تحركات لافتة:
هل يعزز “داعش” نشاطه بسوريا بعد ثلاث سنوات من هزيمته؟

تحركات لافتة:

هل يعزز “داعش” نشاطه بسوريا بعد ثلاث سنوات من هزيمته؟



رغم مرور ثلاث سنوات منذ إعلان مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) طرد عناصر تنظيم “داعش” من آخر معاقله في منطقة الباغوز (23 مارس 2019)؛ إلا أن التنظيم لا يزال يشكل تهديداً متزايداً على الساحة السورية، وأظهر قدراً من التكيف مع المتغيرات الجديدة في ضوء استراتيجية لا تعتمد على السيطرة المكانية، وإنما تركز على شن حرب عصابات.

صحيح أن التنظيم تعرض لضربات متلاحقة بفعل فقدان الأراضي التي كانت تحت سيطرته، ومقتل زعيمين له خلال السنوات الثلاث الماضية، فضلاً عن فقدان عدد كبير من قياداته وكوادره الميدانية التي تتمتع بخبرات عسكرية، وتراجع مصادر تمويله؛ لكنّ ذلك لا ينفي أنه يستفيد من بعض السياقات المحفزة على توسيع النشاط العملياتي، من ناحية استمرار الوضع الأمني الهش، وصعوبة السيطرة على منطقة البادية باتجاه وسط سوريا، إضافة إلى أزمة تتعلق بضبط الحدود بين العراق وسوريا، وأخيراً فإن من شأن تراجع عمليات القصف الروسي منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية توسيع نشاط التنظيم في منطقة البادية.

ومن خلال تتبع نشاط التنظيم على الساحة السورية، فإنه لجأ إلى نمط لا مركزي في العمليات في إطار تكيف تنظيمي مع الاستراتيجية الجديدة، مع الاتجاه إلى تنويع مصادر التمويل بعد فقدان السيطرة على آبار النفط، والسعي لاجتذاب عناصر جديدة من سوريا وخارجها على حد سواء، واستمرار عمليات اقتحام السجون لزيادة عدد عناصره في إطار محاولات توسيع النشاط والنفوذ، مع تكثيف العمليات في مناطق شمال شرق سوريا منذ الربع الأخير من العام الماضي.

مرت ثلاث سنوات كاملة على إعلان مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية”، في 23 مارس 2019، القضاء على تنظيم “داعش” وطرد عناصره من آخر معاقله في منطقة الباغوز شرقي سوريا، بعدما تمكنت قوات الجيش العراقي بدعم التحالف الدولي لمواجهة “داعش” من إنهاء سيطرة التنظيم على مدينة الموصل عام 2017. ولكن رغم ذلك، بدا أن التنظيم يمتلك قدراً من التكيف، يُمكّنه من مواصلة النشاط العملياتي. ويسعى التنظيم بشكل خاص على الساحة السورية إلى استغلال عدد من السياقات وتوظيفها في ضوء استراتيجية جديدة، لا تعتمد على السيطرة المكانية على مساحات كبيرة، بل تركز على العودة إلى تكتيك حرب العصابات في الصحراء والمدن على حد سواء، حسب طبيعة كل منطقة والإمكانات المتاحة.

واقع ضاغط

خلال السنوات الثلاث الماضية، منذ مارس 2019 وحتى الآن، فإن التنظيم تعرض لضربات وخسائر متلاحقة، يمكن تناولها على النحو التالي:

1- تراجع مصادر التمويل: ويعود ذلك إلى فقدان مصدر التمويل الرئيسي لـ”داعش” المتمثل في التجارة في النفط بالسوق السوداء. ويشير تقدير وزارة الخزانة الأمريكية إلى أن مداخيل التنظيم من النفط تراوحت ما بين مليون و2 مليون دولار يومياً في عام 2014، لترتفع في عام 2015 بعد السيطرة الكاملة على أغلب حقول النفط في شرق وشمال شرق سوريا إلى ما يقرب من 40 مليون دولار شهرياً. ووفقاً لبعض التقديرات، فإن التنظيم كان يعتمد على عوائد النفط ليس فقط في تمويل عملياته بالعراق وسوريا، وإنما على مستوى أفرعه المختلفة.

2- مقتل زعيمين للتنظيم: منذ معركة الباغوز، فقد التنظيم زعيمين خلال فترة السنوات الثلاث الماضية؛ الأول أبو بكر البغدادي في أكتوبر 2019، والثاني أبو إبراهيم الهاشمي القرشي في فبراير 2022، بعمليتي إنزال للقوات الخاصة الأمريكية في محافظة إدلب السورية، في إطار تكتيك “قطع الرؤوس” ضمن استراتيجية مكافحة التمرد المسلح. وربما يؤدي التقارب الزمني بين عمليتي الاستهداف إلى ارتباك داخلي على مستوى القيادات العليا.

