ضربات استباقية:
هل يتمكّن الجيش الوطني الليبي من منع عودة “داعش”؟

ضربات استباقية:

هل يتمكّن الجيش الوطني الليبي من منع عودة “داعش”؟



بدأت قوات الجيش الوطني الليبي عملية عسكرية موسعة جنوبي البلاد (14 يناير 2022)، والتي جاء من بين أهدافها ملاحقة العناصر الإرهابية من الخلايا المتواجدة في المنطقة الجنوبية، وتحديداً عناصر تنظيم “داعش”، التي بدأت في النشاط خلال العام الماضي، بما يثير تساؤلات حيال دوافع هذه العملية.

سياقات مهمة

انطلقت العملية العسكرية للجيش الوطني الليبي، من دون تحديد مدى زمني لانتهاء تلك العمليات، بما يجعلنا أمام مدة مفتوحة من الناحية النظرية، وربما يتصل هذا بسياقات مهمة عند الحديث عن النطاق الجغرافي للعملية المشار إليها، وأبرزها:

1- اتساع نطاق التهديدات جنوباً: يعاني الجنوب الليبي من حالة من عدم الاستقرار ممتدة لسنوات، في ظل تعقيدات المشهد الأمني، خاصة وأن التهديدات الأمنية لا تتصل بنطاق جغرافي صغير يمكن التعامل معه، ولكن يتسع ليشمل مساحة واسعة من الجنوب؛ إذ إن التهديد في الجنوب الشرقي يتصل بعصابات التهريب في المثلث الحدودي بين ليبيا والسودان وتشاد، من ناحية أخرى فإن خلايا تنظيم “داعش” تنشط في جنوب غرب، إضافة إلى مليشيات مسلحة ليبية تسعى للسيطرة على مناطق في الجنوب.

2- تنامي نشاط ملحوظ لـ”داعش”: وبالنظر إلى نشاط خلايا “داعش” على وجه التحديد، فإن التنظيم ورغم أنه لا يمثل تهديداً كبيراً أو متوسطاً خلال الفترة الماضية، رغم تنفيذ عدد من العمليات؛ إلا أن استمرار محاولة ترتيب الصفوف في المنطقة الجنوبية قد يُشكل تهديداً مستقبلياً. وبشكل عام، يمكن ملاحظة نشاط متزايد لتلك الخلايا جنوباً، خاصة مع تنفيذ عملية إرهابية بعد أربعة أيام تقريباً من بدء العمليات العسكرية، إذ أعلن التنظيم استهداف مقرٍّ لقوات الجيش الوطني في منطقة سبها جنوباً.

3- استمرار تهديد المليشيات المسلحة: وبخلاف التهديدات المتعلقة بخلايا “داعش”، فإن ثمة تهديدات تتعلق بالمليشيات المسلحة المتمركزة جنوباً، وهنا فإن الحديث يتصل بمليشيات يُطلق عليها مليشيا “116”. ووفقاً لتأكيدات تقارير إعلامية، فإن هذه المليشيا تسعى لزعزعة الاستقرار في المنطقة الجنوبية، على الرغم من التأكيدات الرسمية بتسليم عناصر المليشيا أسلحتها الشهر الماضي، بما دفع الجيش الوطني الليبي إلى إطلاق العملية العسكرية، خاصة وأن الاستعداد للعملية الأخيرة بدأ منذ الشهر الماضي، مع زيارة اللواء خالد المحجوب مدير الشؤون المعنوية في الجيش الوطني الليبي، إلى سبها، وعقده اجتماعاً مع الغرفة الأمنية بشأن وضع خطة أمنية شاملة لمواجهة التشكيلات المسلحة في الجنوب الليبي.

4- قيام الجيش الليبي بعمليات مستمرة لملاحقة داعش: العملية العسكرية ليست الأولى من نوعها للجيش الوطني الليبي في المنطقة الجنوبية، خاصة لملاحقة العناصر الإرهابية، إذ يعلن الجيش الوطني تنفيذ عمليات بين حين وآخر، وفقاً للحالة الأمنية، وكان آخرها العمليات التي تم الإعلان عنها في يوليو الماضي، والتي جاءت عقب عمليات لتنظيم “داعش” لاستهداف قوات الجيش الوطني في سبها، وقال حينها الناطق الرسمي باسم الجيش الليبي اللواء أحمد المسماري، إن وحدات القوات المسلحة اعتقلت إرهابياً يُدعى آدم إبراهيم أحمد (سوداني الجنسية)، فيما تمكن عدد من الإرهابيين الفرار باتجاه الحدود التشادية.

