تزايدت الأهمية المحورية لبعض المناطق والأقاليم الجغرافية داخل الدولة الواحدة في تفاعلات الشرق الأوسط، خلال عام 2021، وهو ما برز جلياً في حالات جغرافية مختلفة مثل بوادر انشقاق معلن بين رئيس الحكومة الليبية عبدالحميد الدبيبة ووكلاء وزارة في إقليم برقة، واشتداد حدة التنافس بين الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في دائرة منطقة سنجار شمال غرب محافظة نينوى بالعراق وخاصة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال الكردستاني، وارتفاع نسبة مشاركة قاطني الأقاليم الصحراوية في الانتخابات البرلمانية بالمغرب بما يعكس حسها الوطني وتنامي الاهتمام الملكي بتلك الأقاليم، وهيمنة حركة “طالبان” على الأقاليم الاستراتيجية في أفغانستان على نحو سهّل لها السيطرة على البلاد ككل، واستمرار تفاقم حدة الأزمة الإنسانية في إقليم تيجراى بإثيوبيا على خلفية الاشتباكات المسلحة بين الحكومة الاتحادية المدعومة بقوات إريترية ومقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير تيجراى (الحزب الحاكم في الإقليم سابقاً).
وتشير تفاعلات الشرق الأوسط إلى تعاظم دور بعض الأقاليم الجغرافية داخل الدولة، وارتباطها بمتغيرات مختلفة، وذلك على النحو التالي:
كتلة برقة
1- بوادر انشقاق معلن بين الدبيبة ووكلاء وزارة في إقليم برقة بليبيا: وهو ما جاء على خلفية انتقادات حادة وجهها نائب رئيس الحكومة الليبية حسين القطراني إلى رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة، في 10 أكتوبر الجاري، إذ اتهمه بالاستحواذ على السلطة والتعدي على صلاحيات الوزراء والتفرد بالقرارات، على نحو قد يهدد إجراء الانتخابات في موعدها المقرر في 24 ديسمبر المقبل، بما يعرقل خارطة الطريق. وقد جاء ذلك في اجتماع طارئ بمدينة بنغازي، حضره إلى جانب القطراني، وزراء ووكلاء الحكومة في إقليم برقة، وعمداء البلديات.
ويضاف إلى هذه الاتهامات الانتقادات التي تواجهها حكومة الدبيبة لاسيما فيما يتعلق بفشلها في تنفيذ المشاريع التي تعهدت بحلها، على رأسها تحسين الخدمات العامة لليبيين، وتوحيد المؤسسات وتنظيم الانتخابات، وإهدار المال العام، وهو ما دفع البرلمان إلى سحب الثقة منها، في 21 سبتمبر الماضي. وفي هذا السياق، في حال استمر أداء الحكومة الليبية على المنوال نفسه، من المحتمل انسحاب وزراء إقليم برقة من الحكومة، لاسيما بعد تجاهل الدبيبة مطالبهم وخاصة في أعقاب تغيير رئيس مجلس إدارة شركة الاتصالات وتقنية المعلومات. وينذر تصاعد الخلافات بين الدبيبة وممثلي الإقليم بانهيار الحكومة.
ثنائية الشرعية
2- اشتداد حدة التنافس بين الأحزاب المشاركة في دائرة سنجار بالعراق: وذلك خلال فعاليات الانتخابات التي شهدتها في 10 أكتوبر الجاري، وهو ما يعكس سيطرة فصائل مسلحة على تلك المنطقة ذات البعد الاستراتيجي الهام، في المثلث الحدودي العراقي- السوري- التركي، ولا يخضع لسلطة القوات النظامية العراقية، سواء الجيش أو الأجهزة الأمنية، وهو ما أوضحه الحزب الديمقراطي الكردستاني في بيان بأن هناك أحزاباً وقوى سياسية تمنع مرشحيه بقوة السلاح من الوصول إلى تلك المنطقة وتنظيم مؤتمر انتخابي خاص بالحزب في المنطقة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن اتهام الحزب الديمقراطي الكردستاني موجه بالأساس لحزب العمال الكردستاني الذي يسيطر فعلياً على تلك المنطقة، والمتحالف مع فصائل من “الحشد الشعبي”، لاسيما بعد إرسال حزب العمال مقاتليه في منتصف عام 2014 إلى تلك المنطقة لمواجهة تنظيم “داعش” الذي غزا المنطقة، ونفذ عمليات إرهابية وإجرامية بحق الإيزيديين، لكن بعد تحرير تلك المناطق من سيطرة “داعش” في عام 2017، رفض مقاتلو حزب العمال الكردستاني مغادرتها، بحجة منع عودة المنتمين للتنظيمات المتطرفة إليها، ولم تتمكن الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان من إعادة السيطرة على تلك المنطقة حتى الآن رغم وجود اتفاق أمني بشأن ذلك، وهو ما يعكس ثنائية الشرعية على مدى السنوات الأربع الماضية.
