هل ينتهج العرب سياسة أميركا تجاه الصين في التعامل مع إيران؟ – الحائط العربي
هل ينتهج العرب سياسة أميركا تجاه الصين في التعامل مع إيران؟

هل ينتهج العرب سياسة أميركا تجاه الصين في التعامل مع إيران؟



في عالم السياسة تسود نظريتان في السياسة الخارجية هما الواقعية والليبرالية؛ الأولى تعتبر أنَّ مهمة الدولة منع ظهور دولة تهدد أمنها اقتصادياً وعسكرياً، والثانية ترى أنَّ الانفتاح والتوسع بالتجارة يفتح الطريق أمام تبني الديمقراطية والإيمان بالمؤسسات الدولية. وفق هذا التصور، نرى أنَّ الولايات المتحدة كسبت في اعتماد الواقعية السياسية وخسرت في اعتماد الليبرالية، وبهذا التوصيف للسياسة الأميركية نرى أنَّ الدول العربية وغيرها قد تقع في الخطأ الأميركي نفسه إذا لم تفهم منطق الواقعية، وتحزم أمرها لاعتمادها مهما كانت الصعاب.

فالإدارة الأميركية في حقبة الستينات رأت أنَّ الواقعية تستدعي الانفتاح على الصين، بعد الخلاف الروسي – الصيني الآيديولوجي، وأنَّ سحب الصين لتكون في المعسكر الأميركي هو ضربة قاضية للاتحاد السوفياتي؛ وقد خطط لهذه الواقعية هنري كيسنجر، وتمكن بها من احتواء الاتحاد السوفياتي وحرمانه من حليف آيديولوجي، ومن تطويقه عسكرياً، وأدَّى في عام 1991 إلى تفككه وهيمنة الولايات المتحدة على النظام العالمي بلا منازع. الخطأ كما يقول البروفسور جون ميرشيمر أنَّ أميركا تخلَّت عن الواقعية بعد انتصارها واحتضنت النظرية الليبرالية، معتقدة أنَّ الصين ستتخلى عن آيديولوجيتها وأنَّ الديمقراطية قدرها؛ هذا الخطأ كان سببه حالة الزهو الأميركي كقوة منفردة بشؤون العالم. بالطبع، استفادت الصين من الاحتضان الأميركي الذي وفَّر لها كل مقومات القوة والبروز بدءاً من إعطائها ميزات اقتصادية مثل «بند الدول الأكثر تفضيلاً» في منظمة التجارة العالمية ثم قبولها في المنظمة، ما يعني فتح الأسواق أمامها؛ كما شجعت أميركا المستثمرين الغربيين على نقل الأموال والتكنولوجيا للصين، وفق نظام العولمة للحصول على أكبر قدر من الأرباح وفق النظرية الرأسمالية؛ هذا سمح للصين بأن تستفيدَ من المال الغربي، والتكنولوجيا الغربية، والأسواق المفتوحة لتصبح مع الزمن قوة اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية؛ والأهم جعلها الآن أكبرَ منافس للولايات المتحدة، وربما ستكون القوة المهيمنة على شرق آسيا وجنوبها ثم على الشرق الأوسط وبعدها تهدد النفوذ الأميركي في عقر داره في جنوب خط الاستواء.

الصين الآن تطالب بدور قيادي في العالم، وتريد استرجاع تايوان وجزر متنازع عليها مع اليابان، وأراضٍ متنازع عليها مع الهند، وتقاطع أستراليا تجارياً، وتستولي على جزر بحرية عائدة لدول مجاورة مثل ماليزيا وإندونيسيا وكوريا وغيرها.