طبيعة التهديدات

بعد تراجع تنظيم “داعش” خلال عام 2016 بطرد عناصره من سرت، اتجهت بقايا التنظيم إلى الجنوب الليبي، وبات يعتمد على الخلايا بالنظر إلى عدم القدرة على مواصلة العمل بنفس النهج السابق، من ناحية السيطرة على الأرض، ومع ذلك حافظ التنظيم على تواجد محدود في عمق الصحراء في الجنوب الليبي، ولكن لا يشكل تهديداً بالغاً، وفقاً لتقييم المبعوث الأمريكي الخاص للتحالف الدولي لمواجهة “داعش”، جون غودفري، في يوليو 2021، ولكن يمكن تحديد طبيعة نشاط التنظيم، من خلال تتبع عملياته، التي أعلنت عنها وكالة “أعماق” الموالية للتنظيم، عبر تطبيق “تليجرام”، كالتالي:

الشهر/ تصنيف العملياتاستهداف الجيش الوطنيعمليات أخرى
يونيو20
يوليو00
أغسطس10
سبتمبر10
أكتوبر00
نوفمبر00
ديسمبر00
19 يناير10

بمقارنة العمليات في الجدول السابق، يتضح أن التنظيم يركز على استهداف قوات الجيش الوطني الليبي بشكل خاص، مما أثار حالة من التخوف من “داعش”، ليس بسبب تزايد عدد عملياته بشكل عام، فالتنظيم نفذ خمس عمليات فقط خلال ما يقرب من ثمانية أشهر، ولكن تتصل التخوفات بمحاولات التنظيم ترتيب صفوفه في جنوب ليبيا، خاصة وأن عمليات خلايا التنظيم شهدت تراجعاً ملحوظاً في العمليات خلال عام 2020 بواقع عمليتين فقط، خلال مايو ويونيو من العام نفسه، وانقطعت العمليات لمدة عام تقريباً منذ يونيو 2020 حتى الظهور مجدداً في يونيو 2021.

وحرصت خلايا “داعش” في جنوب ليبيا، خلال الأشهر التي لم تشهد عمليات خلال العام الماضي، على محاولة التواجد على المستوى الدعائي، من خلال نشر بعض الصور تحت عنوان “يوميات جنود الخلافة” أكثر من مرة، ولكن الصور التي يمكن الوقوف أمامها بقلق تلك التي نشرها التنظيم في أكتوبر الماضي، التي جاءت تحت عنوان “تخريج دفعة جديدة من جنود الخلافة الملتحقين بالدورة العسكرية في ليبيا”، ومع ذلك لم تظهر انعكاسات لتخريج دفعة جديدة من المقاتلين، من ناحية تزايد معدل العمليات؛ ولكن قد يُشكل هذا تهديداً من ناحية قدرة التنظيم على التجنيد بغض النظر عن العدد، في ظل محاولات ترتيب الصفوف مرة أخرى، مع الأخذ في الاعتبار أن عناصر من فرع التنظيم في ليبيا انتقل إلى نيجيريا، للانضمام إلى ما يُسمى “ولاية غرب إفريقيا”، وفقاً لتقديرات غربية.

وبالنظر إلى طبيعة العمليات التي نفذها التنظيم خلال ما يقرب من ثمانية أشهر، فإنها لا تتسم بالتعقيد، إذ إن أغلبها هجمات بعبوات ناسفة، وعمليتين فقط بسيارات مفخخة، وفقاً لما أعلنته “وكالة أعماق”، وهنا يتضح أن التنظيم لا يدفع باتجاه مواجهات مباشرة مع قوات الجيش الوطني الليبي، منعاً لوقوع خسائر كبيرة في صفوفه، كما أن العمليات باستخدام السيارات المفخخة لا تعكس التجهيزات الكبيرة بالنظر إلى عدد الخسائر، ولكن من دون إغفال احتفاظ خلايا التنظيم ببعض القدرات في تجهيز السيارات المفخخة، وهي أصعب من تجهيز العبوات الناسفة.

