معضلة إدلب:
هل يتحوّل التوتر الراهن إلى مواجهة بين أنقرة ودمشق؟ 

معضلة إدلب:

هل يتحوّل التوتر الراهن إلى مواجهة بين أنقرة ودمشق؟ 



يتواصل في التوقيت الحالي التصعيد العسكري بين تركيا والنظام السوري، وذلك على خلفية الهجمات الصاروخية والمدفعية المكثفة للجيش السوري والقوات الروسية على مدينتي إدلب وسرمين شمال غربي سوريا، باستخدام ذخائر محرمة دولياً، والذي كان أبرز ملامحه استهداف الجيش السوري المناطق الحيوية والمرافق العامة والخدمية في إدلب، ليفرض مزيداً من الرعب وعدم الاستقرار مقابل استهداف الجيش التركي المتمركز شمال غربي سوريا، منذ 7 يناير 2024 مواقع قوات النظام السوري بالمدفعية، في سراقب وخان السبل قرب طريق دمشق -حلب M5. وقد تسببت تلك المواجهات في تصاعد حدة الخلافات بين دمشق وأنقرة، الأمر الذي ينذر بتراجع جهود تطبيع العلاقات بين البلدين.

مؤشرات التصعيد

ثمة مؤشرات جاءت كاشفة عن التصعيد العسكري المستمر بين الطرفين، وذلك على النحو التالي:

1- الاستهداف السوري لجيوب المعارضة الموالية لتركيا: هاجمت قوات النظام السوري والمليشيات الموالية له قرية سرمين، شرقي محافظة إدلب، والتي وصلت للذروة منذ مطلع يناير الجاري. كما قصفت قوات النظام بصواريخ شديدة الانفجار محور قريتي السرمانية بريف حماة، والشيخ سنديان بريف إدلب، ناهيك عن إصابة عنصرين من فصيل “أنصار التوحيد” الموالي لتركيا.

بالتوازي، استهدف الجيش السوري برمايات نارية مركزة في الأيام الأخيرة مواقع لتنظيم جبهة النصرة بالتزامن مع شن سلاحي الجو السوري والروسي غارات على أوكار لتنظيم داعش الإرهابي في البادية الشرقية. ويشار إلى أن منظمة الخوذ البيضاء، قد أعلنت في بيان لها في 7 يناير الجاري، عن أن قوات الأسد كررت استخدام الأسلحة الحارقة المحرمة دولياً للمرة الثانية على التوالي بقصف مدينة إدلب، وأشار البيان إلى مقتل طفلة وإصابة 14 مدنياً بينهم حالات حرجة بفعل القصف المدفعي والصاروخي واستخدام النظام السوري ذخائر حارقة وأسلحة محرمة على مدينتي إدلب وسرمين.

2- التحذير الأممي من التصعيد في إدلب: حذرت الأمم المتحدة، في 3 يناير الجاري، من تأثير تصاعُد الهجمات العدائية في إدلب شمال غربي سوريا على المدنيين من قبل النظام السوري وحلفائه. كما أكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، أن القصف وأعمال العنف في إدلب حملت في طياتها ارتدادات سلبية على الأوضاع الإنسانية في المنطقة، وزاد من وطأة الأوضاع المعيشية. وأشار إلى أن العنف من المحتمل أن يعرض المهام التي يقوم بها موظفو الأمم المتحدة عَبْر الحدود للخطر.

3- التعزيزات العسكرية للقوات التركية في شمال سوريا: أرسل الجيش التركي، في 8 يناير الجاري، تعزيزات عسكرية إلى مواقع قواته في شرق إدلب، شملت عدداً من الآليات العسكرية ودبابات ووحدات مدفعية. كما كشفت تقارير محلية عن دخول أرتال عسكرية وقوافل شاحنات محملة بمنظومات راجمات صواريخ وعدد من الجنود، وذلك عبر معبر كفر لوسين إلى شمال إدلب.

4- الرد التركي على تحركات الجيش السوري: كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان، في 6 يناير، عن قيام عناصر الجيش التركي المتمركزة في منطقة خفض التصعيد في إدلب المعروفة باسم منطقة “بوتين-أردوغان” باستخدام الصواريخ لقصف مواقع قوات النظام في سراقب وخان السبل قرب طريق دمشق–حلب الدولي M5. وتجدر الإشارة إلى اتفاق تركيا وروسيا في 2018 على إقامة منطقة منزوعة السلاح في إدلب، والتي تعتبر آخر معقل للفصائل المسلحة المعارضة، بالإضافة إلى توافق بوتين-أردوغان في مارس 2020 على إنشاء ممر آمن طوله 6 كلم على الطريق الدولي M4، وإنشاء ممر مساعدات يشرف عليها الجانبان، على أن يتم تسيير دوريات مشتركة روسية-تركية.

5- التلويح التركي المستمر بعدم الانسحاب من شمال سوريا: قال وزير الدفاع التركي يشار غولر، في 13 أغسطس 2023، في معرض رده على تصريحات الرئيس السوري بشار الأسد بضرورة انسحاب القوات التركية من بلاده، إنه لا يمكن تصور أن تغادر القوات التركية سوريا دون ضمان أمن حدود البلاد وشعبها. وأضاف: “أعتقد أن الرئيس السوري سيتصرف بعقلانية أكثر في هذا الموضوع”. واشترط غولر، في مقابلة تلفزيونية، توقيع اتفاق سلام بين المعارضة والحكومة في دمشق، مع كتابة دستور جديد وإجراء انتخابات نزيهة، قبل سحب القوات التركية المنتشرة في شمال غربي سوريا.

