ضغوط متوازية:
لماذا عادت احتجاجات الشارع إلى السودان؟

ضغوط متوازية:

لماذا عادت احتجاجات الشارع إلى السودان؟



شارك الآلاف من المواطنين السودانيين في تظاهرات دعت إليها مجموعة “الإصلاح” أو مجموعة “التوافق” المنشقة عن قوى الحرية والتغيير، في العاصمة السودانية الخرطوم في 16 أكتوبر الجاري للتعبير عن تأييدهم لمطالب الفريق “عبدالفتاح البرهان” (رئيس مجلس السيادة الوطني) بحل الحكومة الحالية برئاسة “عبدالله حمدوك”، ومطالبين “البرهان” بإصدار “بيان عسكري” لإعلان حل الحكومة وتولي المؤسسة العسكرية السلطة منفردة لحين إجراء انتخابات برلمانية وتشكيل حكومة جديدة، ثم تحولت تلك التظاهرات إلى اعتصام مفتوح أمام القصر الرئاسي ومقر مجلس الوزراء، وهو ما دفع قوى الحرية والتغيير للدعوة إلى خروج مظاهرات مؤيدة للحكم المدني يوم 21 أكتوبر الجاري تحت شعار “مواكب الردع” لدعم التجربة المدنية ورفض الحكم العسكري.

عودة الشارع

شهدت الفترة الأخيرة خروج بعض المظاهرات والاحتجاجات الشعبية في العاصمة الخرطوم وعدد من الولايات الأخرى، ولأسباب مختلفة، وذلك رغم الحديث عن بداية الاستقرار السياسي في السودان، وخاصة في استمرار إجراءات إزالة التمكين وتفكيك نظام الإنقاذ السابق ومواصلة محاكمة رموزه، وعلى رأسهم الرئيس المعزول “عمر البشير”، وكذلك فتح ملفات الفساد المالي والإداري للعديد من المسئولين في النظام السابق والذين تورطوا في قضايا متعلقة بتهريب أموال البلاد إلى الخارج، إلا أن الاحتجاجات والتظاهرات عادت مرة أخرى كمؤشر هامة على عدم الاستقرار وعدم رضا الشارع على الأوضاع السياسية الراهنة في البلاد، وهو ما يمكن تفسيره من خلال العوامل التالية:

1- تصاعد الخلافات بين شركاء الحكم، رغم الإيحاء المستمر من قبل مسئولي النظام السياسي الانتقالي بالسودان بأن هناك جهود لإعادة ترتيب الداخل السوداني تمهيداً لتسليم الحكم بشكل نهائي إلى سلطة مدنية منتخبة بنهاية الفترة الانتقالية، إلا أن محاولة الانقلاب العسكري على الحكم في سبتمبر الماضي، كشفت بشكل واضح عن انقسام وتفكك هياكل الحكم الانتقالي، حيث تبادل المكونين المدني والعسكري الاتهامات بشأن عرقلة تجربة الحكم الانتقالي الحالية، وتصاعدت الخلافات بين المكونين العسكري والمدني بشكل حاد عندما طالب الفريق “عبدالفتاح البرهان” رئيس مجلس السيادة الوطني، بحل الحكومة الانتقالية الحالية لحل الأزمات السياسية والاقتصادية التي تواجه البلاد في الوقت الراهن، وهو ما دفع رئيس الوزراء “عبدالله حمدوك” للرد على ذلك بالرفض القاطع لمطلب “البرهان” بحل حكومته المكونة من قوى الحرية والتغيير وتعيين حكومة جديدة بدلا عنها، وأكد “حمدوك” على أن قوى الحرية والتغيير قد اختارته لقيادة حكومتها وتنفيذ الانتقال الديمقراطي في البلاد، وهو ما دفع بعض القوى السياسية المنشقة (مجموع الإصلاح) عن قوى الحرية والتغيير لتنظيم مظاهرات مؤيدة للمؤسسة العسكرية ومطالبة بحل الحكومة الانتقالية.

2- تأزم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، لاتزال المشكلات الاقتصادية والاجتماعية من أبرز العوامل التي دفعت المواطنين اللجواء إلى الشارع مرة أخرى للتعبير عن رفضهم لاستمرار معاناتهم الاقتصادية وتردي أوضاعهم المعيشية، والتي تأثرت بشكل كبير في ظل إجراءات الإصلاح الاقتصادي التي تطبقها الحكومة الانتقالية الحالية برئاسة “عبدالله حمدوك”، كما أن إجراءات الحماية الاجتماعية للفئات والطبقات الفقيرة والمهمشة لاتزال غير كافية لحماية تلك الفئات من تداعيات برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي وضعه البنك الدولي، حيث لم تفلح بعض إجراءات الحكومة للحد من تداعيات الأزمة الاقتصادية على المواطنين، وهو ما دفع الحكومة للإعلان في 17 أكتوبر الجاري عن الاستمرار في تنفيذ برنامج “ثمرات” لمساعدة الأسر الفقيرة، من خلال بدء المرحلة الثالثة منه في شهر نوفمبر المقبل ليشمل أربعة ولايات (نهر النيل – الجزيرة – القضارف – الشمالية)، ورغم تلك الإجراءات إلا أنها غير كافية من وجهة نظر الشعب السوداني، أو على أقل تقدير القوى السياسية والجماعات المسلحة المطالبة بحلها، والذي يرى أن الحكومة الحالية غير قادرة على حل الأزمة الاقتصادية الراهنة.