الروح الوحدوية
3- ارتفاع نسبة مشاركة قاطني الأقاليم الصحراوية في الانتخابات المغربية: دأب سكان الأقاليم الصحراوية على المشاركة الكثيفة في الاستحقاقات الانتخابية الوطنية، وهو ما جرى في انتخابات 8 سبتمبر الفائت، بحيث تجاوزت معدلات التصويت 70 في المئة، على نحو يعكس الحس الوطني العالي للقاطنين في هذه الأقاليم، التي تضم ثلاث جهات، هى جهة العيون الساقية الحمراء، وجهة الداخلة وادي الذهب، وجهة كلميم واد نون، وبما يمثل رداً على أعداء الوحدة الترابية. غير أن هناك تفسيرات أخرى لزيادة المشاركة منها أن هناك وعياً محلياً بإمكانية تحول تلك الأقاليم إلى وجهة تنموية استراتيجية، تتجاوز واقعها الجغرافي الضيق إلى الساحل الإفريقي، في ظل تزايد منسوب العلاقات المغربية- الإفريقية.
ومن ثم، من الطبيعي أن يتفاعل السكان بشكل إيجابي بما يزيد من جاذبية أقاليمهم. لذا، تزايدت زيارات المستثمرين من مناطق مختلفة بالعالم إلى تلك الأقاليم في أكتوبر الجاري، لتصبح مركزاً اقتصادياً رائداً على غرار دبى وهونج كونج وسنغافورة، لاسيما أن الملك محمد السادس يهتم بالنموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، وخاصة في مجالات الصيد البحري والاقتصاد الأزرق والسياحة والطاقات المتجددة. هذا بخلاف الطبيعة القبائلية في المجتمعات الصحراوية مما يزيد من التعبئة السياسية لأحزاب بعينها، وبصفة خاصة حزب الاستقلال، وهى عوامل مترابطة تفسر ازدياد نسب التصويت في الاستحقاقات الانتخابية.
عودة “طالبان”
4- سيطرة حركة “طالبان” على الأقاليم الاستراتيجية في أفغانستان: سيطر مقاتلو “طالبان” في مرحلة ما قبل الانسحاب الأمريكي الكامل وقوات حلف شمال الأطلسي من البلاد على عدد من الأقاليم المحورية في يوليو وأغسطس الماضيين، سواء مراكز الشرطة أو مباني الإدارة المحلية، وهو ما أظهره اجتياحهم لإقليم بانجواى ذي الأهمية الاستراتيجية في ولاية قندهار الجنوبية، معقل الحركة السابق.
ولم تجد الحركة مقاومة من القوات الأفغانية الحكومية، وكذلك الحال بالنسبة للقاطنين من السكان، لاسيما بعد غياب الإسناد الجوي الأمريكي، وهو ما مهد لها السيطرة الميدانية الكاملة على بقية المدن الأفغانية، خلال مدى زمني قصير، لتعود “طالبان” إلى السلطة بعد مرور عقدين على الإطاحة بحكمها من خلال ائتلاف عسكري بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001. وقد تكررت تلك السيطرة للحركة أثناء اجتياحها لإقليمى قندوز في شمال شرق البلاد، وساري بول في الشمال، وغيرها من المناطق التي كانت تقع خارج نطاق هيمنتها التقليدية.
