معضلات هيكلية:
هل ينجح العراق في تأمين حدوده مع إيران وتركيا؟

معضلات هيكلية:

هل ينجح العراق في تأمين حدوده مع إيران وتركيا؟



توترت العلاقات بين العراق من جهة، وإيران وتركيا من جهة أخرى، في ظل استمرار الخروقات الأمنية والعمليات العسكرية للبلدين في الشمال العراقي بحجة ملاحقة الجماعات الكردية المسلحة. وبرغم تعهد العراق بتبني إجراءات لتأمين حدوده، فإن ثمة معضلات هيكلية تقف حجر عثرة أمام بغداد، في الصدارة منها طول الحدود السائبة غير المسيطر عليها من قبل العراق وإيران وتركيا، وتقلص القدرات التسليحية للجيش النظامي العراقي، بالإضافة إلى المخاطر الأمنية التي لا تزال تواجه الداخل العراقي، خاصة بعد تصاعد التحذيرات من إمكانية عودة تنظيم “داعش”.

فقد أعلن العراق، في 23 نوفمبر الماضي، عن “استراتيجية” مغايرة لتأمين الحدود مع إيران وتركيا، وأشارت حكومة السوداني -في بيان لها- إلى أنها قررت “وضع خطة لإعادة نشر قوات الحدود العراقية”، لمسك الخط الصفري على طول الحدود مع البلدين. وتزامن التعهد العراقي مع عودة التوتر مجدداً على الحدود مع كل من تركيا وإيران، حيث بدأت الأولى منذ 20 نوفمبر الماضي غارات جوية على شمال العراق لملاحقة حزب العمال الكردستاني، بينما شن الحرس الثوري الإيراني طوال الأيام التي خلت عدة ضربات عسكرية، وهجمات بمسيرات على مواقع تابعة للمعارضة الإيرانية الكردية المتمركزة في كردستان العراق، وذلك في إطار الرد على الاحتجاجات الكردية على مقتل الفتاة الكردية الإيرانية مهسا أميني. كما أرسلت طهران في 25 نوفمبر الجاري وحدات مدرعة وقوات خاصة إلى مناطق كردية في العراق بهدف “منع تسلل إرهابيين” وفق توصيف قائد القوات البرية في الحرس الثوري الإيراني الجنرال محمد باكبور.

ضغوط مزدوجة

يتعرض العراق خلال المرحلة الحالية لضغوط تركية وإيرانية غير مسبوقة لتأمين حدوده مع البلدين من جهة، ومن جهة أخرى تفكيك ومحاصرة خلايا العناصر الكردية المقيمة على أراضيه. ويُشار إلى أن الحرس الثوري الإيراني هدد المسؤولين العراقيين بشن عملية عسكرية برية في شمال العراق إذا لم يقم الجيش العراقي بتحصين الحدود بين البلدين ضد المعارضة الكردية. في هذا السياق، وبرغم كثافة الضغوط، فإن حكومة السوداني المحسوبة على الإطار التنسيقي القريب من طهران، اتجهت نحو تبني سلسلة من الإجراءات المغايرة، في الصدارة منها إدانة الهجمات التركية والإيرانية المتكررة على أراضيها، واعتبرتها تخالف المواثيق والقوانين الدولية.

