على الرغم من مطالبة حركة طالبان عبر متحدثها في الدوحة “سهيل شاهين”، في شهر يونيو الماضي، تركيا بسحب قواتها من أفغانستان بوصفها كانت جزءًا من قوات حلف شمال الأطلسي في الأعوام العشرين الماضية؛ إلا أن الفترة القليلة الماضية كشفت عن مؤشرات حول احتمال توصل حركة طالبان وأنقرة إلى تفاهم بينهما يضمن حصول الحركة على بعض الدعم التركي، ففي شهر أغسطس الماضي صرح الرئيس التركي بأن أنقرة بدأت محادثات مع حركة طالبان، وأن بلاده لا تزال تدرس العرض المقدم لها من الحركة لتولي مهمة تشغيل المطار وتوفير متطلباته اللوجستية. وبقدر ما يدفع عدد من العوامل، مثل الحضور التركي في المجتمع الأفغاني عبر عقود، نحو سيناريو التقارب بين أنقرة وحركة طالبان وذلك في ظل احتياج الحركة للدعم الخارجي؛ فإن هناك عوامل أخرى ربما تقيد من هذا التقارب، خصوصًا مع الضغوط الداخلية التي يتعرض لها النظام التركي.
أدوات الحضور
حرصت أنقرة عبر العقود الماضية على تدعيم حضورها في أفغانستان عبر عدد من الأدوات، فقد قدمت تركيا مساهمات مالية لأفغانستان منذ عام 2001، على المستوى الثنائي وفي إطار الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي، حيث استثمرت، بحسب العديد من التقديرات، نحو 1.1 مليار دولار في قطاعات الأمن والصحة والتعليم والبنية التحتية. ولدى تركيا العديد من جمعيات الإغاثة الإنسانية في أفغانستان، أبرزها الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا)، والتي يُنظر إليها كجزء أصيل من منظومة الاستخبارات التركية، باعتبارها تُستخدم كغطاء للتجسس ونقل المعلومات واستقطاب وتجنيد المقاتلين الأجانب. وتتولى الحكومة التركية والمنظمات غير الربحية التابعة لها مسؤولية إدارة 17 حرمًا جامعيًّا، وما يتراوح بين 30 – 40 مدرسة في أفغانستان، كما تقوم بتقديم التدريب لما يربو على 5000 طالب أفغاني.
وعمدت تركيا إلى توظيف أدوات قوتها الناعمة في تعزيز العلاقات مع أفغانستان على كافة الأصعدة الرسمية، بل وكسب تأييد الشعب الأفغاني، استنادًا إلى الروابط الدينية والعرقية والثقافية بين البلدين؛ إذ حرصت أنقرة على التواصل مع جميع القوى السياسية في كابل، بما فيها حركة طالبان، وتقديم الدعم للأقليات الناطقة بالتركية (الأوزبك والتركمان) في البلاد، وإتاحة الكثير من المنح الدراسية للطلاب الأفغان، علاوةً على إنشاء مستوصفات لتقديم الرعاية الصحية بالمجان، وإقامة العديد من القنصليات في مناطق متفرقة من البلاد لتيسير التواصل مع مختلف المكونات العرقية، والمساهمة في تدريب الموظفين والجنود وقوات الأمن الأفغانية، وكذلك لعب دور الوساطة بين أفغانستان وباكستان، واستضافة عدد من المؤتمرات المعنية بأفغانستان.
مدخلان رئيسيان
تبدو ثمة احتمالية لأن يحدث تقارب بين أنقرة وحركة طالبان بحيث تتحول أنقرة إلى حليف موثوق للحركة، وخصوصًا مع المشكلات التي تواجهها الحركة في إدارة بعض المرافق، وفي مقدمتها مطار كابل، وهو الأمر الذي يرتبط بقضيتين رئيسيتين:
1- تأمين وإدارة مطار كابل: فخلال الفترة الماضية تم تناقل بعض التقارير حول إمكانية التعاون بين تركيا وقطر في تأمين مطار كابل الدولي من خلال شركة أمن خاصة، وذلك وفقًا لمسودة اتفاق أولية مع حركة طالبان، تضمنت عددًا من البنود، مثل اعتراف تركيا بحركة طالبان كحكومة شرعية للبلاد. وتولي تركيا وقطر مهمة تشغيل المطار بالشراكة، وكذلك اضطلاع أنقرة بمهمة توفير الأمن من خلال شركة خاصة، يتألف طاقمها من جنود أتراك سابقين، وعناصر شرطية تركية سابقة، وأن تكون العناصر الإضافية من القوات الخاصة التركية، والتي ستعمل بملابس مدنية لتأمين الكادر الفني التركي، ولن تغادر محيط المطار.
