اليابان حكاية لا تمل. تعددت الروايات وبقيت الأسس والمحطات والمعالم راسخة وواضحة. انبهرتُ بها شاباً وانبهرتُ بها شيخاً. من حسن حظي وأنا في السنوات النهائية من المرحلة الثانوية علمني معلم بعض تاريخ العالم، معلم تعمق في فهم شؤون اليابان. كان أيضاً دارساً للفلسفة وعقائد الآسيويين. تصادف أن كنا نعيش حالة ثورية وبالدقة حالة «قبل ثورية» إن صح القول. حكى كثيراً عن المقاومة الآسيوية للاستعمار الغربي في مختلف مراحله، مركّزاً على محطات مهمة مثل ثورات الهنود ضد استعمار شركة الهند الشرقية منذ منتصف القرن الثامن عشر، وبخاصة الثورة الكبرى التي نشبت في أواسط القرن التاسع عشر. ركز على عناصر النهضة اليابانية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقارن بينها وبين محاولات النهضة في مصر خلال هذا القرن. اهتم أيضاً بالحرب التي نشبت في أوائل القرن العشرين وبالدقة في عامي 1904 و1905 بين اليابان ومعها الدولة الآسيوية، وروسيا وومعها الدولة الأوروبية، وهي الحرب التي انتهت بانتصار حققه اليابانيون ضد الروس، فكان فاتحة تفاؤل وأمل في إمكان صعود الشعوب الملونة وانتصارهم على الرجل الأبيض. أذكر كيف داعب المعلم عواطفنا الشابة بعرض تفاصيل رد فعل المصريين في ذلك الوقت، وخروجهم إلى الشوارع احتفالاً بالنصر الياباني.
سمحت الظروف أن ألتقي أكاديميين ومؤرخين ودبلوماسيين، وأن أزور طوكيو كعضو في وفد مؤسسة الأهرام. استطعت خلال الزيارة استطلاع رأي بعض طلبة الجامعة حول قضية كانت تشغلني. خلصت وقتها إلى أن اليابان تمكنت بنجاح فائق من الجمع بين القديم والجديد، بتناسق وانضباط لم تنجح فيه ثقافة أخرى. قابلت خريجات عائدات للتوّ من جامعات في كاليفورنيا جرى تعيينهن في وظائف تدريس أو تخطيط لبرامج ومناهج التربية. علمت أنهن قبلن بكل الرضا العمل بمرتب أقل كثيراً مما حصل عليه رفاقهن العائدون معهن من البعثة التعليمية. قالت إحداهن إنها لم تعترض لأسباب متعددة أولها أنه لا يجوز لها في التقاليد الاعتراض على رأي أو تكليف صادر من سلطة أعلى. ثانياً أنها بحكم التقاليد لا يحق لها أن تتساوى بالرجل، رغم أنها قضت في أمريكا قسطاً معتبراً من سنوات شبابها متساوية بذكور من كافة الأجناس والأديان. أذكر أنها علقت قائلة: «كيابانية أعتقد أنني أملك القدرة على أن أتغير دون المساس بثوابت يابانية مغروسة في شخصيتي. أعترف لك كذلك بأنني أملك القدرة على أن أعود في أي وقت إلى ما كنت عليه قبل التغيير ببساطة ويسر وبدون أي تعقيدات».
بهذه الكلمات، وتجارب التاريخ الثقافي والسياسي في اليابان، أقدم لطرح فهمي لعملية وإجراءات التغيير الملحوظ مؤخراً في مسار السياسة الخارجية اليابانية. بداية أصرح بأن التغيير الذي نتحدث عنه نحن وغيرنا من المحللين وصناع الرأي لا يوصف بأي حال بالثورية. على ضوء هذا التحفظ ألخص فيما يلي ما أراه أسباباً وراء التغيير الملحوظ في السياسة الخارجية لليابان:
أولاً: ظهور جيل في الحزب الليبرالي الديمقراطي، الحاكم أغلب الوقت، أكثر تحرراً من القيود الدستورية التي التزمت بها الطبقة السياسية اليابانية منذ أن استسلمت اليابان للجنرال دوجلاس ماكارثر.
ثانياً: دخلت الصناعة اليابانية مرحلة تستحق أن توصف بالنهضة الثانية في قطاع التكنولوجيا المتقدمة، وبخاصة فيما يتعلق باستخدامات الذكاء الاصطناعي. يتطلب الأمر، أو يفرض الحاجة إلى علاقات جديدة أو أقوى مع دول متزايدة العدد حققت تقدماً استثنائياً في هذه المجالات.
ثالثاً: أمريكا تنادي على الأصدقاء. صارت الحقيقة أوضح من أي وقت. أمريكا الدولة الأعظم فقدت بعض عظمتها بحكم الوقت والتحول في توازنات القوة صعوداً للبعض وانحداراً لبعض آخر، وبالتالي صارت تبحث عن أعضاء لتحالفات مبتكرة. المهم من وجهة نظرها أن يتعدد الحلفاء الأقرب إلى موقع الخصم، هؤلاء سوف يشكلون رؤوس حربة أو مواقع تصدّ ضربات الخصم ومحاولاته التوسع في الإقليم. هنا تكون اليابان النموذج الأصلح للعب هذا الدور بدليل ولائها المشهود لأمريكا وقابليتها الاستثنائية للخضوع أمام الإرادة الأمريكية. على كل حال يجب على المحلل توخي الحذر في اقترابه من هذه العلاقة الاستثنائية؛ إذ لا يمكن أن يغيب عن ذهن النخبة اليابانية حقيقة أن أمريكا أثبتت لحلفائها التقليديين في السنوات الأخيرة أنها قائد غير مضمون الجانب.
رابعاً: ظلت الحملة تتصاعد لدعم تايوان من خطر زحف حكومة بكين إلى حد ارتكاب مجازفات متهورة من جانب مختلف الفرقاء. تايوان تقع ضمن دائرة الأمن القومي الياباني ولها تاريخ غير عادي مع النظام الاستعماري الياباني. تعلم اليابان علم اليقين أن الصين لن تدع أي فرصة لاستعادة تايوان تفوت، وسوف تواصل الضغط بالمناورات البحرية والاستمرار في تحشيد الجنود والمدنيين في الأقاليم المواجهة لتايوان.
خامساً: لم تخفِ طوكيو حماستها لتدشين حلف «الكواد»، أي الحلف الذي يجمع مع الولايات المتحدة أستراليا والهند واليابان. أعتقد، كما يعتقد محللون آسيويون في سنغافورة، أن اليابان صاحبة فكرة إقامة هذا الحلف وليس أمريكا. إن صح هذا الاعتقاد نكون أمام دليل إضافي على التغيير الذي يحدث في السياسة الخارجية اليابانية.
تتغير السياسة الخارجية لليابان، وتبقى الصين خصماً لا يغادر. الصين بالنسبة لليابان ليست كما هي بالنسبة للولايات المتحدة. الصين بالنسبة لأمريكا منافس يمكن بجهد كبير وتكلفة باهظة إخراجه من المنافسة أو خروج أمريكا منها. أما الصين بالنسبة لليابان فأمر مختلف. الصين لم تحاول حتى الآن أن تغفر لليابان جرائمها في منشوريا وفي نانكينج عاصمة البلاد في الفترة بين الحربين العالميتين. في الوقت نفسه لم تسعَ اليابان سعياً جاداً في طلب الغفران، وفي ظني أنها حتى إن فعلت فلن تحصل عليه في الأجل المنظور.
نقلا عن الخليج