المسار الأمريكي:
هل يتراجع الانخراط الأوروبي في قضايا الشرق الأوسط؟

المسار الأمريكي:

هل يتراجع الانخراط الأوروبي في قضايا الشرق الأوسط؟



رغم سعى الدول الأوروبية خلال العقود الأخيرة إلى تطوير سياسات أكثر انخراطاً في قضايا الشرق الأوسط، في إطار ثنائية المصالح والتهديدات التي تربط أوروبا بالمنطقة، فقد أثير في الآونة الأخيرة تساؤل رئيسي حول مستقبل السياسة الأوروبية في المنطقة، ومدى احتمالية حدوث انسحاب أوروبي منها على غرار الانسحاب الأمريكي، وذلك في ضوء التطورات التي طرأت على مستوى بعض الدول الأوروبية، على غرار ألمانيا مع انتهاء عهد انجيلا ميركل، وكذلك قرب الاستحقاق الرئاسي الفرنسي (إبريل 2022)، بالتوازي مع التغير الجاري في مسارات التنافس بين القوى الدولية، وإمكانية التحول بعيداً عن الانخراط في المنطقة، وخاصة بعد الإعلان مؤخراً عن تأسيس تحالف “أوكوس” بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا واستراليا الذي يستهدف بصورة رئيسية مواجهة التهديد الصيني، فضلاً عن تصاعد التهديد الروسي لنفوذ بعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا، في أفريقيا جنوب الصحراء.

محددات رئيسية

تشكلت ملامح السياسة الأوروبية تجاه منطقة الشرق الأوسط في السنوات الماضية عبر أربعة محددات رئيسية تتمثل في:

1- المصالح الاقتصادية: وهى مُحرِّك هام للسياسة الأوروبية تجاه المنطقة، حيث يعد الاتحاد الأوروبي شريكاً تجارياً هاماً لدول المنطقة، كما تفرض إمدادات الطاقة من المنطقة مزيداً من الأهمية الاقتصادية لها بالنسبة للسياسة الخارجية الأوروبية. فضلاً عن ذلك، فإن الصراعات والأزمات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة وفرت فرصاً اقتصادية جديدة للدول الأوروبية. وتظهر هذه الأهمية الاقتصادية في السياسة الخارجية للدول الأوروبية الرئيسية على غرار ألمانيا وفرنسا، حيث تشكل المنطقة سوقاً هامة لاستيراد الأسلحة الألمانية والفرنسية، فعلى سبيل المثال، أعلنت وزارة الاقتصاد الألمانية، في 3 يناير الماضي، موافقة برلين خلال عام 2020 على تصدير أسلحة بقيمة 1.16 مليار يورو إلى دول في الشرق الأوسط. كما يمثل نفط المنطقة محدداً هاماً في سياسة الدولتين إزاء قضاياها. ويلاحظ أيضاً أن كلاً من فرنسا وألمانيا لديهما رغبة في الاستفادة من الفرص الاقتصادية المتاحة في بعض دول المنطقة سواء عبر المشاركة في مشاريع إعادة الإعمار، أو حتى من خلال الحصول على بعض التعاقدات في القطاعات الاستراتيجية.

2- التهديدات المتعددة: على مدار السنوات الماضية، تزايدت قناعة الدول الأوروبية بأن منطقة الشرق الأوسط مصدر لتهديدات متعددة بالنسبة لها. فقد شكّلت التنظيمات الإرهابية الناشئة في المنطقة تهديداً ممتداً لهذه الدول، ولاسيما مع مساعي هذه التنظيمات لنقل نشاطها الإرهابي داخل الأخيرة عبر العديد من العمليات الإرهابية المؤثرة، بالإضافة إلى عمليات تجنيد أتباع لها على أراضيها.

وكانت الهجرة غير الشرعية الناجمة عن صراعات المنطقة مصدراً كبيراً للتهديدات بالنسبة للدول الأوروبية. كما فرضت السياسة الإيرانية في المنطقة، وكذلك تطورات البرنامج النووي، تهديدات لأمن ومصالح الدول الأوروبية، فضلاً عن أن الهجمات البحرية الإيرانية على السفن خلال السنوات الماضية عززت من اقتناع الدول الأوروبية بضرورة التدخل في أزمات المنطقة.