ورغم أن حركة طالبان لم تردّ على التقارير بشأن هذا الاتفاق، فإنه يمكن الاستدلال على صحة ما تسرب من أنباء في ضوء تصريحات الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، يوم 29 أغسطس الفائت، التي نوَّه خلالها بأن بلاده بصدد توقيع اتفاق مع حركة “طالبان”، على غرار الاتفاق المُبرَم مع ليبيا في نوفمبر 2019، حينما وقّعت أنقرة مع حكومة الوفاق الوطني الليبية السابقة برئاسة “فايز السراج” مذكرتي تفاهم، إحداهما معنية بترسيم الحدود البحرية، والأخرى بتعزيز التعاون الأمني والعسكري بين الجانبين.
كما أكد وزير الخارجية القطري “محمد بن عبدالرحمن”، خلال مؤتمر صحفي يوم 2 سبتمبر الجاري، أن بلاده قد تشارك تركيا في تقديم دعم فني محتمل لتشغيل مطار حامد كرزاي الدولي. وأشارت أيضًا بعض المنصات الإعلامية، مطلع شهر سبتمبر الجاري، إلى وصول خبراء قطريين وأتراك إلى مطار كابل؛ تمهيدًا لاستئناف عمله عقب انسحاب آخر القوات الأمريكية منه.
وفي السياق ذاته، تُفيد بعض التقارير بأن أنقرة لا تزال تُبقي على سفارتها في كابل مفتوحة، ولم تقم بإجلاء موظفيها الدبلوماسيين الرئيسيين من البلاد، بمن فيهم السفير، علاوةً على احتفاظها بعدد من القوات التركية الخاصة في كابل لحماية السفارة، بالإضافة إلى القوات المتواجدة بالعاصمة الباكستانية إسلام أباد تأهبًا لحالات الطوارئ المحتملة، الأمر الذي يؤكد في مجمله -حال ثبوت صحته- أن صفقة وشيكة بين أنقرة وطالبان في طور الإعداد.
2- إعادة إعمار البنية التحتية الأفغانية: وفقًا لوزارة الخارجية التركية، فإنه يوجد في أفغانستان نحو 76 شركة تركية، يعمل معظمها (90% منها) في مجال البناء والمقاولات، وبالتالي يمكن التنبؤ بأن يتصدر هذا ملف “إعادة الإعمار” أجندة العلاقات بين تركيا وطالبان خلال الفترة القادمة، ولا سيَّما في ظل الدمار الذي لَحِقَ بالبنية التحتية بالبلاد جرَّاء سنوات الحرب الممتدة على مدار العقدين الماضيين، وضعف الإمكانيات المتاحة لدى طالبان للاستفادة من الموارد الطبيعية والثروات التي تحويها البلاد.
ويُرجَّح أن الدور التركي المحتمل في هذا الصدد سيحظى بمباركة واسعة النطاق من حركة طالبان، وهو ما تجلى بوضوح في تأكيد “سهيل شاهين”، أحد متحدثي الحركة، خلال تصريحٍ له بعد أيام من سيطرة طالبان على كابل، بأن الحركة تسعى للتعاون مع تركيا في مجالات الرعاية الصحية، والتعليم، والاقتصاد، والبناء، والطاقة، والتعدين، وأنها تعتبر أنقرة شريكًا رئيسيًا في إعادة إعمار البلاد.
تجاوز العقبات
بالرغم من محفزات سيناريو التقارب البراجماتي بين حركة طالبان وأنقرة، فإن الطريق ليست ممهدة بالقدر الكافي أمام النظام التركي لقطع أشواط في التقارب مع حركة طالبان؛ إذ من المُرجَّح أن تصطدم السياسة التركية -في هذا الصدد- ببعض التحديات يتعين تجاوزها.