واللافت في هذا السياق، أن وزير الدفاع التركي رد على تصريحات الأسد بشكل مباشر، كما أكد أن الجيش التركي سيواصل عملياته ليس فقط ضد قوات النظام السوري التي تستهدف الجماعات المحلية الموالية لتركيا في الداخل السوري، وإنما ملاحقة عناصر قوات سوريا الديمقراطية “قسد” باعتباره امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا إرهابياً. وهنا، يمكن فهم احتفاظ تركيا بوجود عسكري كثيف في كل من إدلب وريف حلب وريف الرقة وريف الحسكة، بواقع 127 موقعاً، لتحتل المرتبة الثانية في عدد القواعد والنقاط العسكرية الأجنبية في سوريا. 

مسارات محتملة

يشير توجه النظام السوري نحو إعادة عسكرة الأزمة في إدلب، وتفاعلات الأطراف المنخرطة في الأزمة السورية، بالإضافة إلى التطورات الميدانية في محافظة إدلب؛ إلى عدة مسارات محتملة، على النحو التالي:

أولها: احتمال تصاعد الصراع بين أنقرة ودمشق في منطقة إدلب خلال المرحلة المقبلة، خاصة مع عودة النظام السوري بدعم روسي إلى شن هجمات عنيفة بجانب استخدام أسلحة محرمة دولياً ضد خصوم النظام في إدلب. ويشير توجه نظام الأسد نحو التصعيد عبر اللجوء للخيار العسكري، ناهيك عن الإصرار على ضرورة مغادرة القوات التركية الأراضي السورية، ووصفها بــ”الاحتلال”؛ إلى عدم حرص دمشق وحلفائها على تمرير عملية التطبيع مع أنقرة في التوقيت الحالي. 

ويغذي هذا السيناريو توجه تركيا بدورها إلى التصعيد عبر تعزيز حضورها العسكري، حيث تم إرسال مزيد من العتاد العسكري قبل أيام إلى النقاط الأمنية التابعة لها في شمال سوريا، بما يزيد من احتمالات نشوب تصعيد متبادل من جانب الطرفين قد يصل إلى مرحلة الصدام المباشر. وفي مقابل ذلك، اتجهت موسكو بدورها إلى التصعيد عبر تعزيز تقدم الجيش السوري، وتبني مواقف متشددة تجاه أذرع تركيا العسكرية في الداخل السوري، ويمكن تفسير الموقف الروسي بمحاولة الضغط على تركيا لسحب قواتها من سوريا، ودفعها نحو تطبيع العلاقات مع دمشق. 

ويرتبط السيناريو الثاني، باحتمال توافق الطرفين على تبني سياسة الاحتواء، وضبط حدود المواجهات ومنع تطورها إلى صراع مباشر، خاصة في ظل تصاعد المواجهات الميدانية على الساحة الأوكرانية بين روسيا وكييف. وتعي دمشق أن موسكو لا تزال تُولي أهمية للأزمة الأوكرانية في التوقيت الحالي، خاصة مع انشغال القوى الغربية بالحرب على غزة. ومن جهتها، فإن أنقرة لا تريد توسيع مساحات الصراع مع دمشق وحليفتها روسيا في التوقيت الحالي، بسبب عدم حسم القضايا الخلافية بين تركيا وواشنطن، وإصرار الأخيرة على دعم قوات سوريا الديمقراطية “قسد” شمال سوريا، بالإضافة إلى اتساع مساحة التوتر بين أنقرة والقوى الغربية على خلفية الدعم المطلق الذي تقدمه واشنطن والدول الأوروبية لإسرائيل. كما يشار إلى أن دمشق برغم اشتراطها انسحاب القوات التركية من أراضيها للتطبيع، إلا أنها لا تريد استمرار القطيعة مع أنقرة، ولا سيما مع مساعي نظام الأسد للخروج من عزلته، وإعادة بناء شبكة تحالفاته الإقليمية.

أما السيناريو الثالث، فهو استمرار الاشتباكات المتقطعة، خاصة في ظل رفض أي من الطرفين تقديم تنازل والعودة خطوة إلى الخلف والتفاهم على الخطوات المقبلة. ومع امتلاك تركيا حضوراً عسكرياً لافتاً في الشمال السوري مقابل الدعم الروسي والإيراني لقوات الأسد، فإن كلا الطرفين قد لا يستطيعان حسم المشهد الميداني، ولذلك تظل معادلة الاشتباك قائمة خلال المرحلة المقبلة على العمليات النوعية والهجمات المتقطعة. 

تطور التصعيد

ختاماً، يمكن القول إن المواجهات الراهنة بين أنقرة والنظام السوري المدعوم من روسيا تشير إلى أنه لا يمكن استبعاد احتمال تطور التصعيد في إدلب خلال المرحلة المقبلة، خاصةً مع إصرار تركيا على عدم الانسحاب العسكري من شمال سوريا، وهو ما قد يحمل تداعيات عديدة على التطورات السياسية والميدانية التي سوف تشهدها سوريا خلال المرحلة القادمة. بيد أن ذلك لا ينفي غياب فرص التهدئة، ولا سيما في ظل حرص موسكو على عدم تأزم العلاقات مع أنقرة، لتوسيع هامش تحركاتها الإقليمية والدولية لمواجهة العقوبات الغربية المفروضة عليها بسبب الأزمة الأوكرانية، كما أن دمشق لا تريد عودة العلاقة مع أنقرة إلى نقطة الصفر.