مناورة إخوانية:
هل يتخلى “راشد الغنوشي” عن رئاسة حركة النهضة التونسية؟

مناورة إخوانية:

هل يتخلى “راشد الغنوشي” عن رئاسة حركة النهضة التونسية؟



أعلن رئيس حركة النهضة “راشد الغنوشي” في حوار له مع قناة “الجزيرة القطرية”، مساء 6 أكتوبر 2022، أنه عازم على التخلي عن رئاسة الحركة خلال المؤتمر العام القادم الذي سيتم خلاله تقييم عمل القيادة منذ 2016 وحتى الآن، ورسم السياسات المستقبلية للحزب الإخواني، ثم الانتقال للمرحلة الثالثة من المؤتمر الخاصة بانتخاب القيادة التي ستقود الحركة خلال الفترة المقبلة، قائلاً: “وفق القانون الموجود الآن فقد استوفى رئيس الحركة دوراته، وبالتالي هو مرشح للتغيير”. مضيفاً: “من حق المؤتمر أن يراجع قانون الحزب، والمؤتمر هو سيد نفسه، ولكني عازم على أن أُخلي المكان لأحد الإخوان أو الأخوات”.

وتجدر الإشارة إلى أن المؤتمر العام يُعد أعلى سلطة في حركة النهضة، فهو المسؤول عن تنصيب أو عزل رئيس الحركة، ويتم عقده مرة كل أربع سنوات، ومن المفترض عقد المؤتمر الـ12 للحركة في الربيع القادم، وفقاً لما أعلنه القيادي في حركة النهضة “علي العريض” منتصف سبتمبر الماضي. وبناء على القانون الداخلي للحركة الإخوانية التونسية، فإن رئيسها يتولى منصبه لدورتين فقط، إلا أن “الغنوشي” ترأس الحركة عام 1991 وكان من المفترض أن تنتهي ولايته في عام 2020، إلا أن هذا لم يحدث وتم التجديد له.

وفي ظل هذه التطورات، يمكن القول إن إعلان “الغنوشي” في هذا التوقيت عزمه التخلي عن رئاسة النهضة التونسية في ظل حركة التغييرات التي يقوم بها الرئيس “قيس سعيد”، يرجع إلى جملة من الأسباب، على النحو التالي:

ضغط شعبي

1- حشد الدعم الداخلي للنهضة من جديد: كشفت القرارات الأخيرة للرئاسة التونسية أن الإخوان هم السبب فيما آلت إليها أوضاع البلاد خلال حكم “العشرية السوداء”، وهو ما أيقنه الشعب التونسي، الذي أعلن رفضه استمرار وجود هذه الجماعة في مؤسسات صنع القرار. ولهذا فإن إعلان “الغنوشي” التخلي عن رئاسة الحركة، قد يكون محاولة منه لإعادة حشد الدعم الشعبي للإخوان من جديد، لإدراكه جيداً أن الضغط الشعبي يمكنه إرباك المشهد السياسي ومن ثم تراجع “سعيد” عن الإصلاحات التي يقوم بها وعودة الإخوان للساحة مجدداً، وهو ما يفسر سبب تزامن إعلان “الغنوشي” مع حركة الاحتجاجات التي دعت لها “جبهة الخلاص الوطني” (تضم عدداً من الحركات المعارضة أكبرها النهضة) في 15 أكتوبر الجاري، رداً على إصرار رئيس البلاد على إجراء الانتخابات التشريعية في موعدها، والتي تقول قوى المعارضة -وعلى رأسها النهضة- إن الهدف منها هو إقصاء جميع الأحزاب المعارضة للنظام من المشهد السياسي، خاصة أن البرلمان الذي تم حله في مارس الماضي كان يسيطر عليه الإخوان ويترأسه “الغنوشي”.

وعليه، فإن “الغنوشي” بعد إعلان اعتزامه التخلي عن رئاسة النهضة، خرج في 9 أكتوبر الجاري ليدعو المواطنين إلى ضرورة الوقوف بجانب الحركة الإخوانية وقوى المعارضة بالمشاركة وتنظيم احتجاجات عارمة، قائلاً: “ندعو إلى توحيد الجهود الرامية للتصدي للانقلاب الغاشم، وتصعيد الاحتجاجات السلمية ضد السلطة التي أفسدت الحياة السياسية، وحولت الأزمة الاقتصادية إلى كارثة تهدد قوت الناس ومعاشهم، والعمل من أجل استعادة المسار الديمقراطي، والحفاظ على مكاسب الثورة في الحرية والديمقراطية والكرامة الوطنية”.

