شكّل أداء حكومة الوحدة الوطنية برئاسة “عبدالحميد الدبيبة”، اليمين الدستورية في طبرق شرق البلاد، في مارس 2021، تدشينًا لمرحلة سياسية جديدة، عقب سنوات من تنازع الشرعية السياسية بين شرق ليبيا وغربها، بيد أن التقدم السياسي لم يأتِ مقترنًا بنفس القدر بتقدمٍ موازٍ فيما يتعلق بالمسار الأمني، إذ شهدت البلاد العديد من المظاهر التي تؤكد على استمرار المعضلة الأمنية، وبما يمكن أن يمثل عائقًا جوهريًا أمام إتمام المرحلة الانتقالية التي تنتهي بنهاية العام الجاري، وهي معضلة تكونت بشكلٍ أساسيّ على مدار عقدٍ كامل غلبت فيه العسكرة على مُجمل المشهد الليبي.
اضطراب متصاعد
شهدت ليبيا خلال الفترة الأخيرة انتشارًا متزايدًا للعنف الذي امتد إلى مناطق مختلفة في الداخل الليبي، وهو ما يمكن توضيح أبرز مظاهره على النحو التالي:
1- ارتدادات أمنية سلبية: لم تنعكس التطورات السياسية الإيجابية على الوضع الأمني، بل كان هناك بعض الارتدادات السلبية، التي لم تكن حصراً على مناطق الغرب الليبي بل امتدت لشرق البلاد وجنوبها، إذ شهدت الفترة الأخيرة عدة حوادث متفرقة تعكس تدهور الوضع الأمني، خاصة مع اغتيال القيادي بالجيش الوطني الليبي الرائد “محمود الورفلي”، في 24 مارس 2021، والذي تم إطلاق الرصاص عليه في مدينة بنغازي شرق البلاد. وفي سياق متصل، فقد خطف مجهولون مدير أمن مدينة زوارة الواقعة على بُعد 120 كم غرب طرابلس. كما كشفت بعض المصادر عن مقتل أحد قادة مليشيا “الصمود”، محمد دامونة، بمنطقة الكريمية بالعاصمة طرابلس في أواخر مارس 2021.
ويعكس استهداف قيادات أمنية وعسكرية رفيعة، بما في ذلك بعض قادة المليشيات، خطورة الوضع الأمني، وهو ما يمتد ليشمل تصاعد عمليات الخطف والإخفاء القسري، علاوة على التهجير القسري؛ إذ إن مدينة مرزق جنوب البلاد تعاني بشكل كبير من تهجير نحو خمسة آلاف عائلة بسبب اشتباكات قبلية دامية قُتل وجُرح فيها العشرات من الليبيين، وهو ما حدا برئيس المجلس الرئاسي الليبي “محمد المنفي” للتعهد في التاسع من أبريل 2021 بحل مشكلة الأمن في جنوب البلاد.
وفي السياق ذاته، فإن تنظيم داعش يحاول استغلال الوضع الأمني المتردّي لإعادة التموضع في الجنوب الليبي، وهو ما دفع الجيش الوطني الليبي أواخر شهر مارس الماضي، لتنفيذ سلسلة من الغارات الجوية استهدفت عناصر التنظيم في مدينة أوباري جنوب غربي البلاد، كما نجح الجيش في القبض على قيادي بارز في تنظيم داعش، معروف باسم “محمد ميلود محمد”، خلال عملية عسكرية نوعية في المدينة نفسها خلال شهر مارس الماضي.
2- استفحال وضع مليشيات الغرب: بالتزامن مع تسلم حكومة الوحدة الوطنية مهامها، عادت المليشيات المسلحة المتمركزة في غرب البلاد لتظهر في الواجهة من جديد، خاصة في ظل تصاعد الاشتباكات بين بعض المليشيات الموالية للحكومة السابقة، إذ تجددت الاشتباكات المسلحة بين مليشيا “أسود تاجوراء” و”مليشيا الضمان” شرق العاصمة طرابلس.
وفي مطلع أبريل 2021، قامت مليشيا “444” بتصفية بعض المدنيين، سواء على الطرق العامة أو أثناء تأديتهم لوظائفهم الحكومية في العاصمة طرابلس وكذلك في بعض مدن الغرب الليبي الأخرى. ولا يقتصر تهديد المليشيات على ذلك، ولكنه امتد ليشمل المنشآت النفطية، إذ أغلقت بعض عناصر مليشيات زوارة مُجمّعًا نفطيًا في غرب ليبيا، في السابع من أبريل 2021. وتعكس تلك التطورات استعراض القوة من جانب المليشيات في مواجهة حكومة الوحدة الوطنية، وبما يمثل عائقًا رئيسيًا أمام إنجاح المرحلة الانتقالية.
