تعد العلاقات المصرية – الإيرانية عبر تاريخها الحديث مثالاً للتأرجح صعوداً وهبوطاً وفقاً للمتغيرات الداخلية والسياسات الإقليمية، فلقد استيقظ الشرق الإسلامي على مصاهرة بين عرشين هما الأكبر في المنطقة وقتها، وأعني بذلك زواج ولي عهد إيران الشيعي المذهب بابنة الملك فؤاد، إذ كان ابنه الجالس على العرش الملك فاروق يجسد عزة ومكانة أهم عرش سنيّ حينذاك، ولم تكن مسألة الخلاف المذهبي مطروحة في وقتها، وقد عزز ذلك موافقة الأزهر على تلك المصاهرة ومباركة إمامه الأكبر لها.
وتحكي صفحات التاريخ السياسي والاجتماعي عن مظاهر الاحتفالات التي جرت في القاهرة وطهران تعبيراً عن الفرحة المشتركة بتلك المصاهرة الملكية، وامتدت الاحتفالات ولياليها الساهرة من القاهرة إلى طهران من دون توقف، والأثاث الملكي يجري نقله إلى قصر الزوجية في العاصمة الإيرانية، إنه زفاف أجمل فتيات عصرها الأميرة فوزية سليلة العرش العلوي إلى وريث العرش الإمبراطوري الفارسي.
وعلى رغم أن تلك الزيجة بكل ما صاحبها من صخب وضجيج انتهت بعد سنوات قليلة، إذ عادت الأميرة المصرية لبلادها بعد أن رزقت بطفلة واحدة هي الأثر الباقي لتلك المصاهرة الملكية التي جمعت الشعبين المصري والإيراني.
وكما أن مصر هي التي قدمت للشاه زوجته الأولى فإنها كانت أيضاً ملاذه الأخير حين استقبل الرئيس الراحل أنور السادات طائرة الشاه الوافد إلى أرض الكنانة بعد أن رفضته معظم العواصم مجاملة لثوار إيران وتخوفاً من ردود فعلهم، وقد بقي الشاه في مصر لما يقارب عاماً حتى قضى نحبه ليدفن إلى جانب أصهاره من ملوك الأسرة العلوية.
تلك هي مصر التي تستقبل اللاجئين إليها أحياء أو أمواتاً، وكان من الطبيعي أن تتدهور العلاقات بين القاهرة وطهران عندما ارتفعت شعارات الجمهورية الإسلامية ووجّه الملالي سهامهم المعادية إلى الرئيس الراحل السادات ونظام حكمه في القاهرة، وعزز ذلك أن الثورة الإسلامية في إيران أحدثت فجوة كبيرة بين بلادها في جانب والدول الغربية عموماً في جانب آخر، واحتدم الصراع الذي لا نزال نشهد تداعياته حتى اليوم، إذ دخلت الدولة العبرية على الخط وأصبحت إسرائيل هي الخصم الأول للجمهورية الإيرانية حالياً وهي الداعية إلى توجيه ضربات إجهازية عليها قبل أن تتوصل بالكامل إلى التخصيب المطلوب لصنع قنبلة نووية تسمح لإيران بدخول النادي النووي الذي سبقتها إليه دول أخرى في غرب آسيا، وفي مقدمها إسرائيل والهند وباكستان.
واكتفت القاهرة بتمثيل دبلوماسي مناسب، إذ يترأس بعثة رئاسة المصالح المصرية في طهران سفير مصري لكن من دون أن تكون له تسميات السفير وصلاحياته مثلما هو الأمر في الظروف الطبيعية.
وخلال زيارتي إلى إيران عام 2000 ممثلاً للبرلمان المصري في مؤتمر نصرة الشعب الفلسطيني الذي انعقد حينذاك في طهران، راعني كثيراً الاهتمام البالغ بالمبعوث المصري والحفاوة الواضحة التي كانت تتردد في كل المجالس التي حضرتها وتشير بقوة إلى العلاقات التاريخية الراسخة بين الأمتين المصرية والفارسية، وكان مضيفي هو السيد محمد علي أبطحي أحد نواب رئيس الجمهورية، وقد عقدنا اجتماعاً وافق فيه الجانب الإيراني على تغيير اسم الشارع الذي كان يحمل صورة كبيرة للإسلامبولي أحد قتلة الرئيس الراحل السادات وهو يرفع المصحف الشريف ويردد “أنا الذي قتلت الفرعون”.