تخفيف الضغط

2- استمرار الملاحقات القانونية لزعيم الإخوان: يظن “الغنوشي” أنه حينما يبتعد عن رئاسة النهضة أنه بذلك يخفف الضغط القانوني عليه، خاصة أنه منذ بدء الرئيس التونسي إجراءات التصحيح، والملاحقات القانونية تطال قيادات الإخوان وزعيمهم الذي يخضع لتحقيقات في قضايا متعلقة بالإرهاب والفساد المالي والاغتيالات السياسية والتخابر ضد أمن الدولة وغيرها. ورغم أنه حصل على حكم البراءة في عدد من هذه القضايا، إلا أنه لا يزال مهدداً بالسجن في القضية المعروفة إعلامياً باسم “قضية تسفير إرهابيين” الخاصة بتسفير الشباب التونسي إلى بؤر الإرهاب والتوتر.

ويزعم “الغنوشي” أن ما يتعرض له في الوقت الراهن هو ضغط من السلطة لإزاحة الإخوان عن المشهد السياسي تحت ذرائع قضائية وأمنية، خاصة بعد صدور معلومات تفيد بأن “قيس سعيد” لا يزال غير راضٍ عن الأحكام التي يصدرها القضاء بحق قيادات الإخوان، وأن بعض المؤسسات القضائية يتحكم فيها عناصر إخوانية، مما دفع بعض المراقبين للقول إن الرئيس التونسي عازم خلال الفترة المقبلة على تطهير مؤسسات القضاء كافة، وهذا في حال وقوعه قد “يضيق الخناق” أكثر على “الغنوشي” وحركته، وهو ما قد يفسر سبب تلويح الحزب بـ”ورقة الفوضى” في محاولة لفرض الأمر الواقع في الشارع التونسي ونشر الخوف.

صراع خفي

3- حدوث انقسامات داخل صفوف الحركة الإخوانية: قد يكون السبب في إعلان “الغنوشي” هو اشتداد حدة الرفض الداخلي لشخصه، وهذا ناجم عن فشله في إدارة الأزمة السياسية بتونس خلال السنوات الماضية، بل وجعل بعض قادة النهضة يتخوفون من أن يتم استبعادهم من الساحة السياسية نهائياً، وأن يلقوا مصير الإخوان في مصر والسودان، حينما تفشل كل محاولاتهم للتحاور مع النظام، خاصة أن هذه الانقسامات سبق وجعلت “الغنوشي” في منتصف أغسطس 2021 يتخذ قراراً بإعفاء جميع أعضاء اللجنة التنفيذية بحزب النهضة من مهامهم، لأنهم انتقدوا سياساته واتهموه بالفشل السياسي وطالبوه بالتخلي عن قيادة الحركة، خاصة أنه في وقتها كشف معارضو الحركة عن مساعي “الغنوشي” لتغيير القانون الأساسي للحزب الإخواني الخاص بالرئاسة بحيث يسمح له “برئاسة الحركة مدى الحياة” حتى يتمكن من الترشح لانتخابات الرئاسة لعام 2024، وهو ما دفعه وقتها لتأجيل الإعداد للمؤتمر الـ11 حتى يتم الانتهاء من تغيير القانون الأساسي للحزب.

ولذلك قد يكون إعلان “الغنوشي” مجرد “حيلة سياسية” الهدف منها إقصاء جميع الرافضين لنهجه، واستمالة أكبر عدد من المؤيدين له للقول إنه على رأس الوضع في النهضة، خاصة أنه بالفعل يحظى بالغلبة داخل هذه الحركة، وهناك أنصار يرغبون في بقائه بمنصبه مدى الحياة، لأمرين: أولهما، لامتلاكه النفوذ المالي، أما الأمر الثاني، فهو الدعم الخارجي الذي يحظى به من قبل بعض المؤيدين لحركته، مثل تركيا وقطر والتنظيم الدولي للإخوان.