لكن في المقابل يُبدي العراقاهتماماً خاصاً بالسعي لضبط حدوده مع أنقرة وطهران، وسد الثغرات الحدودية التي تشكل نقاط انطلاق للمعارضين الكرد. ويأتي موقف سلطة بغداد في إطار المناورة السياسية لحكومة السوداني التي تريد من خلالها تقليص حدة الضغوط الداخلية والخارجية، والتي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة بسبب استمرار تصاعد الضربات العسكرية التركية والإيرانية. وهنا، يمكن فهم إصدار الحكومة العراقية بيانها الذي جاء عشية اجتماعها مع مختلف الأجهزة الأمنية في 23 نوفمبر الجاري، وتضمن الإعلان وضع “استراتيجية” لتأمين حدود العراق مع كلّ من إيران وتركيا، وبما يسمح للحكومة المركزية في بغداد بفرض هيمنتها على كامل التراب العراقي، من خلال توسيع مساحات التنسيق مع قوات حكومة إقليم كردستان، لتأمين الحدود العراقية. وبعبارة أخرى، يأتي تحرك العراق لاحتواء الإجراءات العقابية التصعيدية التي تتخذها تركيا وإيران شمال العراق، وفي الصدارة منها تهديدهما بالقيام بتوغل بري داخل الأراضي العراقية، وهو ما قد يسبب حرجاً سياسياً لحكومة السوداني التي تواجه ملفات ضاغطة على كافة المستويات.

تحديات قائمة

هناك بعض الشكوك حول قدرة العراق على تنفيذ الاستراتيجية التي طرحها لتأمين حدوده مع تركيا وإيران، وتطبيقها عملياً، بالنظر إلى حساسية التوقيت الذي يتزامن مع استمرار التعقيدات في الداخل العراقي، وكذلك إعلاء أنقرة وطهران للحلول الأمنية للتعامل مع التهديدات الكردية شمال العراق. في هذا السياق، فإن ثمة تساؤلات حول التحديات التي تواجه العراق لتأمين حدوده مع تركيا وإيران في هذا التوقيت، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

1- طبيعة الحدود “السائبة” بين العراق وإيران وتركيا: تصل الحدود العراقية مع كل من أنقرة وطهران إلى ما يقرب من 1100 كم، بطول 350 كم مع تركيا، ونحو 750 كم مع إيران، وهو ما يشكل عامل ضغط على أعصاب القوات الأمنية العراقية. ويشار إلى أن قوات حرس الحدود العراقية منتشرة منذ عام 2005 على الحدود مع البلدين، ضمن ما يعرف بقيادة المنطقة الأولى لقوات حرس الحدود ومقرها أربيل، وتتكون من 3 ألوية، بمجموع 9 آلاف جندي وضابط، إلا أن هذا العدد لا يكفي لتأمين حدود يزيد طولها على ألف كيلومتر.

صحيح أن حكومة السوداني بدأت العمل الآن على تشكيل لواء رابع من أجل إمساك مفاصل الحدود، والعودة إلى النقاط الصفرية التي تقع على الحدود مع تركيا وإيران؛ إلا أن طول الحدود يحتاج إلى مزيد من العناصر العددية والعتاد العسكري، والتي قد يجد العراق صعوبة في تأمينها خلال المرحلة الحالية. وبالتوازي مع ما سبق، تتسم المناطق الحدودية بين العراق من جهة، وتركيا وإيران من جهة أخرى، بالخطورة بالنظر إلى طبيعتها الجبلية الوعرة، فضلاً عن المناخ القارص الذي تتصف به، مما يزيد من صعوبة عمليات التأمين.

2- استمرار تعاظم خطر التحديات الأمنية: لا يزال العراق يعاني من تداعيات أمنية خطيرة، في الصدارة منها المخاوف من اتجاه داعش لإعادة تموضعه على الساحة العراقية. ويعزز هذا التوجه أن ثمة تحذيرات عراقية لافتة عن سعي التنظيم لتوظيف حالة الاختلالات الأمنية التي عززتها الضربات التركية والإيرانية على مناطق الشمال العراقي، بالإضافة إلى استمرار حالة الاستقطاب السياسي في الداخل العراقي، وكشف عن ذلك تنفيذ “داعش” في يناير 2022 هجوماً على مقر سرية للجيش العراقي غربي ناحية العظيم بمحافظة ديالى، أسفر عن قتل 11 جندياً عراقياً. ولم يكن هذا الهجوم هو الأول من نوعه، إذ شهدت محافظة ديالى في أكتوبر 2021 هجوماً للتنظيم على قرية الرشاد بالمحافظة، في إطار عمليات انتقامية يقوم بها أقارب ضحايا التنظيم، وخلاياه النائمة.

