شهدت دول المنطقة في السنوات الأخيرة تصاعد ظاهرة التخارج السياسي وتفكك تحالفات سياسية طالما وصفت بالتحالفات المستقرة. فعلى امتداد دول المنطقة،تزايدت الخلافات بين العديد من القوى السياسية، على غرار تلك الموجودة في العراق ولبنان والمغرب وتونس وكذلك السودان مؤخراً. وارتبطت هذه الخلافات بالتنافس على السلطة، والتنازع حول طريقة إدارة التفاعلات السياسية، فضلاً عن تراجع أهمية الطابع “الأيديولوجي” كمحدد رئيسي في التحالفات السياسية بالمنطقة، وتزايد حضور النزعة البراجماتية سواء على مستوى العلاقات الإقليمية أو حتى على المستوى الداخلي. ويلاحظ أيضاً أن بعض التحالفات التي نشأت في دول المنطقة كانت بمثابة تحالفات ظرفية متعلقة بالتعامل مع قضايا بعينها، ومواجهة تهديدات محددة، على غرار تحالف “الحشد الشعبي” في العراق الذي ظهر لمواجهة تهديدات “داعش”، وبالتالي أسفر تراجع التهديدات عن غياب المبرر الرئيسي لنشوء التحالف، ومن ثم أفسح المجال لتفككه.
مؤشرات مختلفة
ربما يكون التفكك هو السمة الرئيسية للتحالفات السياسية بدول المنطقة في الآونة الأخيرة.ففي العراق، أفضت الخلافات التنظيمية والفكرية بين الفصائل المكونة لـ”الحشد الشعبي”إلى انقسامات كبيرة عبّر عنها إعلان “ألوية المرجعية”، أو ما يطلق عليه “حشد العتبات”، نهاية عام 2020، الخروج من تحت لواء “الحشد الشعبي” وارتباطها بمكتب القائد العام للقوات المسلحة، ومن ثم، تحول “الحشد” إلى كتلتين رئيسيتين هما “حشد العتبات”و”الحشد الولائي”.
وكان لهذه الظاهرة أيضاً حضور في لبنان، فبالرغم من التحالف القائم بين “حزب الله” و”حركة أمل”، فقد ظهرت خلافات بينهما في السنوات الأخيرة وخاصة مع بعض التباينات السياسية بينهما. علاوة على ذلك، فإن التطورات الأخيرة التي يشهدها لبنان بعد الاشتباكات المسلحة التي وقعت في بيروت في 14 أكتوبر الجاري، وأفضت إلى سقوط عدد من القتلى، يحتمل أن تؤدي إلى تزايد الخلافات بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” والرئيس اللبناني ميشال عون، ولاسيما أن الاشتباكات استدعت مجدداً الديناميات الطائفية، بين الشيعة والمسيحيين، كملمح هام من ملامح المشهد السياسي اللبناني.
لقد كانت ظاهرة التفكك أكثر بروزاً في نطاق تيارات الإسلام السياسي في المنطقة.ففي خضم الأزمات التي واجهتها حركة “النهضة” التونسية، تنامت الانشقاقات الداخلية، واستقال عدد من القيادات من الحركة مثل عبد الحميد الجلاصي، أحد أبرز القيادات التاريخية فيها، وآمنة الدريدي، ولطفي زيتون الذي كان المستشار السياسي السابق لراشد الغنوشي، وأحد المقربين منه.كما شهدت جماعة “الإخوان” في ليبيا انشقاقات عديدة خلال السنوات الأخيرة، فعلى سبيل المثال، أعلنت قيادات الجماعة في مدينة الزاوية، في 13 أغسطس 2020، استقالتها الجماعية وحل فرع التنظيم في المدينة، وفي 22 أكتوبر من العام ذاته أعلن فرع مصراتة حل نفسه وإغلاق مكاتبه، وفي 4يوليو الماضي، قدم عدد من القيادات التنفيذية في حزب “العدالة والبناء”، الذراع السياسية لجماعة الإخوان في ليبيا، استقالاتهم. وتكرر هذا المشهد مع حزب “العدالة والتنمية” المغربي، إذ تعرض الحزب لموجات من الاستقالات مثل تلك التي جرت في 16 أغسطس الماضي، حيث تقدّم 44 عضواً في الحزب، باستقالاتهم من بينهم مستشارون وقياديون بالاتحاد الوطني للشغل، ووجوه فاعلة في حركة “التوحيد والإصلاح”، الذراع الدعوية للحزب.
دوافع رئيسية
يرتبط التفكك، وكذلك حالة الضعف التي تمر بها بعض التحالفات السياسية في دول المنطقة، بعدد من الدوافع الرئيسية التي يمكن تناول أبرزها على النحو التالي:
1- تصاعد الصراع على الزعامة: وهو المتغير الحاضر في التحالفات التي تضم مجموعة من القوى المتقاربة فكرياً ومذهبياً، وبالتالي تخاطب نفس الشريحة الجماهيرية والأتباع. وتظهر مؤشرات هذا الصراع في العلاقة بين “حزب الله” و”حركة أمل”. صحيح أن هناك تحالفاً تاريخياً يجمع بينهما كممثلين للشيعة في لبنان، ويصعب القول إن ثمة تفككاً ممكناً في تحالفهما على أقل تقدير في المدى القصير،بيد أن هذا التحالف لم يمنع ديناميات التنافس بينهما على زعامة الطائفة الشيعية، حيث حاول “حزب الله” في السنوات الماضية توسيع نطاق سيطرته ونفوذه في مناطق تواجد ونفوذ “حركة أمل” التاريخية، وذلك عبر عدد من الأدوات في مقدمتها المساعدات المالية والغذائية، ففيما كان الحزب يتوسع في تقديم المساعدات، بدأت الحركة تنظر إلى هذه السياسة باعتبارها مزايدة من جانب الأول للسيطرة على الشارع الشيعي.
