ما زالت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية منشغلتين بالوصول إلى إجابة عن السؤال الأهم ومفاده: هل إيران ضالعة بشكل مباشر في العملية العسكرية التي شنتها كتائب القسام – الذراع العسكرية لحركة حماس – في 7 أكتوبر الجاري؟ إذ تتزايد الاتهامات المباشرة وغير المباشرة لإيران بأنها قدمت دعماً كبيراً للحركة، لكن تأكيد انخراطها في التخطيط والتحضير لتلك العملية ما زال موضع جدل كبير.
وبصرف النظر عن الإجابة على هذا السؤال، وعما إذا كانت إيران ضالعة فعلاً في هذه العملية أم أنها فوجئت بها وبالمدى الذي وصلت إليه؛ فإنه يمكن القول إن إيران باتت تواجه اختباراً صعباً بفعل المعطيات الجديدة التي فرضتها تلك العملية وما تلاها من تصعيد عسكري إسرائيلي ضد قطاع غزة يُمهد حالياً للتدخل البري من أجل تحقيق الهدف الذي أعلنته إسرائيل من البداية وهو القضاء على حكم حركة حماس.
وربما من هنا يمكن تفسير أسباب حرص إيران على عدم بلورة موقف واضح إزاء ما يحدث على الأرض، وإمعانها في توجيه رسائل مزدوجة تتضمن معانيَ متناقضة تتراوح بين التهدئة والتصعيد، سواء تجاه إسرائيل أو إزاء الولايات المتحدة الأمريكية.
أسباب عديدة
يمكن تفسير هذا المأزق الذي تواجهه إيران في الوقت الحالي في ضوء الاعتبارات التالية:
1- المدى المحتمل للتصعيد العسكري الإسرائيلي: ما زالت إسرائيل مصرّة على المضيّ قدماً في تصعيدها العسكري داخل قطاع غزة، حيث تمهد في الوقت الحالي للتدخل برياً في القطاع. وهنا، فإن الضغوط تتزايد على إيران من أجل التدخل باعتبار أن حركة حماس هي أحد الفصائل التي تحظى بدعم خاص من جانبها، وأن ذلك يأتي في سياق حماية “المحور” الذي قامت إيران بتأسيسه منذ عقود عديدة، لإدارة الصراع مع خصومها الإقليميين والدوليين.
إذ إنّ العزوف عن هذا التدخل قد تكون تكلفته عالية، باعتبار أنه يؤشر إلى أن إيران تتراجع عن دعم حلفائها في المنطقة في مواجهة الضغوط والتهديدات التي يتعرضون لها، على عكس كل الرسائل التي وجهتها في المرحلة الماضية. وربما يكون لذلك تداعيات مؤجلة مرتبطة باتجاه بعض تلك الفصائل والمليشيات إلى البحث عن توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها على الصعيد الإقليمي، لتجنب التعرض للمأزق نفسه في مرحلة لاحقة.
2- المغامرة بالانخراط في مواجهة عسكرية: وهو الخيار الذي سعت إيران باستمرار إلى تجنبه منذ انتهاء الحرب مع العراق (1980-1988). إذ إن التدخل المباشر في الحرب الحالية أو توجيه اتهام مباشر إلى طهران من قبل تل أبيب أو واشنطن بأنها ضالعة في العملية العسكرية التي شنتها كتائب القسام في 7 أكتوبر الماضي، كل ذلك قد يكون سبباً في تزايد احتمالات انخراطها في مواجهة عسكرية، على نحو قد ينتج معطيات جديدة على الأرض لا تتوافق بالضرورة مع مصالحها، بصرف النظر عن نتائج تلك المواجهة في النهاية.
إذ تفضل إيران باستمرار سياسة “الحرب بالوكالة”، عبر تكليف حلفائها الإقليميين بإدارة الصراع مع خصومها نيابة عنها، ورفع كلفة أي محاولة لدفعها إلى الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة أو لاستهداف مصالحها. لكن الانخراط في مواجهة مباشرة قد يربك كل الحسابات ويضعها أمام خيارات محدودة، ويضعف قدرتها على ممارسة الدور ذاته الذي تعمل على تكريسه حالياً باستغلال تصاعد حدة الأزمات في بعض الدول، على غرار سوريا والعراق ولبنان واليمن.