3- انقسام القوى السياسية، ساهم الانقسام الحاصل في هياكل تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير وانشقاق عدد من الأحزاب وتكوينهم كيانات جديدة، في فقدان المواطنين السودانيين الثقة في القوى السياسية المتصدرة للمشهد السياسي الحالي، خاصة وأنها تعد الحاضنة السياسية للحكومة الحالية، كما يوجد حديث واسع المجال داخل الشارع السوداني حول وجود تباينات داخل المكون العسكري في  مجلس السيادة الوطني بشأن الأزمة السياسية الراهنة، ومع تزايد حدة الانقسامات وتعدد الانشقاقات والصراعات بين هذه القوى، فإن ذلك يؤدي إلى زيادة عدم رضا الشارع السوداني عن النظام السياسي الحالي ويدفعه للخروح في تظاهرات او مسيرات للتعبير عن رغبتهم في إحداث تغيير سياسي جذري يسهم في حل مشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة.

سيناريوهات محتملة

توجد بعض السيناريوهات المحتمل حدوثها وخاص فيما يتعلق بمستقبل الحكومة الانتقالية الحالية، في ظل تصاعد المطالب بحلها، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

السيناريو الأول: بقاء الحكومة واحتواء الاحتجاجات، ويرجح هذا السيناريو أن تظل الحكومة الحالية في إدارة شئون البلاد، وذلك استناداً إلى تصريحات رئيسها “عبدالله حمدوك” الذي عبر من خلالها على رفضه القاطع لمطالب حلها، خاصة وأن الوثيقة الدستورية الموقع عليها في عام 2019 تنص على أن رئيس الوزراء هو المسئول الأعلى في الدولة، وتأكيده على أن قوى إعلان الحرية والتغيير هي التي كلفته برئاستها، وهو ما يعني أنه لن يترك رئاسة الحكومة أو الاستجابة لمطالب حلها إلا إذا وافقت الأحزاب والقوى السياسية المكونة لتحالف قوى الحرية والتغيير على ذلك.

كما أن “حمدوك” تدعمه قوى الحرية والتغيير التي دعت لتنظيم مواكب تأييد الحكم المدني. كما قد تلجأ الحكومة للإعلان عن مزيد من الإجراءات الحمائية الاجتماعية، إلى جانب برنامج “ثمرات”، لمحاولة تهدئة الشارع ولو لبعض الوقت، إلى حين التوصل لحل توافقي مع المكون العسكري لحل الأزمة الحالية، كما يستند “حمدوك” إلى الدعم الأمريكي لحكومته ولتجربة الانتقال المدني الديمقراطي، وهو ما عكسته تصريحات وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بينكن” التي أيد فيها مبادرة “حمدوك” لتسوية الأزمة السياسية الراهنة ودعوته للإعداد لإجراء انتخابات برلمانية.

السيناريو الثاني: حل الحكومة وتشكيل أخرى جديدة، يرجح هذا السيناريو أن تضطر الحكومة الحالية إلى تقديم استقالتها استجابة للضغوط المتزايدة من قبل المكون العسكري وبعض القوى السياسية والحركات المسلحة المؤيدة لذلك بزعامة “مجموعة الإصلاح”، خاصة وأن تلك المجموعة تضم وزراء حاليين داخل الحكومة (وزير المالية جبريل إبراهيم) وحاكم إقليم دارفور “مني أركو مناوي”، وهو ما يرجح قيام هؤلاء بتعطيل العمل الحكومي داخل هذه الوزارات ولاسيما داخل وزارة المالية وما يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات تزيد من حدة المشكلات الاقتصادية في البلاد، وفي ظل الانقسام الحالي بين مكونات السلطة الحاكمة فقد تجد الحكومة نفسها مضطرة للإستقالة في محاولة للتهدئة من حدة الأزمة السياسية الراهنة في البلاد وعدم التصعيد بشكل أكبر مما هو عليه الآن.

إعاقة الانتقال

خلاصة القول تكشف عودة احتجاجات الشارع السوداني في الوقت الراهن عن تباين الرؤى بشأن كيفية حل الأزمة السياسية الراهنة في البلاد، ففي حين يرى البعض أن حلها يكمن في حل الحكومة ودعوة المؤسسة العسكرية لحكم البلاد، إلا أن فريق آخر يرى أن ذلك يمثل تراجعا عن مسار الحكم المدني وأن الحل يكمن في استكمال بنود وثيقة الحكم الانتقالي. وفي هذا السياق، ترجح المعطيات الراهنة أن ترفض الحكومة الانتقالية مطالب حلها وأن تبقى في موقعها، مع عدم استبعاد محاولات مجموعة الإصلاح وضع العراقيل وفرض الضغوط بشكل متزايد عليها من أجل عرقلتها ودفعها لتقديم استقالتها، الأمر الذي من شأنه أن تزداد حدة الأزمة السياسية في السودان في ظل غياب التوافق الوطني، ومن ثم عدم الاستقرار السياسي خلال الفترة القادمة، وهو ما سينعكس سلباً على تعاطي النظام السياسي الانتقالي مع الملفات الداخلية والخارجية الضاغطة والتي تتطلب حلولاً وإجراءات فاعلة وعاجلة لحلها.