تحديات التفعيل:
هل يعزز “نداء الساحل” من المقاربات غير العسكرية لمكافحة الإرهاب؟

تحديات التفعيل:

هل يعزز “نداء الساحل” من المقاربات غير العسكرية لمكافحة الإرهاب؟



استضافت الجزائر، في 26 فبراير الفائت، على مدار يومين، اجتماع مبادرة “نداء من أجل الساحل”، بعنوان “إشراك المجتمعات المحلية في منع التطرف العنيف ومعالجة الظروف المؤدية للإرهاب”، بمشاركة موسّعة من برلمانيين وأطراف من المجتمعات المحلية بمنطقة الساحل، ومنظمات المجتمع المدني، ورجال الدين.

وتركز المبادرة المدعومة من برنامج الاتحاد البرلماني الدولي لمكافحة الإرهاب والتطرف العنيف، على تعزيز استراتيجيات مكافحة الإرهاب، عبر تبني مقاربات غير عسكرية، من خلال دعم 5 محاور رئيسية هى: البيئة، والسكان، والأمن، والتعليم، والتنمية، ولكن يبقى أن المبادرة تواجه تحديات عديدة لا تبدو هينة.

أبعاد رئيسية

في ضوء الأوضاع السائدة بمنطقة الساحل خلال الأعوام القليلة الماضية، مع تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية، بالتوازي مع تزايد الاهتمام الإقليمي والدولي بمكافحة الإرهاب في تلك المنطقة، يمكن الإشارة إلى الأبعاد الرئيسية للاجتماع، وذلك على النحو التالي:

1- الاجتماع الثاني لمبادرة “نداء الساحل”: يُعد اجتماع “مبادرة نداء الساحل” في الجزائر، هو الثاني من نوعه في إطار المبادرة ذاتها، من أصل 5 اجتماعات متفق عليها، عقب القمة البرلمانية العالمية الأولى لمكافحة الإرهاب التي عقدت في النمسا عام 2021، وهي مبادرة يتبناها الاتحاد البرلماني الدولي.

ومن المقرر تقديم مخرجات الاجتماعات الخمسة في وثيقة واحدة في صورة توصيات، وتقديمها للقمة العالمية للاستجابة لمبادرة “نداء من أجل الساحل”. وقد صدر عن الاجتماع بيان ختامي يتضمن 15 توصية، لتعزيز جهود الدول لمكافحة الإرهاب، سوف تُعرض على الاجتماع القادم للاتحاد البرلماني الدولي.

2- نشاط متزايد للإرهاب في منطقة الساحل: تمثل منطقة الساحل، وتحديداً دول مالي وبوركينافاسو والنيجر، إحدى أبرز بؤر النشاط العملياتي للتنظيمات الإرهابية، وتحديداً تلك المرتبطة بتنظيمي “القاعدة” و”داعش”، خاصة أن الأخير تمكن من إعادة تفعيل مجموعاته وتحديداً عبر المثلث الحدودي بين مالي وبوركينافاسو والنيجر، إضافة إلى النشاط المتزايد لفرع تنظيم “القاعدة” المسمى “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” (تحالف لمجموعات جهادية محلية).

وتشير تقديرات غربية إلى أن منطقة الساحل الغربي في أفريقيا، شهدت خلال عام 2022، تضاعف أعداد الأحداث الإرهابية المنسوبة لجماعات إرهابية متشددة، بنحو أربعة أضعاف، منذ عام 2019. وبشكل عام، فإن عام 2022، شهد تضاعف الأحداث الإرهابية مقارنة بعام 2021، بمعدل 2800 عملية إرهابية، وفقاً لمركز ” Africa Center for Strategic Studies”. واللافت في النشاط العملياتي للتنظيمات الإرهابية خلال العام الماضي، اتساع النطاق الجغرافي لعمليات التنظيمات الإرهابية.

3- اهتمام متصاعد بالمقاربات غير العسكرية: بغض النظر عن الاهتمام العالمي في الأدبيات الغربية لدراسات الإرهاب، بدعم المقاربات غير العسكرية في استراتيجيات مكافحة الإرهاب،فإن تجربة مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل خلال السنوات القليلة الماضية، وتحديداً العمليات العسكرية للدول الأوروبية، وبالأخص فرنسا، دفعت إلى إعادة التفكير في تبني استراتيجية لا تقتصر على المقاربات العسكرية فقط في مكافحة الإرهاب، في إطار دراسة جذور العنف والإرهاب، وتفكيك الدوافع المؤدية لانتشاره، وتقليص قدرة التنظيمات على اجتذاب عناصر جديدة بشكل مستمر، في ظل محدودية المقاربة العسكرية وحدها لمواجهة الإرهاب.