انتقادات الحلفاء

4- تراجع مواقف القوى الإقليمية الداعمة لإخوان تونس: قد يكون السبب في خطوة “الغنوشي” هو انخفاض الدعم الذي كان يحظى به هو وحركته خلال السنوات الماضية من بعض القوى الإقليمية، خاصة تركيا وقطر. فالأولى كانت داعماً إقليمياً رئيسياً للنهضة، وسبق وانتقدت على لسان رئيسها “رجب طيب أردوغان” قرار “حل البرلمان التونسي”، ووصف تلك الخطوة بأنها “تشويه للديمقراطية” مما دفع نظيره التونسي للرد عليه وقتها قائلاً: “نحن أيضاً لنا سيادتنا واختياراتنا بناء على الإرادة الشعبية، نحن لسنا إيالة (ولاية عثمانية) ولا ننتظر فرماناً من جهة معينة”، وهو ما دفع أنقرة مؤخراً إلى التعامل مع ما يحدث في تونس بأنه “أمر واقع”، بل وأفادت بشكل غير مباشر بأن “النهضة الإخوانية” سبب رئيسي في الأوضاع التي تشهدها تونس، فضلاً عن أن الاستدارة الإقليمية في السياسة الخارجية لتركيا مؤخراً مع دول المنطقة هي ما دفعتها للتراجع عن دعم قيادات الإخوان في هذه الدول.

أما قطر فكانت أيضاً الداعم الأبرز لـ”الغنوشي”، إذ سبق وقام الأمير “تميم بن حمد” (في فبراير 2020) بزيارة تونس من أجل مطالبة “قيس سعيد” بإصلاحات العلاقات مع النهضة على خلفية رفضها تعيين رئيس وزراء لا تريده، فضلاً عن أنه في مايو 2020 تم الكشف عن مساعي زعيم النهضة (حينما كان رئيساً للبرلمان) لتمرير اتفاقية وقّعها مع الدوحة خاصة بإنشاء مقر لـ”صندوق قطر للتنمية” في تونس، لتنفيذ أجندته المشبوهة؛ إلا أنه خلال الأشهر الأخيرة شنّت وسائل الإعلام القطرية حملة انتقادات لأداء إخوان تونس وفشل سياسات رئيسها. وفي أغسطس 2021، انتقدت قطر على لسان “عزمي بشارة” المقرب من دوائر الحكم في الدوحة أداء “الغنوشي”، واتهمه بالتغاضي عن الفساد من أجل السلطة.

تراجع دولي

5- فشل الرهان الإخواني على القوى العالمية والمنظمات الدولية للضغط على الرئيس “سعيد”: كان “الغنوشي” يعول على أن يسهم موقف بعض القوى العالمية والمنظمات الدولية التي سبق وانتقدت ما يحدث بتونس في الضغط على “قيس سعيد” للتراجع عن الإجراءات الاستثنائية التي يقوم بها وأن يعيد إشراك الإخوان في المشهد مجدداً؛ إلا أن تلك القوى اكتفت فقط بإظهار “موقف سطحي” رافض لعملية الاستفتاء على الدستور، ولم تقم حتى الآن بأي رد فعل ضد الرئيس التونسي، ومن بينها الاتحاد الأوروبي الذي طالب النظام الحاكم عقب الإعلان عن نتائج الاستفتاء بالتواصل مع جميع القوى السياسية استناداً لمبادئ دعم الديمقراطية والحفاظ على الحريات الأساسية، كما أن الولايات المتحدة كانت من الدول الرافضة للاستفتاء، إذ قال وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” عقب نتائج الاستفتاء إن تونس شهدت “تآكلاً مقلقاً للمعايير الديمقراطية”، إضافة إلى بعض المسؤولين الأمريكيين الذين انتقدوا الدستور، وهو ما دفع وقتها بالخارجية التونسية لاستدعاء القائمة بأعمال السفارة الأمريكية “ناتاشا فرانشيسكي”، للتنديد بالتصريحات التي وصفتها بـ”غير المقبولة” للمسؤولين الأمريكيين، واعتبرتها تدخلاً في شؤون البلاد.

تخفيف الضغوط

خلاصة القول، إن إعلان زعيم حركة النهضة “راشد الغنوشي” تخليه عن رئاسة الحزب الإخواني وترك المنصب لغيره، هو نوع من “المناورة” الهدف الرئيسي منها تخفيف الضغط السياسي الممارس عليه وعلى حزب النهضة من قبل السلطة التونسية الحاكمة، وهذا نهج متبع لدى قيادات النهضة، الذين لطالما اعتمدوا عليه للقيام بعملية “إعادة الهيكلة” للعودة إلى المشهد السياسي مرة أخرى، خاصة بعد تراجع الدعم المقدم لهم، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. وتجدر الإشارة إلى أنه إذا صدق “الغنوشي” هذه المرة وتخلى عن رئاسة النهضة، فهو سيظل الحاكم الفعلي للحركة، والقرارات التي ستصدر ستكون بـ”ضوء أخضر” منه، خاصة أن هذا الرجل اعتاد أن يكون في الواجهة وفي أعلى هرم السلطة.