3- معضلة الحاضنة السياسية للمرتزقة: تجددت الدعوات الإقليمية والدولية من أجل ضرورة إخراج المرتزقة الأجانب من غرب البلاد، كون ذلك إحدى الأولويات في المرحلة الحالية، وهو ما يَلقى دعماً من جانب حكومة الوحدة الوطنية، إذ وصف “الدبيبة” المرتزقة بأنهم “خنجر في ظهر ليبيا”، فيما طالبت وزيرة الخارجية الليبية “نجلاء المنقوش” بضرورة “خروج المرتزقة الأجانب من البلاد فوراً”.
وفي المقابل، كان لرئيس مجلس الدولة الاستشاري، المحسوب على جماعة الإخوان، خالد المشري، رأي مغاير لذلك؛ إذ رفض خروج المرتزقة المتواجدين في غرب البلاد إلا بعد خروج أي قوات أو مرتزقة آخرين موجودين في شرق البلاد، مدّعيًا أن القوات المنتشرة في الغرب قد جاءت بدعوة حكومية، وهي قوات شرعية. ويكشف موقف المشري معضلة الحاضنة السياسية -سواء الخارجية المتمثلة في تركيا، أو الداخلية المتمثلة في بعض الشخصيات السياسية الليبية الفاعلة- التي تدعم استمرار انتشار المرتزقة الأجانب بالبلاد.
4- شرعنة القوات غير النظامية: حيث تسعى بعض الأطراف الخارجية المنخرطة في الصراع الليبي إلى إضفاء المزيد من الشرعية على القوات غير النظامية، فعلى سبيل المثال، تمارس تركيا دوراً واضحاً في هذا الصدد من خلال تقديم التدريبات العسكرية لبعض القوات غير النظامية، إذ أعلنت أنقرة في التاسع من أبريل 2021 تخريج دفعة عسكريين بعد تدريبهم في مقر مكافحة الإرهاب في مدينة الخمس شرق طرابلس.
وجاء ذلك بعد إعلان وزارة الدفاع التركية في أواخر مارس الماضي، استمرار تدريب بعض العناصر المسلحة، في إطار مذكرة التفاهم للتعاون الأمني والتدريب والاستشارات العسكرية، والتي كان قد تم توقيعها بين أنقرة وحكومة الوفاق السابقة برئاسة فايز السراج في نوفمبر 2019، وهي تحركات تسعى من خلالها أنقرة لقطع الطريق على حكومة الوحدة الوطنية الليبية لإلغاء مذكرتَيِ التفاهم الأمنية والبحرية، اللتين وقّعتهما الحكومة السابقة.
كذلك فقد مثّلت حكومة الوحدة الوطنية جزءًا من هذه الإشكالية المتفاقمة، وذلك من خلال حضور الدبيبة حفل تخريج دفعة جديدة من القوى المساندة بالكلية العسكرية بطرابلس، في السادس من أبريل 2021، خاصة وأن تلك الدفعة تشمل بعض عناصر المليشيات والمتطرفين، ومن ضمنهم بعض العناصر التابعة لمجلس شورى ثوار بنغازي. كما شهد الحفل حضور زعيم مليشيا كتيبة أبو سليم “عبد الغني الككلي”، الذي يواجه اتهامات دولية بممارسة العنف ضد المدنيين وممارسة الخطف والحرابة وجرائم أخرى مختلفة، حيث قام “الككلي” بتقليد بعض الخريجين رتبًا عسكرية.
نافذة الفرص
بالرغم من تعقيدات المشهد الأمني الليبي، فإن ثمة نافذة للفرص وأدوات ممكنة يمكن من خلالها حلّ المعضلة الأمنية في المدى المنظور، وتتمثل أبرز هذه الأدوات فيما يلي:
1- تعزيز دعم اللجنة العسكرية المشتركة: تمثل اللجنة العسكرية (5+5) المنبثقة عن مؤتمر برلين، والمعنية بشكل أساسي بالتعامل مع الأوضاع الأمنية والعسكرية في ليبيا عبر التوافق بين طرفي الصراع الرئيسيين من شرق البلاد وغربها، أحد الحلول المفتاحية للتغلب على معضلة تدهور الوضع الأمني في البلاد بأشكاله المتعددة، والتي باتت تستفحل بشكل أكبر، خاصة مع مخاوف المليشيات من التهميش ومخاوف المرتزقة الأجانب من الإبعاد خارج البلاد.
وقد قطعت اللجنة أشواطًا مهمة وذلك في ظل التوافق على حصر المرتزقة الأجانب وجنسياتهم وأماكن تواجدهم تمهيداً لإخراجهم من البلاد؛ إلا أن ذلك لا يزال غير كافٍ في ظل انتشار بعض العناصر التركية في مناطق استراتيجية بالبلاد، وكذلك تأجيل حسم ملف المليشيات، إذ لا بد أن تبحث حكومة الوحدة الوطنية عن مزيد من الدعم الدولي خاصة من جانب الإدارة الأمريكية بقيادة جو بايدن، من أجل حسم تلك الملفات التي تشكل العائق الرئيسي أمام إنجاح وإتمام المرحلة الانتقالية.
