة دعم في مدينة الداخلة في الصحراء الغربية، والتي يقع القسم الأكبر منها تحت سيطرة المغرب، وهو أمر تعتبره الجزائر الداعمة لجبهة البوليساريو “خطاً أحمر”، وربما عدته مؤشراً على احتمالية إقدام الحزب على الاعتراف بمغربية الصحراء.
4- محورية التوظيف الانتخابي: مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية المزمع عقدها في أبريل 2022، وتعاظم تأثير الخطاب اليميني المتطرف في المشهد الفرنسي، يمكن القول إن ثمة أهدافاً “انتخابية” تكمن وراء التصعيد الأخير من جانب الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، ولعلَّ صدور قرار الرئاسة الفرنسية بتشديد شروط منح التأشيرات لمواطني الجزائر، إلى جانب المغرب وتونس، في 28 سبتمبر الفائت، قبيل ساعات من الموعد الذي كانت تعتزم فيه “مارين لوبان”، زعيمة حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف، الإعلان عن خطتها بشأن الهجرة؛ يدعم صحة هذا الافتراض، لا سيَّما وأن التوترات بين فرنسا والجزائر لم تحتدم خلال السنوات الأربع الأولى من ولاية “ماكرون” إلى هذا الحد سوى مع قُرب انقضاء العام الأخير من ولايته.
محددان رئيسيان
فيما يتعلق بتداعيات الأزمة السياسية الراهنة بين الجزائر وفرنسا على العلاقات بين البلدين، يتعين الإشارة إلى محددين رئيسيْن في العلاقات الثنائية بين الجانبين، هما:
1- التعاون الاقتصادي: رغم التكهنات المُثارة باحتمالية تراجع العلاقات الاقتصادية بين الدولتين، على خلفية الأزمة السياسية بينهما، خصوصاً بعد خسارة شركات فرنسية كبيرة مكانتها في السوق الجزائرية، وتضييق الخناق على أنشطة بعض الشركات الفرنسية الأخرى، ومنها شركة “رينو” (Renault) للسيارات وغيرها؛ يستبعد الخبراء احتمالية أن تُلقي الخلافات السياسية بين الدولتين بظلالها على العلاقات الاقتصادية بينهما، ويرون أن الاضطرابات التي شهدتها أوضاع بعض الشركات الفرنسية في الجزائر قد تُعزَى إلى عوامل أخرى.
وفي هذا الإطار، تُعتبر الجزائر شريكاً اقتصادياً مهماً بالنسبة لفرنسا، وقد بلغت قيمة التبادل التجاري بين الدولتين 6.9 مليارات يورو في عام 2020، كما احتلت فرنسا المرتبة الثانية بعد إيطاليا من إجمالي صادرات الجزائر لعام 2020 بنسبة 13,3%. وقُدرت الاستثمارات الأجنبية الفرنسية المباشرة في الجزائر بـ2,9 مليار يورو، وهو ما يجعلها في المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا، وتتركز الاستثمارات الفرنسية في الجزائر في قطاعات استراتيجية رئيسية، هي: النشاطات المالية والتأمينات، والتصنيع، (السيارات، الصيدلة، الصناعات الغذائية والكيميائية)، والصناعات الاستخراجية.
2- التعاون العسكري: وهو من الملفات الأكثر تعقيداً وتشابكاً في العلاقات بين البلدين. فمن ناحية، أحدث القرار الجزائري في أكتوبر الماضي، بإغلاق المجال الجوي للبلاد أمام الطائرات العسكرية الفرنسية المتجهة إلى منطقة الساحل في إطار عملية “برخان”، صدعاً في التعاون العسكري بين الدولتين، حيث تستخدم فرنسا المجال الجوي الجزائري لتقديم الدعم لقواتها البرية في منطقة الساحل، والمقدرة بنحو 5000 جندي فرنسي. ورغم أن باريس يمكنها اللجوء إلى ممرات جوية بديلة عبر المغرب أو ليبيا، فإنها لن تُغني عن الثقل الاستراتيجي للجزائر في منطقة الساحل والصحراء، والذي جعلها شريكاً مهماً لفرنسا في مكافحة الإرهاب والتهديدات الأخرى في المنطقة. ويزداد المشهد قتامة في ضوء تصريحات “تبون” الأخيرة لصحيفة “دير شبيغل” الألمانية، في 6 نوفمبر 2021، والتي لوَّح خلالها بـ”التدخل العسكري الجزائري في مالي”، وهي ورقة غير معهود للنظام الجزائري توظيفها في سياسته الخارجية؛ إذ يرى مراقبون أن فرنسا قد تُدرك أنها المعني الرئيسي بتلك التهديدات، بالنظر إلى أهمية مالي بالنسبة للمصالح الاقتصادية الفرنسية في منطقة الساحل الإفريقي التي تعج بالثروات المعدنية، وتُعتبر مجالاً حيويّاً تاريخيّاً لفرنسا منذ حقبتها الاستعمارية، مما قد يفاقم التوترات بين البلدين، ما لم يتخذ كل منهما خطوات جادة لرأب الصدع ونزع فتيل الأزمة.
سيناريوهان محتمل
وختاماً، فإنه بطبيعة الحال لا يمكن الجزم بسيناريو أوحد لمستقبل العلاقات الجزائرية الفرنسية، غير أنه يمكن القول بوجود سيناريوهين مرجحين، يقضي أحدهما باستمرارية التصعيد بين الجانبين، ووصوله إلى مستويات أكثر سوءاً؛ استناداً إلى قُرب موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية المرتقبة في أبريل القادم، واحتمالية فوز أحد مرشحي اليمين المتطرف، وأبرزهم “مارين لوبان”، رئيسة حزب التجمع الوطني.
فيما يشير السيناريو الآخر إلى احتمالية أن يجد التصعيد بين الجانبين طريقه إلى التهدئة، وأن تكون هناك مصالحة بين الدولتين، وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً. فمن جهة، سيكون من غير الحكمة أن تلجأ فرنسا إلى تفجير الأزمة مع الجزائر بما يُمهد الطريق أمام قوى دولية منافسة للتقارب مع الأخيرة، لا سيَّما في ظل بروز التنافس الفرنسي-التركي في الشمال الإفريقي، وحاجة باريس إلى الجزائر لمواصلة جهود مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي. ومن جهة أخرى، فإنه مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية، لن يرغب “ماكرون” في خسارة أصوات الجالية الجزائرية الكبيرة في البلاد، والتي يبلغ عددها قرابة خمسة ملايين شخص. ومع ذلك، سيتوقف الأمر على مدى وجود إرادة حقيقية لدى النخب السياسية الفرنسية والجزائرية للمضي قدُماً في ملف “مصالحة الذاكرة”، وتغليب المصالح المشتركة بين الدولتين.