عوامل مؤثرة:
هل يُمكن توحيد المؤسسة العسكرية في ليبيا حالياً؟

عوامل مؤثرة:

هل يُمكن توحيد المؤسسة العسكرية في ليبيا حالياً؟



يتجدد الحديث حول ضرورة توحيد المؤسسة العسكرية في ليبيا، كخطوة ضرورية في محاولات حلحلة الأزمة الممتدة منذ سنوات في هذا البلد. فمنذ انعقاد الاجتماع التقابلي الثاني بين رئيس أركان قوات القيادة العامة للجيش الليبي الفريق أول عبد الرازق الناظوري، ورئيس أركان القوات التابعة لحكومة الوحدة الوطنية الفريق أول محمد الحداد؛ بالعاصمة طرابلس، في 18 يوليو الجاري، والذي يأتي استكمالاً للقاء القاهرة، في 15 يونيو الفائت، يثور التساؤل حول مسببات التعثر في إنجاز هذه الخطوة، والفاعليات الممكنة لتحقيقها.

في إطار استكمال عمل اللجنة العسكرية “5+5″، تم عقد الاجتماع التقابلي الثاني بمدينة طرابلس، بحضور كل من الفريق أول عبد الرازق الناظوري رئيس أركان قوات القيادة العامة للجيش الليبي، والفريق أول محمد الحداد رئيس أركان القوات التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، وأعضاء اللجنة العسكرية، حسب ما جاء في بيان صادر عن رئاسة أركان الجيش الليبي، في 18 يوليو الجاري.

ووفقاً للبيان “جرى مناقشة العديد من المواضيع، كان أهمها تذليل الصعوبات التي تواجه عمل اللجنة العسكرية، وكذلك استكمال الخطوات الرامية إلى توحيد المؤسسة العسكرية”. وفي بيان آخر، قالت رئاسة الأركان التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، منتهية الولاية، التي يقودها عبد الحميد الدبيبة، إن الاجتماع تم في مطار معيتيقة الدولي بالعاصمة طرابلس. وبحسب البيان، فقد ناقش الطرفان “قضايا حرس الحدود التي جاءت في إطار مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية”. كما ناقش الاجتماع أيضاً “الملفات العالقة، واستمرار الإجراءات التي بدأت في سبيل توحيد المؤسسة العسكرية”.

أسباب التعثر

رغم اتفاق بيان قيادة الأركان التابعة للقيادة العامة (شرق ليبيا)، مع بيان قيادة الأركان التابعة لحكومة الدبيبة (غرب ليبيا)، على أن أهم أهداف الاجتماع كان “بحث سبل توحيد المؤسسة العسكرية”؛ إلا أن إصدار كل جهة بياناً مستقلاً هو مؤشر دال على حالة الانقسام الجهوي والمناطقي الحاصل على الساحة الليبية.

ويمكن القول إن ثمة أسباباً عديدة تساهم في تعثر حلحلة الأزمة في هذا البلد، يتمثل أبرزها فيما يلي:

1- عدم وجود سلطة سياسية موحدة: ساهم غياب سلطة تستطيع أن تبسط هيمنتها على عموم البلاد، في الانقسام السياسي الحاصل منذ سنوات، وتلك الحالة من الاتهامات المتبادلة بين كافة الأطراف بـ”عدم الشرعية”، أو “محاولة الخروج على الشرعية”، وغيرها من اتهامات تؤدي إلى المزيد من الانقسام والتأزم السياسي والأمني. وبدلاً من أن تُقدم القوى السياسية الحلول الناجعة لذلك التدهور الأمني والعسكري، والانقسام السياسي؛ فقد تسببت -على العكس من ذلك- في ازدياد حالة التوتر والاحتقان السياسي عبر الخلافات المستمرة، والتجاذبات حول المصالح من مختلف التوجهات.