3- فقدان عدد كبير من القيادات: وذلكبفعل العمليات العسكرية في الباغوز وما سبقها من مواجهات بين “قوات سوريا الديمقراطية” وعناصر “داعش”، إضافةً إلى قصف طائرات التحالف الدولي، على نحو ساهم في فقدان التنظيم عدداً كبيراً من قياداته الميدانية التي تتولى التخطيط وقيادة المجموعات والعمليات على الأرض، والتي منحته ميزة في توسيع السيطرة الميدانية، خاصة وأن عدداً منهم كان يتمتع بخلفية عسكرية، إضافة إلى اعتقال الآلاف من عناصر التنظيم وإيداعهم في سجون تخضع لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، والتي تضم بعض القيادات والكوادر الميدانية.

سياقات محفّزة

مع محاولات تنظيم “داعش” للعودة مجدداً إلى الساحة السورية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، فإن ثمة بعض السياقات التي يمكن أن تحفز هذه المحاولات، يتمثل أبرزها في:

1- انعكاسات تعقيدات المشهد على الوضع الأمني: توفر تعقيدات المشهد السوري وانعكاسات ذلك على الأوضاع الأمنية الهشة، مناخاً مناسباً لتنظيم “داعش” في الدفع باتجاه استعادة وتوسيع نشاطه العملياتي خلال السنوات الثلاث الماضية، في ظل الصراع بين عدد من المكونات والأطراف على الساحة السورية، وإن كانت “خطوط التماس” بين الأطراف المختلفة حدّت من تلك المواجهات المسلحة، إلا أن الخروقات لا تزال قائمة، بما يضفي مزيداً من التوترات الأمنية.

2- صعوبة السيطرة على منطقة البادية السورية: منذ طرد عناصر “داعش” من الباغوز، انتقل إلى منطقة البادية السورية باتجاه الوسط، وهي مساحة كبيرة تمتد عبر عدد من المحافظات جنوب الرقة وريف حماة الشرقي وريف حمص الشرقي وريف دير الزور وجنوب شرق حلب. وعلى الرغم من خضوع تلك المناطق لسيطرة الجيش السوري ومليشيات إيرانية؛ إلا أن السيطرة الكاملة عليها تنطوي على صعوبة، في ضوء التضاريس الوعرة وامتداد مساحة الصحراء في تلك المنطقة.

3- أزمة ضبط الحدود بين العراق وسوريا: لا تزال مسألة ضبط الحدود بين سوريا والعراق تمثل أزمة للجانبين، في ظل استمرار انتقال عناصر “داعش” بين حدود الدولتين، عبر ممرات آمنة. وبين حين وآخر تُعلن السلطات العراقية ضبط أو قصف عناصر لـ”داعش” خلال محاولات التسلل بين الحدود. وخلال شهر مارس الجاري، أشارت تقارير إلى أن السلطات العراقية تبني حاجزاً خرسانياً على الحدود الغربية مع سوريا، في منطقة جبل سنجار، لمنع تسلل عناصر التنظيم بين الحدود، مع تكثيف الوجود الأمني في المناطق التي تشهد نشاطاً ملحوظاً لتنظيم “داعش”.

4- تراجع القصف الروسي مع بداية الأزمة الأوكرانية: نفّذ سلاح الطيران الروسي مئات الطلعات الجوية منذ عام 2019 أسفرت، وفقاً لبيانات وزارتي الدفاع الروسية والسورية وجهات إعلامية محلية، عن مقتل وإصابة المئات من عناصر “داعش”. ولكن تشير مصادر سورية محلية، منها المرصد السوري لحقوق الإنسان، إلى تراجع القصف الجوي الروسي لـ”داعش” في منطقة البادية منذ بداية الأزمة الأوكرانية، بما يؤثر على نشاط التنظيم في تلك المنطقة، من ناحية تصعيد العمليات ضد قوات الجيش السوري، خاصة وأن روسيا صعدت من الضربات الجوية عقب اقتحام التنظيم لسجن “غويران” في يناير الماضي.

