مبادرات متعددة:
هل يساهم الحوار في تجاوز مأزق الانسداد السياسي العراقي؟

مبادرات متعددة:

هل يساهم الحوار في تجاوز مأزق الانسداد السياسي العراقي؟



توصف حالة المشهد العراقي الحالي بأنها حالة انسداد سياسي بعد فشل الفرقاء السياسيين في التوافق على منصبي رئيس الجمهورية والوزراء بعد انتخابات أكتوبر 2021. فبعد فترة من الهدوء النسبي لاختيار محمد الحلبوسي لرئاسة البرلمان، استدار المشهد السياسي نحو أزمة اختيار رئيس الوزراء مرة أخرى لكن بشكل أكثر تعقيداً على وقع التسريبات المنسوبة لزعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، والتي أثارت ردود فعل سلبية لدى النخب العراقية بشكل عام، والتيار الصدري بشكل خاص؛ حيث زادت من حجم التصدع داخل البيت الشيعي المستقطب بين التيار الصدري والإطار التنسيقي.

تآكل القواعد

ورغم تراجع أزمة منصب رئيس الجمهورية وتصدر أزمة رئاسة الحكومة للمشهد، فإن الأزمة العراقية في ظل التصعيد السياسي مع إدخال الشارع مرة أخرى في المعادلة بعد ثورة تشرين 2019، تبدو أعمق بكثير من أن توصف كحالة انسداد سياسي، وهو ما بات يعبر عنه الساسة والمراقبون العراقيون، بأن هناك تآكلاً لقواعد وآليات نظام الحكم بمكوناته الرئيسية المتمثلة في الرئاسات الثلاث، فالانتخابات لم تعد الآلية الناجزة لعملية تشكيل السلطة، بقدر ما أصبحت عملية استطلاع أو استفتاء للرأي العام كعملية إجرائية، ودلالة ذلك أن الانتخابات الأخيرة أعادت إنتاج مخرجات العملية الانتخابية السابقة دون هامش تغيير يذكر، على الرغم من أنه بين المحطتين “ثورة شعبية” كان يفترض أن تدفع إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية.

وما بين مقاربة الانسداد السياسي ومقاربة الحل الجذري لتآكل قواعد منظومة تشكيل السلطة، يتراوح سقف المطالب ما بين الواقعية السياسية والطموح. فالخطاب السياسي للتيار الصدري يعبر عن المقاربة الثانية التي تميل إلى المثالية، ومعه قطاع عريض من النخبة السياسية. بينما يضع التيار شروطه للخروج من المأزق الراهن وفق المقاربة الأولى التي تميل إلى الواقعية، وهو ما ظهر بشكل واضح في خطبة الجمعة (6 أغسطس الجاري)، حيث طالب مهند الموسوي، ممثل الصدر في خطبة الجمعة، بحلّ البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة، لكنّه في الوقت ذاته قصف جبهة خصومه ومنافسيه بكَيْل انتقادات لاذعة إلى الطبقة السياسية، التي وصفها بـ”الفاسدة التي أفقرت البلاد”، كما اتهمها بـ”العمالة للخارج”.

وحسب مراقبين، فإن هذا المحور في الخطاب الصدري يهدف إلى تحقيق غرضين: الأول، هو الحفاظ على حالة التعبئة الشعبية تحت مظلة التيار، ولا سيما بعد دعوة المعتصمين في مقر البرلمان إلى البقاء في حالة اعتصام مفتوح خارجه. والثاني، هو تمرير رسالة إلى داعمي نوري المالكي من الإطار لتجاوزهم أزمة التسريبات والاستمرار في العملية السياسية، بغض النظر عما طالهم في تلك التسريبات شأنهم شأن الصدر، وبالتالي يقدمون المصالح الضيقة على المصلحة العامة.

لكن بغض النظر عن التصعيد في الخطاب الصدري؛ فإن الأطراف الشيعية تتوافق على “الحوار” كآلية للخروج من مأزق الانسداد الراهن. وعلى الرغم من أن الخطاب الصدري ذاته انطوى على إشارة واضحة بأن الحوار لن يقود إلى نتائج، وأعاد التأكيد على مطالبه كشرط للحوار؛ ففي المقابل لذلك فإن بقية أطياف الإطار تقبل بآلية الحوار، وفوضت هادي العامري زعيم تيار الفتح للحوار مع زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، لكن على قاعدة عدم تقديم شروط مسبقة، واعتبر ساسة ومراقبون محسوبون على الإطار أن مقترح الإطار تسمية شياع السوداني رئيساً للوزراء كان بمثابة خطوة نحو التسوية السياسية بعد أزمة التسريبات، وهي الخطوة التي لم ترقَ إلى حلحلة الأزمة من جانب الصدر، ربما لحجة وحيدة هي كونه واجهة لنوري المالكي، وتأكدت هذه الحجة بعد رفض الإطار التراجع عن تلك الخطوة.