3- مواصلة العمليات الأمنية داخل إيران: قد يكون من ضمن التداعيات المحتملة للحرب الحالية في غزة تعرض إيران نفسها لمزيد من الاختراقات الأمنية في المرحلة القادمة، ولا سيما فيما بعد انتهاء تلك الحرب. إذ تعرضت بعض المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية لعمليات استهدفت تعطيلها أو تدمير جزء منها، خلال الفترة الماضية، على غرار مفاعل “ناتانز” الذي يُعتبر أحد أهم أركان البرنامج النووي الإيراني، وتجري داخله عمليات تخصيب اليورانيوم، حيث تعرض لهجومين متتاليين في 2 يوليو 2020 و12 أبريل 2021. وقد وجهت إيران اتهامات مباشرة لإسرائيل بالمسئولية عن تلك العمليات.
لكن كان لافتاً أن هذه العمليات تراجعت في العامين الأخيرين. ورغم أن إيران اعتبرت أن ذلك يعود إلى الإجراءات الأمنية المشددة التي بدأت في اتخاذها لحماية تلك المنشآت، إلا أن ذلك لا ينفي أن هذه العمليات قد تتجدد مرة أخرى في مرحلة لاحقة، خاصة أن إيران ما زالت مصرّة على المضيّ قدماً في تطوير برنامجها النووي، فضلاً عن أنها الآن باتت تحظى بامتياز آخر يوفره الاتفاق النووي، خاص برفع الحظر الأممي الذي كان مفروضاً على الأنشطة المرتبطة ببرنامجها الصاروخي، في 18 أكتوبر الجاري، بعد مرور ثماني سنوات من تاريخ اعتماد خطة العمل المشتركة أو الاتفاق النووي في 18 أكتوبر 2015.
4- تفاقم الأزمة الداخلية في إيران: ربما يمكن القول إن إيران ترى أن الحرب الحالية التي اندلعت في قطاع غزة جاءت في سياق غير مواتٍ، ولا سيما على المستوى الداخلي الإيراني. فرغم أن السلطات في إيران نجحت في احتواء الأزمة التي فرضتها الاحتجاجات التي امتدت لنحو خمسة أشهر من سبتمبر 2022 وحتى يناير 2023، اعتراضاً على وفاة الفتاة الكردية العشرينية مهسا أميني بعد توقيفها من جانب شرطة الأخلاق لاتهامها بعدم الالتزام بقواعد ارتداء الحجاب، إلا أن ذلك لا ينفي أن محفزات تلك الأزمة ما زالت قائمة وفي انتظار تطور آخر قد يؤدي إلى تأجيجها مرة أخرى.
وهنا، فإن أيّ خطوة قد تكون غير محسوبة من جانب إيران تجاه ما يجري الآن على صعيد قطاع غزة، قد تكون تكلفتها عالية، في ظل تصاعد حدة التوتر بين النظام والشارع الإيراني، وتزايد استياء قطاع من المواطنين من تفاقم المشكلات المعيشية والاقتصادية، خاصة أنه يربط ذلك باستمرار إيران في دعم الحلفاء الإقليميين على حساب معالجة الأسباب التي أدت إلى استمرار تلك المشكلات.
5- الارتدادات المحتملة لمشاركة الأطراف الأخرى: خاصة حزب الله، الذي انخرط في مواجهات محدودة حتى الآن مع إسرائيل، في إطار توجيه رسائل ردع متبادلة. إذ إن منح الضوء الأخضر لتوسيع نطاق تلك المواجهات قد تكون تكلفته عالية أيضاً، باعتبار أن إسرائيل سوف تتجه -في الغالب- إلى شن هجمات واسعة داخل الأراضي اللبنانية، على نحو قد يفوق ما حدث في عام 2006، وهو أمر لا يتوافق مع حسابات طهران والحزب في الوقت الحالي، خاصة في ظل الاتهامات التي يتعرضان لها بالمسئولية عن استمرار أزمة الفراغ الرئاسي بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 أكتوبر 2022.
ترقب حَذِر
من هنا، ربما ترى إيران أن العمل على إنهاء الحرب الحالية في قطاع غزة في أسرع وقت ممكن عبر الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، بالتنسيق مع قوى دولية مثل روسيا، هو المسار الذي يمكن أن يساعد في تجاوزها لهذا الاختبار الصعب الذي تواجهه في الوقت الحالي، ويجنبها في الوقت نفسه دفع كلفة كبيرة لأي من السيناريوهات المطروحة لتلك الحرب.