انتهت سريعاً جولة الحوار الوطني العراقي الثانية، التي عُقدت في 5 سبتمبر الجاري تلبية لدعوة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، حيث صدر بيان سياسي أكد فيه المشاركون على تشكيل لجنة فنية منبثقة عن الحوار، والتمسك بالخيارات الدستورية بكافة مراحل الحوار والحلول التي سيتبناها. ويكشف مضمون البيان على هذا النحو أن الوصول إلى توافق لحل الأزمة السياسية تحت عنوان خريطة طريق جديدة لا يزال مبكراً رغم دعوة الحوار إلى وضع خريطة طريق انتقالية. ففي مقابل تقاطر المبادرات السياسية التي بدأها رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، والتي وجدت طريقها في المخرجات، يبدو أن الإطار التنسيقي لم يغادر مربع الشروط المسبقة للتسوية السياسية، ولا سيما عملية انعقاد البرلمان وعدم التخلي عن محمد شياع السوداني مرشحه لرئاسة الوزراء.
وقد اتجهت الأنظار إلى جدول أعمال متخم بالعديد من القضايا السياسية المدرجة على قائمة ملفات الأزمة السياسية، والتي تتضمن حزمتين من القضايا: الأولى، الحزمة العاجلة التي تتضمن ملفات تسوية أزمة انعقاد البرلمان، وتشكيل حكومة انتقالية، والإصلاح التشريعي بشأن قانون الانتخابات، وإعادة تشكيل المفوضية العليا للانتخابات، بالإضافة إلى أزمة الموازنة الحكومية. والثانية، حزمة القضايا المتعلقة بالتعاطي مع أسس ومسببات الأزمة السياسية بشكل عام، حتى لا يتم تكرارها مستقبلاً، وعلى رأسها قضية إصلاح نظام الحكم بشكل عام. فالأزمة الحالية لا تتعلق بمشكلة الكتلة الفائزة فقط التي يتعين عليها تشكيل الحكومة، وهي إشكالية قائمة منذ تفسير المحكمة الاتحادية لها عام 2010، إذ أن هناك أيضاً ملف رئاسة الجمهورية المتعثر، حيث يطالب بعض الأطراف السياسية، ومنها أعضاء في ائتلاف تقدم وربما أيضاً التيار الصدري بإنهاء قاعدة المحاصصة. ويطرح هذا التيار الاتجاه نحو إصلاح بنية الدولة بشكل عام، وتبني نظام رئاسي والتخلي عن النظام البرلماني الذي يُعيد إنتاج الأزمات، ويكرس لبنية المعسكرات الطائفية والإثنية، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك تياراً مقابلاً يُعتد بثقله السياسي أيضاً في المعادلة، ويعتبر أن الوضع الراهن يمثل مكتسباً يصعب التخلي عنه حتى لا يعود العراق أدراجه إلى نظام الفرد.
اختراق محدود
على هذا النحو، لم يقدم الحوار سوى اختراق محدود في مشهد الأزمة السياسية العراقية، إذ يبقى ترجمة لعملية العودة إلى طاولة الحوار السياسي بدلاً من التصعيد العسكري والانزلاق إلى الحرب الأهلية بعد أسبوع من الهدوء الحذر في بغداد على إثر اندلاع اشتباكات مسلحة بين مليشيات محسوبة على طرفي الأزمة (التيار الصدري – الإطار التنسيقي) في المنطقة الخضراء، نزع زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر فتيلها في مهدها. وأكد البيان الصادر عن الحوار الوطني -في هذا الصدد- على تحمل كافة الأطراف المسئولية عن الاستقرار في البلاد، بينما كان يعول على الحوار في أن يحقق نقلة نوعية تتوازى مع خطوة الصدر في تشكيل دافع لدى خصومه في تقديم تنازلات باتجاه تسوية الأزمة، تتجاوب من جانب آخر مع رسالة الصدر التي أطلقها على التوازي مع انعقاد الجلسة الثانية بعنوان “الإصلاح”، ومع دعوة كتلة تقدم إلى السير باتجاه خطوات عملية نحو مقترحات التهدئة والتسوية.