وتعود هذه التطورات إلى طبيعة العقدة التي تحول دون تحريك المشهد الراكد، والتي ترتبط بالتساؤل حول: من أين يمكن البدء بالحوار؟، هل بالقبول بالشروط التي يطرحها الصدر؟، ما يعني رضوخ الإطار لمطالب الأخير دون مراجعة وهي مسألة غير ممكنة، فضلاً عن العقبات القانونية وفق فتوى المحكمة العليا والمتمثلة في ضرورة إقالة حكومة تصريف الأعمال كونها لا يحق لها اتخاذ قرار من أعمال السيادة، بالإضافة إلى تغير المفوضية العليا للانتخابات، لكن قانونيين يجادلون في تلك النقطة استناداً إلى أحكام المادة 64 من الدستور، والتي تتضمن بديلاً آخر لخيار طلب رئيس الحكومة وموافقة رئيس الجمهورية، وهو إمكانية حل البرلمان نفسه بنفسه بطلب من الأغلبية المطلقة، وهي الخطوة التي يبدو أن رئيس البرلمان محمد الحلبوسي يميل إليها، بعد تأييده طلب الصدر بحل البرلمان، وإن كان هناك من يشير إلى أن حسابات الحلبوسي نفسه تميل إلى واقع تركيبة البرلمان بعد استقالة نواب الصدر، مما يعني أن البرلمان لن يكون مستقراً من الناحية السياسية.

خيارات مختلفة

يمثل تدويل الحوار طرحاً آخر قيد التبلور في ضوء ما أعلن عنه عضو الهيئة العامة لتيار الحكمة رحيم العبودي، من أن المبعوثة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت طرحت مبادرة تتمثل في عقد مؤتمر للحوار برعاية أممية، كما أشار إلى أن زيارة العامري المرتقبة للصدر ترتبط بنتائج لقاء بلاسخارت ومبادرتها ورد الإطار التنسيقي عليها. وتطرح هذه النقطة تساؤلاً آخر يُضاف إلى تساؤل: من أين يبدأ الحوار؟، وهو: كيف يكون الحوار؟.

إذ إن الوساطة الأممية تعني تدويل الحوار، ولا يُعتقد أن الإطار سيقبل بتلك الخطوة لعدة أسباب، لعل أبرزها أنه يرى أن الأزمة داخل البيت الشيعي، وبالتالي فإن خروجها عنه يعني شق الصف الشيعي. والعامل الآخر هو أجندة الحوار التي يمكن أن تتسع خارج حدود أزمة منصب رئيس الوزراء، بالإضافة إلى الوضع في الاعتبار أن ظهور بلاسخارت كلاعب في المشهد بين الشيعة، يعني فشل مهمة قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني، وبالتبعية فشل اللاعب التقليدي وهو إيران في رأب الصدع بين القوى الشيعية التي يُفترض أنها محسوبة بشكل أو بآخر على طهران.

أيضاً، من غير الواضح إلى أي مدى تتقارب أو تتقاطع مبادرة الحوار التي دعا إليها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، والتي تعني الحوار تحت مظلة الدولة؛ إلا أن شروط الصدر التي جاءت في اليوم التالي لدعوة الكاظمي عقّدت انطلاق الحوار، ودفعت مرة أخرى إلى المراوحة بين حوار شيعي – شيعي، وبين حوار برعاية أو بوساطة أممية. وفي الأخير فإن ما سيرجح أياً من تلك المسارات هو مخرجات لقاء العامري المرتقب مع الصدر، مع الوضع في الاعتبار أن نتائجه قد لا تظهر في اللقاء الأول، إذ ستخضع المخرجات لنقاش داخل الإطار التنسيقي قبل أن يعود العامري برد مرة أخرى للصدر، وهو ما يرجح الميل إلى حوار شيعي – شيعي.

رهانات الأطراف

يراهن الصدر على أن يُبقي قواعده وأنصاره والقوى الداعمة لتوجهه في المنطقة الخضراء خارج قبة البرلمان، كورقة ضغط على الإطار. وبالمثل، يراهن الإطار على أن الصدر قد يتراجع ويغير مزاجه السياسي، ومن ثم يُبدي مرونة تسمح بتبلور اختراق للخروج من المأزق بتلبية بعض المطالب، ولا سيما مراجعة الموقف من تسمية السوداني. وهناك رهان آخر محتمل للحوار وهو دخول طهران مجدداً على الخط لاحتواء الأزمة عبر استدعاء القوى الشيعية لحوار في طهران، أو توجيه الدعوة للصدر لزيارة إيران على نحو ما حدث مسبقاً لنزع فتيل الاحتقان بين القوى السياسية الشيعية بشكل عام، أو اللجوء إلى الخيار التكتيكي لفتح مخرج للأزمة عبر حل البرلمان وفق المادة 64 من الدستور.

متغير رئيسي

في الأخير، من المتصور أن أزمة الانسداد السياسي المتصاعدة في المشهد العراقي قابلة للخيارات التقليدية، وهي أن تعتمد الأطراف الحوار كآلية للخروج من الأزمة بالتوصل إلى صفقة رابحة لكافة الأطراف، بما فيهم الشارع، وهي حل البرلمان، وقد تميل إلى السيناريو التقليدي الآخر، وهو استمرار التصعيد السياسي دون الانزلاق إلى المواجهة، على أن يعيد التصعيد تصويب المسار مرة أخرى باتجاه السيناريو الأول وهو الحوار بهدف احتواء الأزمة؛ إلا أن السيناريو غير المتوقع قد يتمثل في انفجار البيت الشيعي على خلفية الأزمة الراهنة، ويبدو سيناريو مستبعداً بالنظر إلى محدد رئيسي هو دور إيران في هذه العملية. لكن على الجانب الآخر يظل سيناريو انفجار الشارع مرة أخرى محتملاً. صحيح أن الصدر يستقطب القطاع الأكبر من الشارع في اتجاهه، ويضع التيار كقاطرة لعملية الاعتصام؛ إلا أنه لا يمكن الرهان على صبر الشارع الذي بدأ بتحريك المشهد الذي وصل إلى حالة الفشل من قبل، وقد يكون هو المتغير الذي يمكن من خلاله تحريك المشهد مرة أخرى للخروج من حالة الانسداد.