2- هيكلة منهجية للمؤسسات الأمنية: يمثل الطرح القائم على إعادة دمج المليشيات المسلحة في الأجهزة الأمنية طرحاً غير منطقيّ، خاصة في ظل رفض العديد من القوى الدولية والإقليمية البارزة لذلك، علاوة على الرفض الشديد من جانب الجيش الوطني الليبي لهذا الطرح، لا سيما في ظل مساعي بعض عناصر المليشيات في الغرب، ومنهم المتهمون بجرائم دولية، للهروب من المساءلة القانونية عبر الموافقة على خيار الاندماج في مؤسسات نظامية، ولذا فإنه من المهم إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية بشكل لا يمثل خطراً على الأمن القومي الليبي عبر رفض القبول بإدماج عناصر إرهابية ومتطرفة داخل الأجهزة الجديدة.
وفي ضوء هذا أكد مدير إدارة التوجيه المعنوي بالجيش الليبي اللواء خالد المحجوب، مطلع أبريل 2021، أن هناك اتفاقاً دولياً على ضرورة تفكيك المليشيات المسلحة، خاصة وأن منهم عصابات إجرامية لا يمكن دمجها، ولم يستبعد أن يكون الدمج مشروطاً، ومقتصراً على بعض الشباب الذين لم ينخرطوا في العنف وليست لديهم سجلات جنائية بما في ذلك جرائم الإرهاب.
3- إعادة الاعتبار للجيش النظامي: يمكن أن تستغل حكومة الوحدة الوطنية، التوافق النسبي القائم مع الجيش الوطني الليبي وبرلمان طبرق، من أجل اتخاذ موقف موحد ضد التواجد العسكري الأجنبي داخل ليبيا، وخصوصاً أن هذا التواجد ينعكس بالسلب على العملية السياسية وإجراء الانتخابات في ديسمبر 2021.
ويشغل رئيس الحكومة الحالي منصب وزير الدفاع، رغم عدم وجود جيش نظامي بالمعنى المعروف تحت إمرته، وهو ما يمكن أن يمثل دافعًا من أجل المطالبة باستكمال جهود توحيد المؤسسات الليبية، عبر توحيد المؤسسة العسكرية، مع ضرورة معالجة التوجهات القائمة على تحييد قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر. إذ يمثل السياقان الإقليمي والدولي محفزات مهمة يمكن أن تستغلها حكومة الوحدة الوطنية للتخلص من الإرث الفوضوي الممتد لنحو عقد كامل، وذلك لن يتأتى سوى بجيش نظامي قوي مُعبّر عن كافة الليبيين ومتجاوزًا لأيّة انتماءات فرعية ضيقة.
4- عودة الدولة الوطنية لصدارة المشهد: شكّل العقد الماضي في ليبيا تحييدًا للدولة الوطنية وتغييبها عن المشهد السياسي والأمني وحتى الاجتماعي، لصالح صعود فاعلين مسلحين من غير الدول بمختلف أشكالهم، في ظل بيئة غير مستقرة بالأساس وتباين الانخراط الخارجي مع المشهد، وهو تباين كان يصل حد التضارب الشديد في كثير من الأوقات خلال المراحل السابقة.
بيد أن الواقع الحالي يمثل نافذة فرص بالنسبة لحكومة الوحدة الوطنية من أجل إعادة الدولة الوطنية للمشهد من جديد، عبر مواجهة العنف، وتحييد المليشيات والمرتزقة، والارتكان إلى الجيش الوطني الليبي كنواة لجيش نظامي يمكن أن يُعبّر عن كافة الليبيين، جنبًا إلى جنب مع استغلال الدعم الخارجي من أجل إخراج أي قوات أجنبية في البلاد، وهي معطيات تمثل شروطًا جوهرية من أجل نجاح الحكومة الليبية في إتمام المشهد الانتقالي بسلام.وختامًا، لا يمكن إنكار التقدم الملموس الذي تشهده ليبيا في الوقت الحالي، لاسيما في ظل حدوث اختراق مهم فيما يتعلق بالتقارب السياسي بين شرقي البلاد وغربها، والتوافق النسبي حول بعض الملفات الشائكة، وهو ما يتطلب من حكومة الوحدة الوطنية، انطلاقًا من مقاربة حيادية بامتياز، ومرتكزة على بيئة محفزة، توظيف الشرعية السياسية الحالية لها داخليًا وخارجيًا، كأداة يمكن من خلالها تفكيك المعضلة الأمنية بشكلٍ تدريجي، وفي مسارات متوازية، دون التغاضي عن أيّة ارتدادات سلبية محتملة وبما يتضمنه ذلك من تعاملٍ حازم يُعيد هيبة الدولة الليبية ويتفادى إعادة إنتاج الماضي القريب، وبما يدشن استقرارًا حقيقيًّا بالبلاد في المدى المنظور.