آليات رئيسية

يمكن القول إن التنظيم يسعى إلى استخدام آليات عديدة من أجل تعزيز قدرته على العودة مجدداً إلى الساحة السورية، وهي:

1- التكيف التنظيمي لمواجهة الواقع الجديد: بفعل الواقع الضاغط على التنظيم، فإن “داعش” اتجه إلى إجراء بعض التغييرات على استراتيجية العمل، من خلال تفعيل نمط لا مركزي في العمليات بسوريا، بما يتناسب مع الاستراتيجية الجديدة التي لا تقضي بالسيطرة الميدانية والمكانية على الأرض، فخلال عامي 2019 و2020 على وجه التحديد، لجأ التنظيم إلى اتخاذ منطقة البادية نقطة انطلاق لإعادة التموضع على الساحة السورية، عبر تقسيم عناصره إلى مجموعات صغيرة، بما يمكنها من مقاومة الغارات الجوية الروسية، في حين أنه لجأ إلى تفعيل الخلايا بمنطقة شمال شرق سوريا، وفق تكتيكات العمل في المدن والمناطق المأهولة بالسكان التي تعتمد على التخفي وجمع المعلومات.

2- الاتجاه إلى تنويع مصادر التمويل: في ضوء فقدان التنظيم مصادر التمويل الرئيسية، لجأ إلى توفير مصادر تمويل وفقاً للبيئة المحيطة، ففي منطقة البادية اتجه إلى فرض الإتاوات على رعاة الأغنام والماشية وشبكات تهريب البشر، ومهربي التبغ، و”الزكاة” على سكان المنطقة. أما في مناطق شمال شرق سوريا، فقد اتجه منذ العام الماضي إلى التضييق على شركات النفط المحلية التي تسيطر على آبار صغيرة لدفع إتاوات، والتهديد بتنفيذ أعمال تخريبية.

3- تصعيد عملياتي في شمال شرق سوريا: منذ الربع الأخير من العام الماضي، بدأ “داعش” في تصعيد عملياته في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، شمال شرق البلاد، بعدما كان يركز عملياته في منطقة البادية، ضد قوات الجيش السوري، اعتماداً على تشكيل عددٍ من الخلايا في تلك المنطقة. وعلى الرغم من إعلان “قسد” خلال الأشهر القليلة الماضية عن إحباط مخططات إرهابية لـ”داعش” وتفكيك خلايا تابعة له، إلا أن التنظيم تمكن من إحداث اختراق أمني لمنطقة شمال شرق سوريا.

4- تعزيز القدرات باستقطاب عناصر جديدة: يعكس انتقال عدد من الشباب من لبنان للانضمام إلى تنظيم “داعش”، بعدما أعلنت السلطات العراقية مقتل عدد من هؤلاء في هجمات على أوكار للتنظيم، استمرار قدرة الأخير على الاستقطاب. ووفقاً لوسائل إعلام محلية لبنانية، فإن العشرات من الشباب سافر على دفعات منذ صيف عام 2021 للخارج، للانضمام إلى “داعش”، مع ترجيح انتقالهم عبر الحدود من لبنان إلى سوريا، ثم إعادة توزيعهم، بما يعزز قدرات التنظيم وتعويض النقص في عناصره بفعل المواجهات أو القصف الروسي في البادية. كما يسعى التنظيم إلى تجنيد عناصر من مناطق شمال شرق سوريا، اعتماداً على الأوضاع الاقتصادية الصعبة، عبر زيادة نفوذ خلاياه في بعض المدن والقرى.

5- استمرار محاولات اقتحام السجون: لم تكن محاولة اقتحام سجن “غويران” التي نفذها التنظيم خلال شهر يناير الماضي، أول محاولة لاقتحام السجون في شمال شرق سوريا خلال العامين الماضيين على وجه التحديد، ولكن ينُظر إليها باعتبارها المحاولة الأكبر، والعملية الأبرز للتنظيم منذ طرد عناصره من الباغوز. ويمثل اقتحام السجون نهجاً لـ”داعش” وَضَعَه زعيم التنظيم الأسبق أبو بكر البغدادي قبل مقتله في 2019. وتضم السجون تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” الآلاف من عناصر التنظيم، إضافة إلى مخيم الهول، وفي حال نجاح التنظيم في تحريرهم من السجون، فإن ذلك من شأنه زيادة نفوذه ونشاطه في سوريا، خاصة وأن السجون تضم عناصر مدربة وقيادات وكوادر ميدانية لديها خبرات عسكرية.

تهديد متزايد

وأخيراً، فإن “داعش” أظهر قدراً من التماسك التنظيمي بعد اتّباعه استراتيجية مختلفة للتكيف مع الواقع الجديد، في ضوء محاولات توسيع نشاطه وعملياته وزيادة نفوذه في مناطق شمال شرق سوريا خلال الأشهر القليلة الماضية، واستمرار تثبيت تموضعه في منطقة البادية السورية، واستغلال تراجع القصف الروسي منذ بداية الأزمة الأوكرانية. وعلى الرغم من أنه يُشكل تهديداً متزايداً في سوريا خلال الفترة الماضية، إلا أن قدراته لا تعكس تحولاً باتجاه استعادة السيطرة مجدداً على مساحات واسعة من الأراضي.