3- التنافس على النفوذ: كانت السياسة الأوروبية في المنطقة مدفوعة، في جانب منها، بالتنافس على النفوذ مع دول أخرى. إذ لم تشعر الدول الأوروبية بارتياح كبير لتنامي النفوذ الروسي في المنطقة خلال السنوات الماضية، لاسيما أن هذا النفوذ يمكن أن يكون له تأثير مباشر على المصالح الأوروبية. فعلى سبيل المثال، بدا أن التواجد الروسي في ليبيا يهدد بشكل مباشر مصالح الدول الأوروبية في هذا البلد الاستراتيجي لأوروبا نظراً لإطلالته الساحلية المباشرة على أوروبا. كما حفّزت السياسة التركية في المنطقة الدول الأوروبية على الاهتمام المتزايد بقضاياها، ولعل النموذج الأبرز على ذلك، السياسة الفرنسية، حيث يتصل الحضور الفرنسي بالمنطقة، في جانب كبير منه، بمحاولة تطويق النفوذ التركي في خضم تصاعد حدة التوتر في العلاقات الفرنسية- التركية.

4- رؤية القادة الأوروبيين: تأسست السياسة الأوروبية تجاه منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة على رؤية القادة الأوروبيين المؤثرين في صنع السياسة الخارجية الأوروبية. فعلى سبيل المثال، تعاطت المستشارة الألمانية، التي تستعد للرحيل عن منصبها، انجيلا ميركل، مع الشرق الأوسط كمنطقة هامة لإكساب السياسة الأوروبية الزخم على الساحة العالمية، ولذا صاغت ميركل سياسة خارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط تقوم على الانخراط المتزايد في قضاياها.

وفي سياق متصل، قدم الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون هو الآخر رؤية مُحفِّزة لتزايد الدور الأوروبي في المنطقة، ولعل هذا ما كشف عنه ماكرون في تصريحات أدلى بها لصحيفة “لوموند” الفرنسية، خلال حملته الانتخابية، في إبريل 2017، حينما قال إنه “يسعى إلى إقامة شراكة بين فرنسا وأوروبا ومنطقة البحر المتوسط وأفريقيا لتحقيق المصالح المشتركة في مجال المناخ والتجارة والعمالة، وكذلك الأمن والاستقرار”.

سيناريوهان محتملان

تقدم المحددات الأربعة السابقة مدخلاً هاماً لاستقراء مستقبل الدور الأوروبي في المنطقة. ففي ضوء التفاعل بين هذه المحددات يمكن تحديد مساحة الانخراط الأوروبي في شئون المنطقة. وبوجه عام، يمكن الإشارة هنا إلى سيناريوهين محتملين:

السيناريو الأول، يتمثل في استمرار الانخراط الأوروبي في المنطقة، وذلك في ضوء عدد من الاعتبارات الرئيسية وهى:

1- التداعيات الاقتصادية الإيجابية: لا تزال المصالح الاقتصادية للدول الأوروبية مع المنطقة قائمة، وليس من المرجح أن تتراجع على المدى القريب، لاسيما فيما يتعلق بإمدادات الطاقة وصادرات الأسلحة والمشاركة في عمليات إعادة الإعمار في بعض دول الأزمات.

2- استمرار مصادر التهديد: لم تتراجع التهديدات القادمة من المنطقة بصورة كاملة، فقضية المهاجرين تظل واحدة من القضايا المُؤرِقة بالنسبة للدول الأوروبية، كما أن التهديدات الإرهابية مستمرة، إذ تشير عدة تقارير إلى أن تنظيم “داعش” المركزي في سوريا يعمل على استعادة نشاطه انطلاقاً من المناطق الصحراوية.