فمن جهة أولى، من شأن أي صفقة محتملة بين أنقرة وطالبان أن تُفاقم التحديات السياسية أمام النظام التركي، ولا سيَّما في ظل الضغوط الاقتصادية التي تواجهها الدولة، وتراجع معدل الرضاء الشعبي عن حزب العدالة والتنمية الحاكم ووصوله إلى أدنى مستوى له منذ ما يقرُب من عقدين، بالإضافة إلى أنه على النقيض من التدخل التركي في سوريا، والذي تم تبريره بهدف منع حزب العمال الكردستاني من إنشاء دويلة كردية على الحدود التركية، فمن غير المتوقَّع أن تحظى مهمة تأمين مطار حامد كرزاي الدولي في العاصمة الأفغانية كابل، بدعم شعبي واسع النطاق، خصوصًا مع تصاعد حدة الانتقادات من جانب أحزاب المعارضة إزاء هذه المهمة، باعتبارها ستعرض حياة الجنود الأتراك للخطر.
ومن جهة ثانية، يبدو أن هناك رفضًا إقليميًا للدور التركي في كابل، إذ تخشى دول الجوار الأفغاني من تنامي النفوذ التركي في أفغانستان، وتُراقب بعين الحذر مآلات الخطط الخاصة بتولي أنقرة مهمة إدارة مطار كابل الدولي، لا سيَّما وأن مثل هذه المهمة سترتبط، بشكل أو بآخر، باستقدام المزيد من المقاتلين الأجانب الذين تستخدمهم تركيا لمصلحتها في سوريا وليبيا إلى الأراضي الأفغانية، وبالتالي قد يكون لهؤلاء المقاتلين دور هام في تعزيز الدور التركي المستقبلي في أفغانستان، وستساعد أنقرة في التأثير بشكل أكبر على التوازنات الإقليمية في منطقة آسيا الوسطى، علاوةً على خدمة المصالح التركية في إزاحة عدد ليس بالقليل من المقاتلين المتطرفين عن حدودها، خصوصًا في سوريا.
وعلى هذا النحو، من غير المتوقَّع أن يحظى أي وجود تركي محتمل في أفغانستان بمباركة القوى الإقليمية الرئيسية في منطقة آسيا الوسطى، وفي مقدمتها روسيا والصين وإيران، بالنظر إلى الأهمية الجيوسياسية للمنطقة بالنسبة للدول الثلاث. فمن ناحية، تعد آسيا الوسطى بمثابة عمق استراتيجي لروسيا، وبالتالي سيتعارض النفوذ التركي بها مع المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية لموسكو في المنطقة.
وعلى الجانب الآخر، سيؤدي الوجود التركي في أفغانستان إلى تأجيج التنافس بين طهران وأنقرة على الساحة الأفغانية، كما قد يُسهم نقل الفصائل المسلحة المُتطرفة من إدلب إلى كابل في إذكاء التوترات المذهبية في المنطقة، وهو أمر تتخوف منه إيران والصين على وجه الخصوص؛ إذ تتخوف الأولى من تزايد نفوذ أقلية “البلوش” ذات الأغلبية السُنية في الداخل الإيراني، في حين تخشى الأخيرة من أن تدعم هذه الفصائل المسلحة أقلية “الإيجور” المسلمة السُنية في الصين.
خطى حذرة
وختامًا، يمكن القول إنه من المتوقَّع أن تسير أنقرة بخطى حذرة في علاقتها مع حركة طالبان، بالنظر إلى الضغوط الداخلية المتزايدة على النظام التركي، والرفض الإقليمي الصريح لأي دور تركي واسع النطاق في أفغانستان. وبالتالي، فإنه بخلاف الاتفاق “الفضفاض” المُبرم بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني الليبية في أواخر عام 2019، من المُرجَّح أن تكون أي صفقة وشيكة بين أنقرة وطالبان مقيدة بحدود معينة، ولا سيَّما في ظل التباين الواضح بين توجهات الطرف محل الاتفاق مع تركيا؛ ففي حين دعمت حكومة الوفاق دورًا عسكريًا تركيًا واسع النطاق في ليبيا، ترفض حركة طالبان أي تواجد عسكري تركي مباشر على أراضي أفغانستان.