العودة للصحراء:
هل ينسحب تنظيم “داعش” من الارتكاز بالمدن؟

العودة للصحراء:

هل ينسحب تنظيم “داعش” من الارتكاز بالمدن؟



بدأ تنظيم “داعش”، خلال الأشهر الثلاثة الماضية، في إعادة التموضع داخل بعض دول الإقليم، عبر اعتماد استراتيجية “العودة إلى الصحراء” كنقطة ارتكاز رئيسية للتنظيم وأفرعه المختلفة، بالتوازي مع الانسحاب تدريجياً من المدن الكبرى والرئيسية. وقد بدأ التنظيم تطبيق ذلك في سوريا باعتبار منطقة “البادية” كانت مقر الارتكاز الرئيسي، وهو الأمر نفسه الذي تكرر بتموضع التنظيم بالمنطقة الصحراوية على الحدود العراقية- السورية. وبالقياس على باقي مناطق ارتكاز التنظيم في بعض دول الإقليم، يتضح أن أغلب أفرعه تتجه للارتكاز خارج التكتلات السكانية بالمدن إلى المناطق الصحراوية، مثل ارتكاز فرع التنظيم في ليبيا بمناطق الجنوب، واتجاه أفرع التنظيم في غرب أفريقيا إلى منطقة الصحراء الكبرى، وارتكاز قيادة فرع التنظيم في باكستان و”خراسان” بالمنطقة الصحراوية الحدودية بين باكستان وأفغانستان “وزيرستان”. هذا التغير الملحوظ في استراتيجية ارتكاز وتموضع التنظيم يطرح العديد من التساؤلات حول أسباب ذلك وتداعياته على أنشطة التنظيم في الفترة القادمة.

توجه جديد

مع مقتل أغلب جيل المؤسسين من الرعيل الأول لتنظيم “داعش”، والذين يطلق عليهم “أصدقاء وتلاميذ الزرقاوي”، وتراجع الأعداد المُستقطَبة للتنظيم سواء من العرب أو الأجانب، بدأ “داعش” في إعادة طرح استراتيجية لارتكاز قيادة التنظيم المركزي وأفرعه عبر “العودة إلى الصحراء”، معتمداً في هذا السياق على رؤية أبو محمد العدناني المتحدث الرسمي الأول للتنظيم وأحد أهم قياداته ومنظريه، في مايو 2016- قبل مقتله بعدة أشهر- حول فقدان التنظيم العديد من المدن التي كان يسيطر عليها في العراق وسوريا، حيث قال: “النصر هو هزيمة الخصم”، ثم سأل المستمعين: “هل هُزِمنا عندما فقدنا المدن في العراق وكنا في الصحراء دون أى مدينة أو أرض؟، وهل سنُهزَم (إذا فقدنا) الموصل أو سرت أو الرقة؟، بالتأكيد لا! الهزيمة الحقيقية هى فقدان قوة الإرادة والرغبة في القتال”.

هذه الرؤية انطلق منها التنظيم في صياغة استراتيجية جديدة لتموضع عناصره وقياداته، وبدأ في تنفيذها خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وجاءت تحت عنوان “العودة لأرض النشأة”، وهى الاستراتيجية التي تتطابق مع المعطيات الجديدة التي فرضها مقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي في 27 أكتوبر 2019، والتي دفعته إلى العمل في ظل ما يسمى بــ”فترات عدم التمكين”. وتعتمد الاستراتيجية الجديدة على قاعدة “الظهور والتلاشي”، والتي تعني عدم وجود أى منطقة تصلح منطلقاً للهجمات الإرهابية أو مكاناً للاختباء داخل المدن، بما يدفع في اتجاه الانتقال المباشر إلى الصحراء كقاعدة ارتكاز ينطلق منها عناصر التنظيم لتنفيذ عملياته الإرهابية بالمدن ثم العودة إلى الصحراء للاختباء والارتكاز مرة أخرى.

وقد أقرت الاستراتيجية الجديدة تكتيك “التسلل والتمويه” أثناء القيام بتنفيذ العمليات الإرهابية والانتقال من موقع إلى آخر، حيث قضت بتنفيذ تلك العمليات خلال الليل في المناطق التي لا تتواجد فيها قوات الأمن. وقد حددت الاستراتيجية طبيعة المنطقة الملائمة لهذا النمط من العمليات الإرهابية، وهى المناطق الريفية والقرى النائية، وتضمنت الاعتماد على أسلوب الاغتيالات التي تستهدف عناصر محددة، ونهب الأموال ممن وصفتهم بـ”المرتدين”، وأكدت في هذا الصدد على أهمية تبني أسلوب التخفي بالاعتماد على زى أهل المنطقة أو استخدام زى قوات الأمن، إذا كان للمُستهدَف خلفية أمنية أو عسكرية.