وبشكل عام، تبرز تخوفات تتعلق بإمكانية استغلال تنظيم “داعش” ليبيا لتجهيز عناصره، عبر إنشاء معسكرات تدريب بغض النظر عن حجمها، وإمداد فروعه بالمقاتلين، بالنظر إلى عدم وجود مواجهات مستمرة في الجنوب الليبي، مقارنة بأفرع التنظيم الأخرى في غرب إفريقيا التي تخوض مواجهات يومية مع جيوش تلك الدول، كما يمكن أن يعزز هذه التخوفات مساعي تنظيم “داعش” للتمدد بمنطقة بحيرة تشاد.

أربعة دوافع

يمكن تحديد بعض الدوافع من العملية العسكرية الأخيرة التي تنعكس على مواجهة تنظيم “داعش”، في ظل تشابكات المشهد المعقد في الجنوب الليبي، كالتالي:

1- محاولات مستمرة لتحجيم “داعش”: بمراجعة بعض العمليات العسكرية التي نفذها الجيش الوطني الليبي في الجنوب، والتي كان أبرزها التي بدأت في يوليو الماضي، عقب تنفيذ “داعش” عمليتين في يونيو الماضي؛ فإن العملية الجديدة تعكس أن ثمة محاولات تحجيم مستمرّة لـ”داعش” في الجنوب، إذ تأتي في إطار الضربات الاستباقية، وهو ما مثل أزمة للتنظيم، واستجاب لهذه العملية العسكرية بعمل إرهابي في 18 يناير، أي بعد توقف للعمليات بما يزيد على ثلاثة أشهر.

2- فرض الأمن في الجنوب: تنشط التنظيمات الإرهابية في ظل أجواء هشة أمنياً، إذ تستغل حالة الفوضى أو الاضطرابات لمحاولة الانتشار عبر قدر من حرية الحركة نسبياً، وبالتالي فإن العملية العسكرية التي تتعدد أهدافها بمواجهة المليشيات المسلحة، تصب -في النهاية- في صالح إنهاء المناخ الذي يُمكن أن يُشكل عاملاً مغذياً لنشاط “داعش”. وفي هذا الإطار، اتجهت قوات الجيش الوطني إلى تجميع الأسلحة من الليبيين في الجنوب وتحديداً في سبها.

3- تفكيك العلاقة بين الإرهاب وعصابات الجريمة المنظمة: تمثل العلاقات بين الجماعات الإرهابية وعناصر الجريمة المنظمة العابرة للحدود، خطراً يهدد أمن واستقرار الدول، في ظل تقارب المصالح فيما بينهما؛ إذ إن استمرار مناخ الاضطراب وضعف الحالة الأمنية يمثل فرصة للتعاون لتحقيق المصالح. وهنا فإن مواجهة الجيش الوطني الليبي لعصابات التهريب في المخدرات أو البشر على الحدود بين الدول الثلاث (السودان، وتشاد، مع ليبيا) يقطع الطريق أمام أحد الروافد الهامة لتغذية العناصر الإرهابية من خلال إمكانية توفير تلك العصابات الأسلحة والدعم اللوجستي لهذه العناصر، إذ كشف اللواء خالد المحجوب مدير الشؤون المعنوية في الجيش الوطني، في ديسمبر الماضي، عن اكتشاف تجار أسلحة في الجنوب بعد انفجار أحد المنازل التي تبين أنها محزن، وهو ما يتضح من خلال إغلاق قوات الجيش الوطني المعابر الحدودية مع السودان وتشاد.

4- استدراك انعكاسات الاضطرابات السياسية: قد يُمثّل الاهتمام المتزايد من قبل الجيش الوطني الليبي بفرض الأمن في الجنوب، بمحاولة استدراك الانعكاسات السياسية على الحالة الأمنية، في ظل المواجهات بين الجيش الوطني الليبي وعناصر موالية للحكومة في غرب ليبيا، بما أعطى مساحة من حرية الحركة للمليشيات والعصابات والعناصر الإرهابية للانتشار في الجنوب.

وأخيراً، فإن العملية العسكرية يمكن أن تفرض الأمن في جنوب ليبيا، ومواجهة عصابات الجريمة المنظمة والمليشيات، بما ينعكس على تحجيم عناصر “داعش”، ولكنّ هذا مرهون بفرض حالة من الأمن والاستقرار المستمرة، عبر زيادة عدد القوات بجنوب ليبيا لمواجهة التحديات الأمنية.