سيناريوهان محتملان
يتراوح المشهد التالي بين سيناريوهين محتملين: ينصرف السيناريو الأول، إلى حدوث اختراق من خارج الدائرة السياسية لتسريع وتيرة التفاعلات السياسية باتجاه هندسة مرحلة انتقالية جديدة.وفي هذا السياق، يمكن القول إن الأطراف تسعى إلى كسب الوقت، الأمر الذي يتوقف على طبيعة إرادتها السياسية، والتي يمكن معها تبلور اتجاه لمسار إدارة الأزمة، انطلاقاً من أن الهدف من الحوار هو الحوار من أجل الحوار، لإعطاء انطباع بطيّ صحفة “الاثنين الدامي”، مع الاتجاه نحو مقاربة واضحة العناوين تتعلق بحزم القوانين الآجلة والعاجلة، لكنها لا تزال عالقة في ترجمة العناوين إلى تفاصيل الآليات التنفيذية، فأي حكومة يمكن تشكيلها لإدارة خريطة الطريق الانتقالية الجديدة، وأي كتلة ستشكل تلك الحكومة عبر البرلمان الذي سيُعاد استئناف جلساته؟. فمن زاوية أخرى، تتجه الأنظار نحو المحكمة الاتحادية التي قررت عشية الحوار قبول الطعن المقدم من التيار الصدري بشأن “استقالة نواب الكتلة الصدرية” في البرلمان، وستبدأ أولى جلساتها في 28 سبتمبر الجاري، وهو الحكم الذي قد يُعيد تشكيل المشهد بأكمله. وفي هذا السياق، يرى مراقبون عراقيون أنه لا يمكن عزل موقف المحكمة عن السياق السياسي الراهن من حيث التأثير والتأثر، فالمحكمة التي سيتعين عليها الفصل بشأن هذه القضية ستضع نصب عينها التفسير الإشكالي للمادة 76. العامل الآخر الذي يعكس دلالة مقاربة السياسة والقضاء يتمثل في مشاركة رئيس المحكمة في الحوار، وبالتالي لديه صورة حول أبعاد الأزمة السياسية وتطوراتها.
فيما يتعلق السيناريو الثاني، بالحركة في المكان، بمعنى الإبقاء على الحوار كآلية ضرورية، من دون إحداث نقلة فارقة في المشهد، وبالتالي يتحول الحوار إلى مجرد آلية بديلة لحوارات “الحنانة” التي دامت قرابة العام من دون اختراق، بل قد يتأزم الموقف أكثر مما هو عليه إذا ما جاء قرار المحكمة بعدم عودة الكتلة الصدرية إلى البرلمان، فالمتوقّع أن يتجه الإطار التنسيقي إلى المضيّ في مساره متجاهلاً أي دعوات بغض النظر عن مصدرها، والتعامل مع الحكم كحجة لدعم موقفه.
وعلى الجانب الآخر، فإن استمرار الإشكالية الكردية في حسم أزمة منصب الرئاسة سيضاعف من مخرج الحل، فالأزمة على هذا النحو عالقة خارج سياق آليات الحل المطروحة على طاولة الحوار، ولا يوجد مؤشر أو أفق لحلحلة كردية تفكك تعقيدات هذا الملف، والاستمرار في ترحيله ضمن الملفات المؤجلة إلى ما بعد حلحلة الأزمة الحكومية.
فرص ورهانات
بالإضافة إلى الرهان على المحكمة الاتحادية في حسم موقف الكتلة الصدرية، فإن ثمة رهاناً على مرونة الموقف الصدري تجاه الحوار، وليس تغير الموقف الصدري كلية في ضوء تمسك الصدر بالاعتزال السياسي نهائياً. فمبادرة الصدر إلى إطلاق رسالة “الإصلاح” توازت مع دعوة مشاركي الحوار إلى العودة مرة أخرى إلى الإسهام فيه من باب الشراكة كونه حواراً وطنياً بالأساس ينسجم مع الموقف الوطني للصدر بنزع فتيل الحرب الأهلية. إلا أن سياق هذه الفرضية يصطدم مع الرسالة التالية التي أطلقها الصدر بأنه “غير معني بالحوار” وهي رسالة تحمل وجهين، فإما أن الصدر يؤكد على ما سبق تأكيده بعدم العودة إلى السياسة وأن مغزى الحوار سياسي، أو أنه لا يزال غير راضٍ عن مسار الحوار الذي لم يعكس مبادرة من جانب خصومه في تقديم تنازلات سياسية، وبالتالي لا يراهن على مخرجاته. لكن بعض المراقبين يرجحون أيضاً أن موقف الصدر لا يعني أنه خارج المشهد كلية، إذ إن رسائله تنطوي ضمنياً على موقف سياسي، كما أن حكم المحكمة المرتقب قد يضطره إلى مراجعة موقفه دون التراجع عن الاعتزال السياسي، لكن مع إبداء مرونة للتجاوب مع مسار خريطة الطريق الجديدة.