وهنا، كان لافتاً أن التنظيم بدأ في إصدار تعليمات لعناصره باستخدام أسلوب شبيه بالذي تبناه تنظيم “القاعدة” في التسعينيات من القرن الماضي، عبر الاعتماد على توفير الدعم بالاختلاس والسرقة، وهو ما يكشف عدم قدرته، خلال المرحلة الجارية، على توفير الموارد المالية لعناصره، سواء في المركز (سوريا والعراق) أو في الفروع داخل بعض الدول، على نحو يكشف، من جانب آخر، عن ضعف البنية التنظيمية لـ”داعش”، سواء على مستوى العناصر المُقاتِلة الإرهابية، أو على المستوى المالي، بعد فقدان مصادر التمويل المختلفة التي كان يعتمد عليها التنظيم خلال تواجده بشكل أكثر كثافة في كل من سوريا والعراق، سواء عبر بيع النفط أو من خلال تهريب الآثار، أو عن طريق الحصول على الفدية من اختطاف الرهائن. إذ تلاشت معظم تلك المصادر كنتيجة لهزيمة التنظيم في الباغوز التي مثلت إحدى قواعد الارتكاز في مارس 2019، وهو ما دفعه إلى مطالبة عناصره وفروعه بالاعتماد الذاتي لتوفير الموارد المالية المطلوبة لاستمرار نشاطه في المناطق المختلفة.

دوافع رئيسية

يمكن القول إن ثمة أسباباً عديدة دفعت تنظيم “داعش” إلى إعادة صياغة استراتيجية التموضع لعناصره وقيادات الأفرع المختلفة بالتركيز على الصحراء والانسحاب من المدن، ويتمثل أبرزها في:

1- مقتل بعض قيادات أفرع التنظيم: تمكنت قوات مكافحة الإرهاب في بعض دول الإقليم وقوات التحالف الدولي لمكافحة “داعش” من استهداف العديد من قيادات التنظيم خلال الأشهر الثلاثة الماضية، على غرار أبو عمر الخراساني القيادي البارز في تنظيم “خراسان”، وأبو مصعب البرناوي زعيم “تنظيم داعش في غرب أفريقيا”، بالتوازي مع استهداف العديد من قيادات التنظيم المركزي في العراق من قبل قوات الأمن العراقية، مع تصاعد عمليات المواجهة من قبل قوات مكافحة الإرهاب تجاه التنظيم داخل مدن نينوى وكركوك وديالي والموصل ودير الزور والرقة، وهو ما فرض ضغوطاً على التنظيم دفعته إلى إقرار استراتيجية إعادة التموضع في الصحراء لتقليل خسائره البشرية.

2- تصدع العلاقة مع القبائل المحلية: شهدت علاقة التنظيم مع القبائل والعشائر المحلية في بعض المدن تصدعاً كبيراً خلال المرحلة الماضية، على نحو دفع بعض العشائر للانضمام لقوات الأمن في مواجهة التنظيم، وهو ما أضعف إحدى أهم قواعد الارتكاز المعتمدة على الاحتواء المحلي من قبل القبائل والعشائر بالمدن.

3- ضعف القدرات المالية لـ”داعش”: مع هزيمة التنظيم في الموصل في يونيو 2017 والباغوز في مارس 2019، فقد “داعش” العديد من الموارد المالية الرئيسية مثل عوائد بيع النفط، بشكل قلص قدرته على الانتشار في مناطق مختلفة، لاسيما أنه كان يعتمد على ذلك في استقطاب بعض العناصر والجهات لمساعدته في هذا السياق.

4- تغيير تكتيكات العمليات الإرهابية: بدأ التنظيم خلال المرحلة الماضية في إعادة الاعتماد على العملية الإرهابية البسيطة من حيث التنفيذ مثل القنص والعمليات الانتحارية والعبوات الناسفة، وهى عمليات لا تحتاج إلى تكتيكات معقدة أو خبرة قتالية، كما لا تتطلب الارتكاز في المدن، حيث يكون الاستهداف في إحدى المناطق الجغرافية الرخوة، مع تجنب الدخول في مواجهة مباشرة مع قوات الأمن في الدول المُستهدَفة، والسعى لتجنب التعرض لخسائر في صفوفه.

5- الاعتماد على توجهات الزرقاوي: والذي كان قد أعلن بعد انهيار قدرات تنظيم “القاعدة في بلاد الرافدين” عام 2009، استراتيجية جديدة أطلق عليها “الخطة الاستراتيجية لتحسين الوضع السياسي لدولة العراق الإسلامية”، والتي حددت ملامح نشاط وعمليات التنظيم في العراق بعد الهزيمة التي تعرض لها، والتي تتشابه بشكل كبير مع استراتيجية الارتكاز بالصحراء التي تبناها “داعش” مؤخراً.

تراجع ملحوظ

في المجمل، بدأ تنظيم “داعش” في إقرار استراتيجية جديدة للتموضع عبر الارتكاز بالصحراء والانسحاب من المدن، وهى الاستراتيجية التي تدل على حدوث تراجع ملحوظ في قدرات التنظيم المركزي على مستوى السيطرة على المدن، وإن كان ذلك لا ينفي أنه سيكون حريصاً على محاولة تنفيذ عمليات إرهابية داخل الأخيرة لإثبات قدرته على البقاء والاستمرار.