هناك حالة من الاصطفاف والتشظّي والبحث عن مساحة لاتخاذ موقف مما يجري في الحالة الفلسطينية تعوق محاولة فهم أن الحدث يتجاوز خطوة «حماس» غير المتوقعة، أو رد فعل إسرائيل وصَلفها المعتاد حِيال ما بعد الصدمة.
ما جرى حدث استثنائي يؤرّخ ما بعده بوصفه نقطة تحوّل لما بعده «Zero Point» وفقاً لعلم الاجتماع التاريخي؛ لذلك يجب أن نستعيد لحظات «الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)» من حيث عنصر المفاجأة والتخطيط، ومن حيث كمية الإشاعات واستيقاظ نظريات المؤامرة، حتى في داخل إسرائيل يشككون في قدرة «كتائب عز الدين القسّام» على الانفراد بهذه الهجمات تخطيطاً وتنفيذاً.
من وجهة نظر العلوم السياسية، لا يمكن فهم ما حدث خارج مفهوم «الحرب غير المتكافئة/ المتماثلة (Asymmetry Warfare)»، التي جرت العودة إليها في نهاية الثمانينات مع صعود هجمات الميليشيات والجماعات المسلحة في العراق، ورغم الجدل الكبير حوله، لكنه ببساطة يتحدث عن قدرة فئة قليلة لديها الدافع العقائدي أو الآيديولوجي على إحداث فارق ضخم في مقابل معركة تجاه جيش نظامي، متى ما استطاعت التخطيط بشكل مختلف في الاستهداف والتوقيت والأدوات غير التقليدية، وهو ما يطرح أسئلة لا تقل أهمية عن مآلات الحروب والصراعات المسلحة بعيداً عن القدرات التكنولوجية والعسكرية، خصوصاً مع قدرة كثير من المنظمات الآيديولوجية والجماعات المسلحة على اكتساب مهارات جديدة في الأمن السيبراني، وحرب الشوارع والاغتيال والاختطاف ضمن معادلة «النوع مقابل الكم»، واللعب على الردع المسنود بآلة دعاية وبروباغندا التواصل الاجتماعي القادرة على التعبئة والتحشيد ونقل المعركة خارج حدودها الجغرافية لتصبح ذات بُعد إقليمي وعالمي.
الحرب غير المتكافئة، والفوضى الخلاقة، وقدرة الجماعات الصغيرة على إحداث فارقٍ، سبَق «11 سبتمبر» خارج سياق الجماعات الجهادية، فجذوره تعود للسبعينات الميلادية مع آندرو مارك، الذي قدم تحليلاً فريداً من نوعه حول هزيمة الولايات المتحدة الأميركية – رغم قوتها – من دولة محدودة الموارد والقدرة مثل فيتنام؛ حيث اعتمدت على أسلوب حرب العصابات القائمة على ثنائية التضحوية والثمن السياسي الباهظ، أو الحرب بين دولة وكيان غير مركزي (وفي حالة «حماس» متمرس بدعم خبراتي وتقني من تجارب «حزب الله» وإيران)، وبرافعة شعبية كبرى من تيارات الممانعة القادرة على خلق حالة رأي عام ظرفية ولا عقلانية، لكنها تستحوذ على الحالة الشعورية للشارع العام.
أما فيما يخص «حماس» التي طورت من تحالفاتها وحضورها، وتحولت من حالة فلسطينية إلى دولة محاصرة داخل غزة مدعومة إقليمياً من قطر وتركيا وإيران، كل من زاوية مغايرة ولا يمكن قياسها على باقي الأذرع والكيانات السياسية؛ بوصفها حالة خاصة، فيمكن مراجعة كتابَيْ خالد الحروب، زميل كامبردج ومؤلف «حماس: دليل للمبتدئ (Hamas: A Beginners Guide)» و«حماس: الفكرة والممارسة السياسية»، الذي أكد في حوار تشريحي لحالة «حماس» الجديدة أن ضعف سلطة فتح والفراغ في غزة خلقا حالة نفوذ متنامٍ، في مقابل عدم القدرة على تمثيل القيادة الوطنية، وكان التحول فوزها في انتخابات 2006 مؤذِناً بالسيطرة على قطاع غزة، وصعود نجمها في الضفة وفي كل الكيانات الفلسطينية الخارجية، خصوصاً المخيمات، وهو أمر لا يمكن فهمه إلا بفهم ديناميكيات السياسات الفلسطينية الداخلية والمجتمع الفلسطيني خارج أقواس التصنيف العقائدي أو الحركي؛ حيث الرصيد العسكري والسياسي يلعب دوراً أكبر في خلق الصورة العامة.
انسداد المصالحة الفلسطينية، وانهيار مشروع «الإخوان» في المنطقة، والاتفاقات الإبراهيمية الثنائية، عزز ارتهان «حماس» للخيار الإيراني ومصالحته بعد تدهور العلاقة إثر الثورة السورية. لكن أيضاً استثمار إيران في الرعاية المعنوية لـ«حماس» هو استثمار في كيان سنّي يُعزز من شعار دعم فلسطين والمقاومة، الذي تبني طهران شرعيتها في الداخل عليه، وهو ما يجعلنا نفهم جيداً شكر طهران و«حزب الله» و«الحوثي» في كل خطاباتها.
خطوة «حماس» اليوم مكّنتها من تغيير المعادلة، ليس في إسرائيل التي ربما تتجه إلى حرب شاملة مدعومة من الولايات المتحدة، وإنما بنفوذ أكبر في مخيمات اللاجئين والكيانات الفلسطينية في الخارج، واكتساب مساحات أكبر بوصفها ممثلة للمقاومة، في مقابل تراجع «فتح» وعدم قدرتها إلا على محاولة التقاط ما تبقى من خلال التصعيد اللفظي تجاه إسرائيل، وهذا ما يعني احتمالية تمدد «حماس» خارج فلسطين، خصوصاً في لبنان والأردن، وهو ما سيعقد الحالة الفلسطينية اليوم. وأما عن تأثير ذلك على السلام وجهوده، فأعتقد أنه سيقوي الأوراق التفاوضية لمنطق الدول العاقلة، وفي مقدمتها السعودية، أكثر من أي وقت مضى. وللحديث بقية.
نقلا عن الشرق الأوسط