2- اتساع نطاق الخسائر السياسية: شكلت الاستحقاقات السياسية مُحفِّزاً رئيسياً لتصاعد ظاهرة التخارج السياسي في العديد من دول المنطقة،لأنها كشفت، بشكل أو بآخر، عن تآكل الحاضنة المجتمعية لعدد من القوى السياسية.فعلى سبيل المثال، كانت الانتخابات التشريعية الأخيرة في المغرب، التي أجريت في 8 سبتمبر الفائت، لحظة كاشفة لحزب “العدالة والتنمية”، حيث تعرض الحزب، المُعبِّر عن تيار الإسلام السياسي في المغرب، لهزيمة كبيرة وحصل على 13 مقعد فقط بعدما كان حاصلاً على 125 في الانتخابات السابقة عام 2016. وسرعان ما أفضت هذه النتائج إلى موجة جديدة من الانشقاقات داخل الحزب، لاسيما مع إعلان الأمانة العامة تقديم أعضائها، وعلى رأسهم الأمين العام سعد الدين العثماني، استقالاتهم بعد إجراء الانتخابات بيوم واحد.
3- الخلاف حول آليات إدارة التحالف: تعود بعض حالات التفكك إلى التباين حول طريقة إدارة التحالف والأطر التنظيمية الحاكمة لعلاقة المكونات الداخلة فيه. ظهر ذلك الأمر في حالة تيار الإسلام السياسي، فالعديد من حالات الانشقاقات الداخلية في أحزاب التيار كانت ناتجة عن الاقتناع بأن قيادة التنظيم غير مؤهلة للقيادة، ولذا تعرضت قيادة حركة “النهضة” التونسية لانتقادات حادة نتيجة لمعارضة طريقة إدارة راشد الغنوشي للحركة، واستمراره في قيادة الحركة بالرغم من المطالب المتزايدة بتنحيه، فثمة تيار داخل الحركة يرفض بقاء الغنوشي رئيساً لها، وعبّر هذا التيار عن موقفه من خلال توجيه رسالة وقعها 100 قيادي، في 17 سبتمبر 2020، طالبت الغنوشي بالإعلان الفوري عن عدم نيته الترشح مجدداً لرئاسة “النهضة”.
وقاد حملة معارضة بقاء الغنوشي رئيساً لحركة “النهضة”، عدد من القياديين البارزين بالحركة، أهمهم عبد اللطيف المكي وسمير ديلو. وتزايدت المعارضة للغنوشي مؤخراً بعد القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد، في 25 يوليو الماضي، بتجميد عمل البرلمان. ووفقاً لعدد من التقارير، طالبت قيادات بارزة في الحركة، في مقدمتهم سمير ديلو وعبد اللطيف المكي، بإقالة الغنوشي وتحمل الحركة مسئوليتها عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في تونس.
4- تراجع الثقة بين الشركاء: وهو عامل ظهر تأثيره بصورة كبيرة في الحالة السودانية مؤخراً عقب تزايد الخلافات بين المكونين المدني والعسكري للسلطة،وانتقال هذه الخلافات إلى الشارع،حيث خرجت تظاهرات مُعارِضة للحكومة في الخرطوم في 16 أكتوبر الجاري، للتعبير عن تأييدها لمطالب حلها، وهو ما دفع قوى “الحرية والتغيير” للدعوة إلى خروج مظاهرات مؤيدة للحكم المدني في 21 من الشهر نفسه تحت شعار “مواكب الردع” لدعم التجربة المدنية ورفض الحكم العسكري. ولم تكن هذه الخلافات السياسية سوى انعكاس لمعضلة الثقة الحاكمة للعلاقة بين المدنيين والعسكريين.
5- الاستفادة من آليات الدمج: كان التفكك داخل مليشيا”الحشد الشعبي” في العراق، والانقسام إلى “حشد العتبات” و”الحشد الولائي”، مدفوعاً، في جانب رئيسي منه،بمحاولة الاستفادة من آليات الدمج العسكري لعناصر “الحشد” في مؤسسات الدولة.ففي المؤتمر الأول لـ”حشد العتبات”، الذي عقد في أول ديسمبر 2020، أكدت الفصائل على الالتزام الكامل بالقانون والدستور العراقي، وطالبت رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بتطبيق قرار ارتباط “حشد العتبات” بالقائد العام للقوات المسلحة، بدلاً من “هيئة الحشد الشعبي”، بحسب الأمر الديواني الصادر من رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، وإتمام الخطوات اللازمة للدمج.
اتجاه مستمر
ختاماً، من الصعب القول بأن ظاهرة التفكك والانقسامات داخل التحالفات السياسية بالمنطقة سوف تتراجع في دول المنطقة خلال الفترة القادمة، لاسيما مع المتغيرات التي تشهدها المنطقة، على خلفية الانسحاب الأمريكي، ومحاولة الدول صياغة علاقات بينها بناءً على حسابات براجماتية، فضلاً عن تراجع التهديدات التي كانت دافعة لتأسيس بعض التحالفات السياسية، على غرار تهديدات”داعش” ودورها في تشكيل تحالف “الحشد الشعبي” في العراق. ففي سياق هكذا، حيث يصعب تحديد المساحات الفاصلة بين الداخل والخارج في العملية السياسية، يمكن أن يكتسب مسار التخارج السياسي المزيد من الزخم.