إيران الآن لا تختلف عن الصين في تعاملها مع دول منطقة الشرق الأوسط، وبالأخص مع دول الخليج العربي، فهي تريد مناطقَ نفوذٍ لها في المنطقة، وتريد أن تنشرَ آيديولوجيتها الدينية، وتجعلَ من دول المنطقة دولاً تابعة تأتمر بسياستها الخارجية، وتتنازل لها في المصالح التجارية، وتكون تحت رعايتها العسكرية. مارست الدول العربية، مثل أميركا، السياسة الواقعية في البداية لأنَّها أدركت طبيعة النظام الإيراني وميوله التوسعية، فكانت حرب العراق لثماني سنوات اضطر خلالها قائد الثورة الإيرانية الخميني أن يقبل بوقف إطلاق النار، معتبراً إياه بمثابة «تجرع السم».. تجرع السم هذا كان سياسة واقعية بامتياز لأنَّه أدرك أنَّ سياسته السابقة كانت انتحاراً، وأنَّ الحل بتغيير السياسة، واعتماد نهج جديد يحقق له ما فشل في تحقيقه. بدأت مشكلة العرب مع إيران في عهد رفسنجاني وخاتمي، وكلاهما اعتمد سياسة الانفتاح على العرب كوسيلة لالتقاط الأنفاس، والتوسع في الأقطار العربية؛ هذه السياسة الانفتاحية صاحبها توسع مقنّع لدعم الميليشيات ذات الطابع الديني الطائفي، وكذلك جهد لفتح قنوات التواصل مع العالم العربي، والتجارة، وحتى التضامن الإسلامي. لم يعمد العرب، أمام هذا الانفتاح المصطنع، إلى طرح الآيديولوجيا الإيرانية على بساط البحث، ولا محاربة دعمها السري للميليشيات، بل حاولوا طمأنة إيران بأنَّ تخليها عن التشدد سيفتح أمامها أسواق العرب، وستكون دولة إسلامية مقبولة من الجيران، ويمكن أن يتمكن الجميع بالحوار من حل القضايا العالقة، ومن أهمها الجزر العربية المحتلة، وكيفية حل قضية فلسطين بعيداً عن المزايدات والعنتريات.

نسي العرب شيئين: آيديولوجية إيران، والانبعاثية الفارسية. فإيران تتملَّكُها آيديولوجيا دينية متطرفة تنحو لإخضاع الآخرين في المنطقة وإدخالها في التركيبة الداخلية لدول المنطقة لكي تتعزز المصالح الإيرانية. كما تتملَّكها روح انبعاثية لإعادة مجد التاريخ الكسروي؛ وهي في عزّ طهورية آيديولوجيتها الدينية لم تتخلَّ عن هاجسها الامبراطوري، بل إنها مزجت النظرة الدينية لها بالنظرية الامبراطورية لتكوّن نظرية خطرة جداً على العرب جغرافياً ودينياً؛ جغرافياً بمعنى حق السيطرة على أراضي العرب، والدينية بمعنى خلخلة المجتمعات العربية التعددية والحضارية. وهكذا بينما انصب جهد العرب (الليبرالي الانفتاحي) على محاورة إيران، كان الجهد الإيراني (الواقعي) يعمل على تعزيز القوة الإيرانية وبناء الأسلحة النووية والباليستية، وتحريك الميليشيات لتغير الواقع في دول العرب وفق مصالحها، كما في سوريا واليمن وأماكن أخرى.

وكما استفاقت الولايات المتحدة متأخرة على الصين وبدأت العمل بالسياسة الواقعية من خلال محاصرة الصين اقتصادياً، وعسكرياً، وإبراز أنَّها البديل الحضاري الأفضل، على العرب أن يستفيقوا، ويعتمدوا سياسات واقعية تربك إيران، وتُحمِّلها تكاليف باهظة تجعلها تتخلَّى عن سياساتها التوسعية. فالعرب رغم تقهقرهم في أعقاب الربيع العربي، وسيطرة إيران على عواصم عربية، لا يزالون قادرين على مواجهة إيران لأنَّ لديهم القوة الاقتصادية، والمنعة الآيديولوجية، والأكثر اللعب على موازين القوة في منطقة الشرق الأوسط. فإيران عاجزة اقتصادياً وتمثل أسوأ نموذج اقتصادي، ولم يعد لديها البريق الآيديولوجي، وحتى قوتها العسكرية المتنامية هي أقل بكثير من القوة العربية الجمعية؛ والأكثر أنَّ سياستها في المنطقة سمحت لإسرائيل بأن تلعب دوراً قيادياً، وجعلت – ويا للمفارقة – الجميع يتكاتف ضدها، لأنَّ مسألة الأمن القومي لها أولويَّة على ما عداها.

لقد فقدت إيران بريقها الثوري، وبانت حقيقتها حتى لأنصارها، وبدأت تدرك شعوب العرب زيف شعاراتها، وخفاء نهجها الامبراطوري، وما على العرب، في هذه اللحظة، إلا أن يعمقوا الالتزام بالسياسة الواقعية، وبالذات الاستمرار بمواجهتها على كل الجبهات وبالتحديد في اليمن، لأنها ستدرك آنذاك أن تكاليف العدوان وغياب النصر سيحملها على تجرع السم مكرهة، ووقف العدوان.

قد لا تستطيع أميركا هزيمة الصين لكن تستطيع تحجيمها، وكذلك العرب لا يستطيعون هزيمة إيران على أرضها، لكنهم قادرون على هزيمتها على امتداد أوطانهم.

نقلا عن الشرق الأوسط