3- تأثير القادة الأوروبيين: ما زالت الرؤية التي كرّس لها بعض القادة الأوروبيين بشأن السياسة الأوروبية في الشرق الأوسط قائمة، حتى بعد رحيلهم عن الحكم، ولعل هذا ما يفسر مغزى الزيارات التي قامت بها المستشارة الألمانية المنتهية ولايتها انجيلا ميركل في الأيام الماضية لبعض دول المنطقة، فهذه الزيارات تستبطن محاولة من ميركل لوضع ملامح السياسة الخارجية الألمانية للمستشار الجديد. فقد قامت، في 10 أكتوبر الجاري، بزيارة إسرائيل، وتعرضت أثناء الزيارة لعدد من القضايا على غرار القضية الفلسطينية، حيث أكدت على أهمية حل الدولتين، وفيما يخص الملف النووي الإيراني أشارت إلى أنها “لم تعتبر الاتفاقية النووية الإيرانية لعام 2015 مثالية”، لكنها “أفضل من عدم وجود اتفاق”. وذكرت أن “الوضع الحالي صعب مع استمرار إيران في تخصيب اليورانيوم وإنه سيكون من الأهمية بمكان مواصلة المناقشات خلال الأسابيع المقبلة”.

وبعد هذه الزيارة بأيام، وتحديداً في 16 من الشهر نفسه، قامت ميركل بزيارة تركيا والتقت بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهناك دعت إلى استمرار الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وأنقرة بشأن ضبط الهجرة إلى أوروبا، وأكدت على ضرورة مواصلة الاتحاد الأوروبي دعمه تركيا في مكافحة الهجرة غير الشرعية.

السيناريو الثاني، ويتعلق بإمكانية حدوث انسحاب أوروبي من المنطقة شبيه بالانسحاب الأمريكي الجاري. ورغم أن هناك العديد من التعقيدات التي تكتنف مثل هذا السيناريو، إلا أن تحققه وارد وذلك في ضوء بعض المتغيرات التي يمكن تناولها على النحو التالي:

1- الانشغال بالتطورات والقضايا الداخلية: تشهد بعض الدول الأوروبية استحقاقات سياسية ربما تؤدي، ولو لفترة محدودة، إلى الانشغال بالداخل، وبالتالي تقليل الاهتمام بالأوضاع في الشرق الأوسط. يتجلى هذا الأمر في الحالة الألمانية بعد الانتخابات التشريعية التي جرت في 26 سبتمبر الفائت، والتعقيدات التي تشهدها عملية تشكيل الحكومة الجديدة واختيار المستشار الجديد. كما أن هناك انتخابات رئاسية في فرنسا ستجرى العام القادم، ويحتمل أن يكون لها تأثير على السياسة الفرنسية في المنطقة.

2- صعوبة ملء الفراغ الاستراتيجي الأمريكي: صحيح أن السياسة الأوروبية تجاه المنطقة حاولت خلال السنوات الماضية إظهار تمايزها عن السياسة الأمريكية، والتعبير عن مسار مستقل في التفاعل مع قضايا الشرق الأوسط وفي مقدمتها الملف النووي الإيراني، ولكن مع ذلك، تظل هناك شكوك حول مدى إمكانية قيام الدول الأوروبية بدور البديل الذي يملء الفراغ بعد الانسحاب الأمريكي من المنطقة، وذلك لاعتبارات عديدة ربما أهمها أن الدول الأوروبية ليست لديها القدرات نفسها، على المستويات المختلفة، التي تحظى بها واشنطن. كما توجد خلافات بين الدول الأوروبية حول العلاقات مع واشنطن، أو ما يطلق عليه بيير موركوس الانقسامات الأوروبية حول مفهوم “الاستقلالية الاستراتيجية”، ففيما يرى بعض المسئولين الألمان أن الأوروبيين لن يكونوا قادرين على استبدال الدور الحاسم للولايات المتحدة الأمريكية كـ”مُزوِّد للأمن”، اختلف مسئولون أوروبيون آخرون، وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي ماكرون، مع هذا الطرح، وجادلوا بأن الولايات المتحدة الأمريكية لن “تحترم الأوروبيين إلا إذا كانوا يتمتعون بالسيادة والاستقلال الاستراتيجي في سياساتهم بعيداً عن الخيارات الأمريكية”.