3- ضعف القدرات التسليحية للقوات المسلحة النظامية العراقية: لا تنفصل التحديات التي تواجه السلطات العراقية في عملية تأمين الحدود مع أنقرة وطهران عن ضعف القدرات التسليحية للجيش العراقي، فالقوات العراقية لا تزال تعاني -على سبيل المثال- نقصاً لافتاً في التجهيزات والمعدات الحديثة التي تستخدم في مراقبة الحدود، ناهيك عن أن العراق يفتقر إلى نظام لمراقبة أجوائه كاملة. خلف ما سبق، فإن العراق لا يمتلك أي نظام متكامل للدفاع الجوي يغطي الأراضي العراقية بأكملها، بينما تقتصر قدراته الجوية على بعض الطائرات من طراز F16 الأمريكية، وعدد من الطائرات المروحية.

4- تصاعد الخلاف بين مكونات كردستان العراق: تمثل الخلافات المتفاقمة بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني المهيمن على السلطة في إقليم كردستان العراق، تحدياً أمام جهود العراق لتأمين حدوده مع تركيا وإيران. وفي ظل خلافات حادة تتعلق بتوزيع الصلاحيات الإدارية والإيرادات المالية بين الحزبين الرئيسيين في الإقليم، فإن ثمة صعوبة في توظيف قدراتهما المشتركة في عملية تأمين حدود البلاد مع تركيا وإيران. وتعتمد بغداد على مكونات البشمركة لسد الفراغات الأمنية في المناطق الحدودية، لكن الخلاف بين الهياكل السياسية في إقليم كردستان قد تزيد من تعقيد الإجراءات العراقية.

5- هواجس إثارة النزعة القومية الكردية: يتخوف العراق من أن يؤدي زيادة الضغوط ضد العناصر الكردية التي تتخذ من شمال العراق مقرات لها، وتمثل أجنحة ممانعة لتركيا وإيران، إلى إثارة النزعة القومية الكردية، خاصة أن ثمة تعاطفاً شعبياً داخل إقليم كردستان العراق معها، ناهيك عن أن ثمة قناعات لدى تيارات سياسية في كردستان العراق تؤمن بمظلومية هذه العناصر، وتعتبرها شوكة في خاصرة القوى الإقليمية التي تسعى لوأد الطموح الكردي بإقامة كيان يعبر عن هويتهم.

ويشار في هذا السياق إلى أن ثمة مشكلة بين إدارتي محافظتي السليمانية وأربيل، واختلاف توجهات الحزبين فيهما، وبالتالي هناك تعقيد سياسي كبير وولاءات كثيرة للجماعات الكردية الأجنبية المناوئة لإيران وتركيا. ومن ثم فإن حكومة بغداد تخشى من أن تسفر ضغوطها على التيارات الكردية التي تستوطن شمال العراق منذ أكثر من أربعة عقود، إلى إثارة النعرات القومية، وتسمح بإعادة زخم دعوات كردية تطالب بالانفصال عن سلطة بغداد.

خلاف ممتد

ختاماً، يمكن القول إن قضية تأمين الحدود العراقية مع تركيا وإيران رغم أنها ليست وليدة اللحظة، وإنما تعتبر خلافاً ممتداً منذ سنوات، ومحكومة في جانب منها باعتبارات عديدة، تتعلق بعوامل جغرافية وديموغرافية وأمنية؛ إلا أن ثمة محاولات عراقية مستمرة للتحايل على إشكالية تأمين الحدود مع البلدين. وفي ضوء التحديات التي تواجه سلطة بغداد، وفي ظل استمرار التوجه التركي الإيراني نحو عسكرة قضية الحدود مع العراق من دون تبني إجراءات سياسية في التعامل مع التهديدات الكردية؛ فإن جهود العراق لتأمين حدوده مع البلدين قد تكون صعبة ومحفوفة بالمخاطر.