4- محورية دور المجتمعات المحلية: تمنح بعض تجارب الدول في تعزيز التنسيق والاعتماد على المجتمعات المحلية داخل قارة أفريقيا، في سياق استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب، أهمية وزخماً خاصاً لاجتماع الجزائر، عبر مشاركة عدد من قادة المجتمعات المحلية في دول منطقة الساحل.

ويبرز في إطار اعتماد الدول على المجتمعات المحلية، لدعم جهود مكافحة الإرهاب،استعانة الصومال بعددٍ من أبناء العشائر في دعم جهود مواجهة النشاط المتصاعد لحركة “شباب المجاهدين”، في إطار الحرب الشاملة التي أعلنها الرئيس حسن شيخ محمود بمجرد انتخابه في مايو 2022، إضافة إلى اتجاه بوركينافاسو إلى تجنيد مدنيين متطوعين بنحو 50 ألف شخص، وتدريبهم على حمل السلاح، من أبناء مختلف المناطق بالدولة، لدعم جهود مكافحة الإرهاب.

5- مواجهة ارتدادات الإرهاب بغرب أفريقيا: لا يمثل تصاعد النشاط العملياتي للتنظيمات الإرهابية معضلة للدول التي تشهد نشاطاً متزايداً فقط، وإنما معضلة لدول منطقة الساحل بشكل عام، سواء التي تمتلك حدوداً مع دول النشاط الإرهابي، أو حتى البعيدة جغرافياً، في ظل تزايد التخوفات من ارتدادات النشاط الإرهابي على حالة الأمن في منطقة الساحل بشكل خاص، وغرب أفريقيا بشكل عام، بفعل تزايد ظاهرة الانقلابات العسكرية في دول مثل بوركينافاسو ومالي وغينيا.

ويزيد من حدة هذه التخوفات الروابط بين التنظيمات الإرهابية بفعل النشاط الإقليمي للمجموعات التي تعمل ضمن مشروع “الجهاد العالمي” لتنظيمى “القاعدة” و”داعش”، إضافة إلى تعدد استراتيجيات مكافحة الإرهاب بمنطقة الساحل، في ضوء تعدد الفاعلين الخارجيين، وتصاعد الصراع والمنافسة على النفوذ والموارد الطبيعية.

عقبات متداخلة

رغم دعوة اجتماع الجزائر ضمن مبادرة الاتحاد البرلماني الدولي إلى تبني مقاربات غير عسكرية، بالتركيز على قضايا تمثل عوامل محفزة لنشاط التنظيمات الإرهابية، فإن ثمة تحديات مختلفة تواجه بلورة توصيات ومخرجات اجتماعات المبادرة، ويتمثل أبرزها في:

1- استجابة بطيئة في بلورة رؤية لـ”نداء الساحل”: في ظل خريطة انتشار التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل، وقدرة تلك التنظيمات على التكيف ومضاعفة معدلات العمليات الإرهابية، واتساع نطاقها الجغرافي، بما يوفر لهذه التنظيمات تمدداً ميدانياً، فإن الاستجابة السريعة لهذه التحولات تمثل عاملاً مؤثراً وحاسماً في تعزيز قدرات المواجهة، وتبني مقاربات غير عسكرية، جنباً إلى جنب مع المقاربات العسكرية.

وهنا، فإن السمة المميزة لاجتماعات مبادرة “نداء من أجل الساحل”، هي الاستجابة البطيئة، إذ لم يتم عقد سوى اجتماعين فقط على مدار ما يقرب من 17 شهراً تقريباً منذ إطلاق المبادرة في سبتمبر 2021، بانتظار استكمال الاجتماعات الخمسة المقررة خلال الفترة المقبلة، تمهيداً لبلورة توصيات ورؤية متكاملة حول تعزيز جهود مكافحة الإرهاب، في ضوء عدم الاقتصار على المقاربات العسكرية.

2- حدود تفعيل توصيات اجتماعات المبادرة: رغم حالة الزخم التي تصاحب اجتماعات مبادرة “نداء من أجل الساحل”، في ظل تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية، وتزايد الدعوات لتبني مقاربات غير عسكرية في مكافحة الإرهاب، التي ربما تكون لها تأثيرات إيجابية خلال الفترة المقبلة، وتحديداً على مستوى تعزيز التواصل والتنسيق مع المجتمعات المحلية داخل كل دولة؛ إلا أن الرهان يتمثل في حدود تفعيل مخرجات الاجتماعات، إذ تظل في إطار التوصيات التي يتم رفعها للاتحاد البرلماني الدولي، حيث طلب البيان الختامي لاجتماعات الجزائر من الاتحاد “تعميم الوثيقة النهائية للاجتماع، تمهيداً للترويج لها داخل الكيانات الوطنية”.

وبشكل عام، فإن توصيات اجتماعات المبادرة لا تكتسب صفة الإلزامية، ولكنها تشير إلى مبادئ عامة يمكن للدول الاستعانة بها في تعزيز استراتيجيتها الوطنية لمكافحة الإرهاب، وإن كانت ستفرض ضغوطاً على الدول لتبني مقاربات غير عسكرية.