وبعد أن استقر الاتفاق بيننا على رفع اسم من اغتال السادات، واقترحت عليهم يومها تسمية الشارع باسم شيخ الأزهر الراحل الإمام محمود شلتوت، داعية التقارب بين المذاهب الإسلامية والذي بارك التعبد بالمذهب الشيعي الإثنا عشري واعتبره موازياً للتعبد بالمذهب السني الأشعري، وأضفت أنه إذا كنتم لا تريدون اسم شخص فإنني أقترح أن يكون الاسم هو شارع التقريب بين المذاهب الإسلامية، لكن ما إن عدنا للقاهرة حتى اكتشفنا أن الجانب الإيراني وافق على تغيير اسم الشارع فقط مع بقاء الصورة الضخمة كما هي رمزاً لاغتيال زعيم عربي مسلم مهما كانت الاختلافات معه فكرية أو سياسية أو مذهبية.
واستمر الحال كذلك طوال عصر الرئيس الراحل مبارك، بل إنني أتذكر الآن جيداً أن وزير الخارجية الأسبق أحمد ماهر السيد، وقد كان واحداً من ألمع المثقفين المصريين، أبلغني ذات صباح في مطلع هذا القرن بأن العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وطهران ستستأنف خلال أيام قليلة، وما هي إلا ساعات معدودة حتى صدر تصريح من أحد الملالي في طهران يقول فيه إن الشيطان الأكبر يتمثل في الولايات المتحدة الأميركية ومؤيدي سياساتها، وعند ذلك التصريح توقفت كل الجهود المخلصة والأماني الصادقة الساعية إلى رأب الصدع وتوحيد الكلمة بين مصر وإيران.
هذه صفحات مطوية من تاريخ العلاقات المصرية – الإيرانية، بخاصة أن رئيس جمهورية إيران السابق أحمدي نجاد زار مصر في سنة حكم “الإخوان” ولم يلق الترحيب اللازم من مؤسسة الأزهر الشريف وإن سعى إلى المزارات المقدسة في رحاب السيدة زينب وسيدنا الحسين، وهو ما يكشف عن أهمية مصر الدينية لدى الشعب الإيراني، ومصر التي فتحت الأبواب والنوافذ أمام كل الدول الشقيقة والصديقة لم تشارك بفاعلية في تجمع يعادي إيران، لكنها اكتفت دائماً بدعوة النظام القائم هناك إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، واحترام سيادة الدول وترك ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
إن علاقات العرب بدول الجوار هي علاقات ذات تأثير كبير وأهمية قصوى، حتى إن الأمين العام لجامعة الدول العربية الأسبق عمرو موسى كان يفكر في صيغة للتعامل مع دول الجوار العربي باعتبارها منتسبة في الجامعة العربية، لأن الشرق الأوسط لا يقف عند حدود العروبة وحدها بل يتجاوز ذلك إلى احتواء قوميات أخرى وشعوب مجاورة، ولا نفترض فيهم أنهم ملائكة يعشقون العالم العربي ويحترمون حقوقه، ولكننا نعتبر وجودهم التاريخي أمراً حتمياً يفرض علينا الوعي الدائم والسعي المشترك إلى إقامة الجسور مع تلك الدول، والتمسك بثوابت القضايا العربية وفي مقدمها القضية الفلسطينية وغيرها من أساسات العمل العربي المشترك.
ونحن ندرك جيداً أن إيران وتركيا وإسرائيل وإثيوبيا هي دول رئيسة تشاركنا التاريخ والجغرافيا في المنطقة، ولكننا ندرك في الوقت ذاته أننا لا نتعصب قومياً ولا ننحاز ضد تلك القوميات مهما كانت الأسباب والظروف.
إنني إذ أكتب اليوم عن هوامش حول دول الجوار العربي فإنني أسعى إلى فتح ملفات إيجابية لبعض المسكوت عنه على الساحة القومية وفي إطار سياسات جامعة الدول العربية الساعية إلى توحيد الصف والالتزام بالحق العربي المشترك، وألتمس في ذلك رؤية الضوء في نهاية النفق، فالشرق الأوسط الذي يضم غرب آسيا وشمال أفريقيا ويمتد نظرياً إلى أعالي النيل، عانى كثيراً خلال العقود الأخيرة وحان الوقت لأن تكون هناك منظومة مشتركة للتعاون البنّاء بين دول المنطقة، لأن العالم يتغير بسرعة مذهلة والتحالفات تتساقط والسرعات تتفاوت ويصعب التنبؤ بما هو قادم، على رغم الإحساس الدائم بأن التقدم التكنولوجي الكاسح يدخل طرفاً في المعادلة ويجعل القدرة على التنبؤ بما يجري أمراً محفوفاً بالمصاعب، ولا سيما في ظل المخاوف الشائعة والأوهام المنتشرة حول مستقبل الجنس البشري على كوكب الأرض.
إن الهوامش التي نكتبها حول دول الجوار العربي هي هوامش تهدف إلى تقوية الأواصر ودعم الصلات، وليست موجهة ضد أحد لكنها سعي نحو التعاون المشترك لإقليم ينعم بالاستقرار والعدالة والسلام.
نقلا عن اندبندنت عربية