ارتدادات عكسية:
كيف تعزز السياسات الأمريكية إعادة الاصطفافات الإقليمية؟

ارتدادات عكسية:

كيف تعزز السياسات الأمريكية إعادة الاصطفافات الإقليمية؟



رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت حريصة على توجيه رسائل مباشرة لكلٍ من حلفائها وخصومها بمنطقة الشرق الأوسط في آن واحد، عبر تحليق القاذفة “B-1B Lancer” في أجواء المنطقة، في 30 أكتوبر الفائت، إلا أن ذلك لا ينفي، وفقاً لرؤية اتجاهات عديدة، تراجع أولوية الشرق الأوسط بالنسبة لها، لأسباب تتعلق بمصالحها في المنطقة وأخرى ترتبط بالداخل الأمريكي وثالثة تتصل باتساع نطاق التنافس مع الصين في منطقة “إندو- باسيفيك”. وقد بدا أن هذا التغير البارز في الاستراتيجية الأمريكية دفع تلك الأطراف إلى إعادة تقييم مواقفها إزاء بعض التحولات الاستراتيجية التي تشهدها المنطقة في الفترة الحالية، على نحو فرض حالة من السيولة في أنماط التفاعلات التي تجري على الساحة الإقليمية.

مؤشرات عديدة

يمكن القول إن السياسات التي اتبعتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال الأشهر الماضية تجاه أزمات منطقة الشرق الأوسط، كانت أحد الأسباب التي دفعت في اتجاه إعادة ترتيب الاصطفافات الإقليمية في المنطقة، على نحو يبدو جلياً في مؤشرات عديدة، يتمثل أبرزها في:

1- تعزيز التعاون بين تركيا وروسيا: أدى التوتر الذي تشهده العلاقات الأمريكية- التركية خلال السنوات الخمس الماضية بصورة غير مسبوقة، إلى توجه تركيا نحو تعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا. فإلى جانب اتساع نطاق العلاقات الاقتصادية بين أنقرة وموسكو، حيث وصلت قيمة التبادل التجاري بين الطرفين، وفقاً لبعض التقديرات، إلى أكثر من 25 مليار دولار، فقد شهدت العلاقات العسكرية بينهما طفرة غير مسبوقة، حيث اشترت تركيا أنظمة الدفاع الجوي الروسية “S-400” على الرغم من اعتراضات واشنطن وفرض عقوبات على إدارة الصناعات الدفاعية التركية ورئيسها إسماعيل دمير بموجب قانون “كاتسا” (قانون مكافحة أعداء الولايات المتحدة الأمريكية من خلال العقوبات) الصادر في عام 2017، والذي يقضي بفرض عقوبات على الدول التي تتعاون مع أعداء الولايات المتحدة الأمريكية، وفي صدارتها روسيا. وقد كان لافتاً أن الرئيس الأمريكي جو بايدن عبّر عن القلق الأمريكي إزاء تلك الصفقة العسكرية خلال لقاءه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على هامش اجتماعات قمة مجموعة العشرين في روما في 31 أكتوبر الفائت. إلا أن أنقرة تبدو مُصِرَّة على المضى قدماً في تنفيذ الصفقة.

2- توقيع اتفاق استراتيجي بين الصين وإيران: أبرمت الصين اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة لمدة ٢٥ عاماً مع إيران، في 27 مارس الماضي، تركزت حول التعاون الاقتصادي والأمني، وتضمنت وعوداً باستثمارات صينية بقيمة ٤٠٠ مليار دولار مقابل إمدادات نفطية. وتأتي تلك الاتفاقية في سياق مساعي بكين لتعزيز علاقاتها مع دول المنطقة والتأكيد على التزامها بأمن الشرق الأوسط واستقراره، ومعارضتها التدخلات الأجنبية. ويتوازى ذلك، من دون شك، مع تطلع الصين إلى تعزيز استثماراتها في إطار مبادر “الحزام والطريق” التي ترتبط بمشاريع التنمية المحلية في عدد من دول المنطقة.

3- انفتاح عربي على نظام بشار الأسد: شهدت الأشهر الماضية تزايد مؤشرات التقارب العربي مع سوريا، حيث تحدث العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني مع الرئيس السوري بشار الأسد لأول مرة منذ عِقد، في 3 أكتوبر الفائت. وقد أعيد فتح الحدود بين سوريا والأردن بالكامل في 29 سبتمبر الماضي. وكانت عمّان قوة دافعة وراء صفقة نقل الغاز الطبيعي المصري إلى لبنان عبر سوريا، كما أنها تقوم بإمداد لبنان بالطاقة الكهربائية عبر سوريا أيضاً. وتشير تقديرات أمريكية إلى أن عدداً من حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة يطالبون إدارة الرئيس جو بايدن برفع الحصار عن دمشق والسماح بإعادة اندماجها إقليمياً.