متضررو تيجراى
5- تفاقم حدة الأزمة الإنسانية في إقليم تيجراى بإثيوبيا: وهو ما يأتي نتيجة الاشتباكات المسلحة بين الحكومة الاتحادية المدعومة بقوات إريترية من ناحية ومقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير تيجراى (الحزب الحاكم في الإقليم سابقاً) من ناحية أخرى، وعدم الالتزام الحقيقي بوقف إطلاق النار على نحو أدى إلى تزايد الاحتياجات الإنسانية التي تواجه آلاف المدنيين، وخاصة الفئات الأكثر ضعفاً مثل النساء والأطفال وكبار السن، الأمر الذي يفسر جهود الإغاثة الإنسانية التي تقوم بها بعض القوى الإقليمية مثل الإمارات، والمنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، لإرسال الإمدادات الغذائية والمواد الصحية، بالإضافة إلى الوقود، نظراً لمعاناة سكان الإقليم من النزاع وتداعيات كوفيد-19، وهو ما أشار إليه مايكل دانفورد المدير الإقليمي لبرنامج الأغذية العالمي في شرق إفريقيا ومدير الاستجابة المشتركة لتيجراى في تصريح له في 18 أغسطس الماضي. كما أن هناك مساراً آخر تدعو إليه القوى الداعمة للاستقرار في منطقة القرن الإفريقي ومنها إثيوبيا، وهو الالتزام بتهدئة النزاع والعودة إلى الحوار من أجل السلام والوحدة الوطنية.
قانون دارفور
6- إجازة قانون نظام الحكم الإقليمي لدارفور بالسودان: أجاز رئيس الحكومة الانتقالية عبدالله حمدوك، في 27 يوليو الماضي، مشروع قانون نظام الحكم الإقليمي لدارفور 2021، وهو ما جاء بعد مناقشة مستفيضة ومرور القانون بعدد من المؤسسات، شملت وزارتى الحكم الاتحادي والعدل واللجنة الفنية، التي تضم عدداً من الوزارات. وهنا، أعلن حاكم إقليم دارفور منى أركو مناوي، أن القانون “مستند على الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية 2019 المعدلة 2020 بموجب اتفاق جوبا لسلام السودان”.
وأكد أن القانون “حدد مهام حكومة إقليم دافور، التي تشمل المهام الإدارية والاقتصادية، والعمل في جوانب إيقاف الحرب، وتنفيذ الاتفاق وعودة النازحين واللاجئين والقيام بالدور التنموي للإقليم”. وقد حدد القانون مستويات الحكم ومستوى التعامل بين حاكم الإقليم والولاة والمحليات. ويمكن القول أن هذا القانون وآليات تنفيذه يطوي صفحة في تاريخ السودان لاسيما بعد انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في تلك المنطقة خلال عهد النظام السابق بالسودان، حيث قتل أربعة ملايين شخص بدءاً من عام 2003. علاوة على اشتداد الأزمات الأمنية وأعمال السلب والنهب التي تجتاح معظم مناطق الإقليم رغم التوقيع على اتفاق السلام، وهو ما يفسر أهمية القوة المشتركة لحماية المدنيين التي أعلن عنها حاكم الإقليم، بخلاف المشاريع التنموية والخدمية التي تجذب اللاجئين والنازحين والمستثمرين، وخاصة الكهرباء والمياه وتطوير التعليم.
حالات مختلفة
خلاصة القول، إن أوضاع سكان الأقاليم صارت محدداً رئيسياً لكشف تفاعلات الشرق الأوسط، سواء على صعيد التنمية غير المتوازنة بين المركز والأطراف، أو الدخول في مواجهات مع الحكومة الاتحادية على خلفية الاضطهاد لفصيل داخل هيكل الحكم، أو تدشين نظام حكم أقاليمي بعد سنوات من الحرب الأهلية، أو تعزيز المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية لتأكيد الولاء الوطني والاستفادة من الفرص الاقتصادية والاستثمارية، أو عدم القدرة على الوصول لمراكز الاقتراع نتيجة هيمنة فواعل غير نظامية على تفاعلات الإقليم، الأمر الذي يشير إلى خبرات مختلفة في إقليم يشهد جغرافيا متحركة.