2- فوضى السلاح في ظل انتشار المليشيات: يأتي انتشار السلاح بيد تشكيلات غير تابعة للمؤسسة العسكرية بشقيها الشرقي والغربي، في مقدمة العراقيل التي فاقمت من حدة الأزمة في ليبيا. وتُشير تقارير دولية تعود لعام 2020، إلى أنه في ليبيا تنتشر حوالي 29 مليون قطعة سلاح، وهو ما يجعل البلاد “أكبر مخزن للسلاح في العالم”.

وتجدر الإشارة إلى أن المليشيات المسلحة تغولت وتزايدت أعدادها من حوالي عشرين ألف مقاتل، إلى ما يقارب المائتي ألف مقاتل، بل إن الوضع الذي تبدو عليه تلك المليشيات إنما يتشابه كثيراً مع نظام الكتائب العسكرية الذي اعتمده الرئيس السابق معمر القذافي خلال العقدين الأخيرين من حكمه. وإذا كان البعض يرى أن القذافي قد ارتكب خطأً فادحاً بتهميش الجيش لصالح الكتائب المسلحة، فإن الخطأ الذي لا بد من الاعتراف به هو عدم قدرة الحكام الجدد منذ عام 2011 على احتواء ما فرضه ذلك من تداعيات، حيث تُركت المليشيات المسلحة لتنمو وتتضخم على حساب جيش وطني موحد.

3- اتساع نطاق التدخلات الخارجية: يرتبط وجود المرتزقة الأجانب، أو بالأحرى وجود قوات أجنبية، دوماً بمخططات جهات خارجية تعمل على تقويض أي محاولة لتكوين مؤسسة عسكرية موحدة. ومن ثم تبدو صعوبة الحديث عن إمكانية وجود جيش ليبي موحد ومنظم، بينما تتصاعد حدة التدخلات الإقليمية والدولية، خصوصاً من جانب تركيا وروسيا، على نحو يُغذي مختلف التشكيلات المسلحة في غرب ليبيا وشرقها بالأسلحة والمرتزقة.

4- التأثير السلبي لجماعة “الإخوان”: يتواكب مع تداعيات النفوذ الدولي والإقليمي على حالة الانقسام السياسي والعسكري في ليبيا، التأثير السلبي لتواجد جماعة “الإخوان المسلمين” (فرع ليبيا)؛ إذ ليس خافياً أن كثيراً من المليشيات المنتشرة في طول ليبيا وعرضها، ما هي إلا أذرع عسكرية لبعض قوى الإسلام السياسي المتطرفة والإرهابية، وفي مقدمتها جماعة “الإخوان”.

وهنا، يمكن ملاحظة استهداف “الجماعة” استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني على الساحة الليبية، وذلك عبر المناكفات الإعلامية والاستفزاز العسكري، فضلاً عن افتعال صراعات بين مليشيات غرب ليبيا كجزء مهم من الفوضى الأمنية، ومحاولة عرقلة إعادة تنظيم وتفعيل وحدات الجيش النظامي في الغرب الليبي، وذلك كله في اتجاه تأجيل فكرة الانتخابات خشية انتخاب رئيس للبلاد لا ينتمي إليهم، أو برلمان لا تكون لهم فيه اليد الطولى.

فاعليات التوحد

رغم مسببات التعثر تلك، التي تعوق توحيد المؤسسة العسكرية في البلاد، بل وتقف حجر عثرة في سبيل حلحلة الأزمة الليبية عموماً؛ فإن هناك من الفاعليات ما يمكن أن يساهم في إنجاز المهمة، وتحقيق الاستقرار السياسي والأمني، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- حل التشكيلات المسلحة بالمنطقة الغربية: ومثل هذا “الحل” يكتسب أهمية، بملاحظة أن عدد المليشيات “المجموعات المسلحة التي تعمل خارج إطار القانون” في المنطقة الغربية، وتحديداً في طرابلس ومصراتة، يصل إلى 50 مليشيا. وهنا، تكفي الإشارة إلى تقرير خبراء الأمم المتحدة المعني بليبيا، الذي نُشِر في مارس 2021، وأكّد أن المليشيات المسلحة، خلال ولاية حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج، اكتسبت شرعية غير مستحقة، وحصلت على مناصب حكومية نافذة. ولعل التركيز على المنطقة الغربية يعود إلى أن الوحدات العسكرية الموجودة في شرق ليبيا وجنوبها مهيأة كلياً لعملية التوحيد، كونها وحدات منظمة وتتبع إدارة واحدة.