4- تنامي مبيعات الأسلحة الصينية لدول المنطقة: على الرغم من أن مبيعات الأسلحة الصينية إلى دول منطقة الشرق الأوسط لا تزال محدودة في الوقت الحالي، إلا أن هناك توجهاً لزيادتها، مع استغلال تحفظ الولايات المتحدة الأمريكية على العديد من صفقات التسلح لعدد من شركائها الاستراتيجيين في المنطقة، فضلاً عن تطلع بعض خصومها للحصول على أسلحة صينية. وربما تتزايد مبيعات الأسلحة الصينية في المنطقة، في ضوء تصاعد حدة التنافس بين الطرفين في منطقة التقاء المحيطين الهادئ والهندي “إندو- باسيفيك” على ضوء التوجهات الأمريكية الجديدة والتي قد تحاول بكين الرد عليها عبر اتخاذ إجراءات تنفيذية في هذا السياق.

5- انخراط إقليمي ودولي في أفغانستان: مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، شرعت بعض القوى الإقليمية والدولية في تعزيز حضورها على الأراضي الأفغانية على المستويات المختلفة السياسية والاقتصادية والعسكرية. وتعد إيران من أبرز الدول التي تسعى إلى تحقيق ذلك، فخلال لقاء السفير الإيراني لدى كابول بهادر امينيان بوزير خارجية طالبان امير خان متقي، في 23 أكتوبر الفائت، أكد على أن بلاده مستعدة للاستثمار في مختلف القطاعات الأفغانية بما في ذلك التعدين والتجارة والصحة. وقد استضافت طهران- التي تحافظ على اتصالاتها بجميع الأطراف في أفغانستان بما في ذلك حركة طالبان- في ٢٧ أكتوبر الفائت، مؤتمراً لوزراء خارجية دول الجوار الأفغاني إلى جانب روسيا، والذي ناقش مستقبل أفغانستان ودعا إلى تشكيل حكومة جديدة، في وقت ينتاب إيران قلق بشكل أساسي من اندلاع حرب أهلية محتملة في أفغانستان، والتي قد تنتقل إلى الداخل الإيراني مع صعوبة تأمين الحدود الطويلة مع أفغانستان بسبب جغرافيتها. وتحاول إيران بالتعاون مع الدول المجاورة إقناع حركة طالبان بتشكيل حكومة بمشاركة القوميات الأخرى. وربما ترى أن ذلك يمثل مدخلاً مهماً لتعزيز حضورها ومواجهة المعطيات الجديدة التي فرضها الانسحاب العسكري الأمريكي.

وعلى الرغم من أن بعض التحليلات الأمريكية أشارت إلى أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان سيفرض العديد من القيود على روسيا والصين اللتين تسعيان إلى منافسة الولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الدولية، باعتبار أنه سوف يؤدي إلى انشغالهما بالتهديدات الإقليمية التي ستترتب عليه، لاسيما فيما يتعلق بعودة حركة طالبان للسيطرة على الحكم، إلا أن ذلك لا ينفي أن الدولتين حاولتا استغلال الانسحاب الأمريكي لتعزيز تواجدهما ونفوذهما داخل أفغانستان.

وقد هدفت الصين من انخراطها في الشأن الافغاني إلى تحقيق العديد من المكاسب الاقتصادية لما تملكه أفغانستان من مخزون هائل من المعادن، فضلاً عن استقطاب دعم طالبان لمبادرة “الحزام والطريق”، لتشارك في الربط مع الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان. ويأتي تقارب بكين مع طالبان في إطار الاستراتيجية الصينية للمنافسة مع الولايات المتحدة الأمريكية والسعى إلى ملء الفراغ الأمريكي في آسيا الوسطى، من خلال تقديم نفسها كبديل للأخيرة.

تفاعلات متوازية

في النهاية، يمكن القول إن التغير الملحوظ في الاستراتيجية الأمريكية يبدو أنه سوف يفرض مزيداً من الأنماط المتباينة في التفاعلات بين القوى الإقليمية والدولية المختلفة، والتي سوف تسعى إلى تبني خطوات تنفيذية للتعامل مع الترتيبات السياسية والأمنية التي تجري صياغتها في مناطق مختلفة من العالم، بناءً على المعطيات الجديدة التي تشهدها الساحة الدولية في ضوء هذا التغير.