فضلاً عن ذلك، فإن الطبيعة المعقدة للأزمات في المنطقة قد تعطي انطباعاً سلبياً عن الدور الأوروبي، على غرار السياسة الفرنسية في لبنان، فرغم المبادرة التي طرحتها فرنسا عقب انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، والضغوط التي فرضتها باريس على القوى السياسية اللبنانية لتشكيل الحكومة، إلا أن هذه الخطوة أنجزت بعد مرور أكثر من عام على الفراغ الحكومي.

3- مستوى القبول بالدور الأوروبي: وهو أمر هام لضمان استمرارية الدور الأوروبي في المنطقة. وفي هذا السياق، يبدو أن الدور الأوروبي في المنطقة في اللحظة الراهنة يواجه بعض التأزم، وخاصة في ظل التوترات القائمة بين فرنسا وبعض دول المنطقة، وكان آخرها الجزائر التي قامت باستدعاء سفيرها من فرنسا للتشاور في 2 أكتوبر الجاري، واتهمت باريس بالتدخل في شئونها، علاوة على إغلاق المجال الجوي الجزائري أمام الطائرات العسكرية الفرنسية، ما يعني إعاقة الأخيرة عن الوصول إلى مالي حيث تقوم قواتها بمهام ضمن “مكافحة الإرهاب”. ومثل هذه الأزمات، في حال عدم تداركها، يحتمل أن يكون لها تأثير سلبي على الدور الأوروبي في المنطقة وتدفعه في نهاية المطاف إلى التراجع.

4- انتقال التنافس إلى مناطق أخرى: ظهرت مؤشرات عديدة تكشف عن وقوع تغيرات في مسارات التنافس بين القوى الدولية، وإمكانية التحول بعيداً عن التنافس حول النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً بعد الإعلان، في 16 سبتمبر الفائت، عن تأسيس تحالف “أوكوس” بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا واستراليا الذي يستهدف بصورة رئيسية مواجهة التهديد الصيني، وهو الأمر الذي قد يدفع الدول الأوروبية بدورها إلى التفكير عن خياراتها الاستراتيجية في الفضاء الآسيوي، وكيفية التعاطي مع الصين. صحيح أن هناك علاقات اقتصادية جيدة بين الصين والدول الأوروبية، إلا أن هذا لا ينفي النظرة الأوروبية للصين كمنافس استراتيجي لها.

وفي سياق ذي صلة، فإن هناك تخوفات فرنسية من فقدان بعض مناطق نفوذها التقليدي في أفريقيا لصالح روسيا، وخاصة بعد ما كشفت تقارير عديدة عن اتجاه مالي إلى إجراء مباحثات مع شركة “فاجنر” الروسية من أجل نشر عناصر من قواتها في مالي بهدف حماية كبار الشخصيات السياسية وتدريب قوات الأمن. وفي هذا الإطار، يمكن أن تقلل فرنسا من اهتمامها بقضايا الشرق الأوسط في مقابل الحفاظ على نفوذها في أفريقيا التي تعد بمثابة المجال الحيوي التاريخي لباريس.
5- التغير في أنماط العلاقات الإقليمية: شهدت الشهور الأخيرة ملامح واضحة للتغير في اتجاهات العلاقات الإقليمية بالشرق الأوسط، فبعد سنوات من السياسات العدائية التركية في المنطقة، سعت أنقرة إلى التهدئة مع دول رئيسية فيها، والعمل على صياغة علاقات إيجابية معها، كما توجه إيران رسائل في السياق نفسه. وترى اتجاهات عديدة أنه لا يمكن إغفال أن هذه المتغيرات قد تنعكس بشكل ما على الدور الأوروبي في المنطقة، فهى على أقل تقدير قد تقلل من زخم العوامل التي كرّست للدور الأوروبي في المنطقة خلال السنوات الماضية.

خلاصة القول، ربما يكون من الصعب القول بأن الدول الأوروبية ستنسحب سريعاً من الشرق الأوسط، وذلك في ضوء المصالح والتهديدات الحاكمة للرؤية الأوروبية للمنطقة، ولكن مع ذلك سيظل سيناريو الانسحاب قائماً ومحتمل حدوثه على المدى البعيد.