3- قدرة الدول على تنفيذ التوصيات: بالنظر إلى أن مخرجات اجتماعات المبادرة تأتي في إطار التوصيات، فإن أحد أهم هذه التحديات يتعلق بقدرة الدول على الاستجابة لتطبيق بعض من تلك التوصيات، في ظل تركيز المبادرة على المقاربات غير العسكرية، التي تهتم بالأبعاد التنموية لمختلف أقاليم الدولة، في حين أن بعض الدول لا تمتلك القدرات المالية لتفعيل مخططات التنمية، بهدف مواجهة أحد أبرز العوامل المحفزة لنشاط التنظيمات الإرهابية. وهنا، يبقى التساؤل حول قدرة المبادرة في مخرجاتها النهائية على اجتذاب تمويلات وجهات مانحة، لتعزيز قدرات الدول على تحقيق التنمية الشاملة.

كما أن تعزيز الحوار والتنسيق مع المجتمعات المحلية يواجه مأزقاً في ظل حالة التوتر والاحتراب بين بعض المكونات المحلية والدولة المركزية، مثل الوضع في شمال مالي بين الحكومة المركزية والكيانات التي ينضوي بعضها في كيان “تنسيقية تحرير أزواد”، وتصاعد حالة التوتر بين الجانبين، إلى حد التلويح بعودة المواجهات، على خلفية اتهام “التنسيقية” للحكومة في مالي، بعدم تنفيذ مخرجات اتفاق السلام في الجزائر.

4- “أمننة” ملف المجتمعات المحلية: تشير أغلب أدبيات مكافحة الإرهاب الغربية إلى أهمية تعزيز التواصل مع المجتمعات المحلية، باعتباره أحد العوامل الحاسمة في الترجيح النسبي لأي من طرفي المواجهة، سواء الدول وأجهزتها المعنية بمكافحة الإرهاب، أو التنظيمات المتطرفة. إذ إن التوتر بين الدول والمجتمعات المحلية يؤدي إلى تزايد احتمالات توفير تلك المجتمعات مظلة لنشاط التنظيمات، وإمكانية استقطاب عناصر جديدة، اعتماداً على ترويج سرديات “المظلومية”. في المقابل، فإن إزالة عوائق الحوار والتواصل يمثل عاملاً حاسماً في رفع أي غطاء لهذه التنظيمات الإرهابية، ومحاصرة تمددها داخل المجتمعات المحلية.

ولكن اللافت في هذا السياق هو سيطرة الرؤية الأمنية على التعامل مع المجتمعات المحلية في سياق المقاربات العسكرية الأمنية، وهي رؤية مرحلية تعتمد على استمالة تلك المجتمعات في لحظات النشاط المتزايد للتنظيمات الإرهابية لمواجهتها، في حين لا تلتفت لأهداف التنمية الشاملة لتلك المجتمعات.

5- علاقات دول الساحل مع الفاعلين الدوليين: تشهد القارة الأفريقية صراعاً متصاعداً على النفوذ ومحاولة استغلال الموارد الطبيعية بين عدد من الفاعلين الدوليين من خارج القارة، بما ينعكس على ولاءات وعلاقات دول منطقة الساحل بشكل خاص مع هؤلاء الفاعلين، وبالتالي تعدد وتداخل استراتيجيات مكافحة الإرهاب بصورة قد تدفع بعض الدول إلى عدم تبني توصيات مخرجات اجتماع المبادرة، اعتماداً على رؤى الفاعلين الدوليين، وتركيز اهتمام الأطراف الخارجية على المقاربات العسكرية، وتحديداً بالنسبة لفرنسا وروسيا.

ولكن في المقابل، فإن مراكز التفكير الأمريكية توصي صانع القرار بضرورة تبني المقاربات غير العسكرية في التعامل مع ملف الإرهاب في أفريقيا، وتقديم الولايات المتحدة نفسها كفاعل إنساني وليس أمنياً لموازنة العلاقات في منطقة الساحل بعد النفوذ الروسي المتزايد عبر مجموعة “فاجنر”.

ضغوط مستمرة

رغم العقبات التي تقف في مواجهة تنفيذ توصيات اجتماعات مبادرة “نداء من أجل الساحل”، إلا أنها تفرض ضغوطاً مستمرة على الدول التي تشهد نشاطاً إرهابياً لتعديل استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب، وإدراج المقاربات غير العسكرية جنباً إلى جنب مع المقاربات العسكرية.

ولكن يبقى أن قدرة الدول على تنفيذ توصيات اجتماعات المبادرة، في شقها غير العسكري، ستظل مرهونة بقدرة أجهزتها على الوصول للمجتمعات المحلية، في ظل الانفلات الأمني، ليظل ملف التنمية عالقاً بين جدلية الأمن أولاً أم التنمية.