2- فرز العناصر التكفيرية في المليشيات: يجب أن يبدأ توحيد المؤسسة العسكرية من وضع الأسس الحقيقية التي يمكن البناء عليها، وأهمها العقيدة القتالية الموحدة، وأسس دمج المقاتلين في المؤسسة العسكرية، تلك التي يجب أن تكون بعيدة عن التوجهات السياسية، ومسببات الانقسام السياسي في البلاد.

إلا أن الخطوة التي تسبق عملية دمج المقاتلين، هي ضرورة فرز العناصر التكفيرية المنخرطة ضمن أي فصائل أو مليشيات، خاصة مع انتشار عناصر تنظيم “سرايا مجالس الشورى”، أحد أكثر الفصائل التكفيرية المصنفة “إرهابية”، في بعض المليشيات بالمنطقة الغربية. فمثل تلك التشكيلات قد تساهم في إرباك مشهد توحيد المؤسسة العسكرية، خصوصاً أنها غير منضبطة، وتخضع لنفوذ جماعة الإخوان في ليبيا.

3- إعادة دمج المقاتلين في مؤسسات الدولة: وفي هذا الخصوص، يمكن الإشارة إلى ملامح الخطة الدولية التي تمت مناقشتها خلال ورشة العمل الفنية في مدينة طليطلة الإسبانية، في 23 مايو الماضي، حول “طرائق الدعم الدولي لبرنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج الليبي”، التابع لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.

وفي الوقت الذي أكدت فيه مشاورات طليطلة على ضرورة حل التشكيلات المسلحة بالمنطقة الغربية الليبية، من حيث إنها تعرقل عمل الحكومات، بما يمنع الاستقرار وأداء المؤسسات لمهامها؛ فإن هذه المشاورات، في الوقت نفسه، جاءت لتحمل كيفية تنفيذ الخطة الدولية، في هذا الشأن، عبر تقسيم المنخرطين في تلك التشكيلات إلى ثلاثة أقسام، هى المجموعات المنظمة والمنضبطة، والتي سيجري دمج عناصرها مباشرة بالقوات الأمنية الرسمية، والمجموعات التي لا تحمل أفكاراً متطرفة، وسيخضع أفرادها لدورات تأهيلية قبل أن يتم دمجهم إلى جانب مجموعات القسم الأول، والمجموعات التي مارست نشاطات إرهابية أو إجرامية، وسوف يصنف أفرادها كمجموعات خارجة عن القانون، ويتم ملاحقتهم وفقاً لذلك.

تحدٍّ رئيسي

في هذا السياق، يبدو أن النقطة المركزية في الأزمة الليبية عموماً، وفي تعثر توحيد المؤسسة العسكرية على وجه خاص، هي المليشيات المسلحة، التي ساهمت في التدهور الأمني وعدم الاستقرار السياسي طوال السنوات اللاحقة على سقوط القذافي ونظام حكمه. صحيح أن لقاء الناظوري والحداد، الذي يأتي استكمالاً للقاء القاهرة، في 15 يونيو الماضي؛ يُعتبر لقاءً فريداً كونه عُقد في العاصمة الليبية، ودون وجود أي وساطة خارجية، ويُمثل خطوة مهمة في سبيل توحيد المؤسسة العسكرية، لكن يبقى من الصحيح أيضاً أنه ما لم يتم حل مسألة التشكيلات المسلحة، والمليشيات المنتشرة على الأرض الليبية، ونزع سلاحها؛ فسيكون من الصعوبة بمكان إنجاز توحيد المؤسسة العسكرية في ليبيا.