رغم تبني إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن سياسة تقليل الانخراط في الشرق الأوسط، على غرار إدارتى باراك أوباما ودونالد ترامب، في ظل انتقال تركيزها نحو منطقة الإندو-باسيفيك وأوروبا، لمواجهة التحدي المتصاعد الذي تمثله الصين وروسيا، والذي دفع اتجاهات عديدة إلى التحذير من أن نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط آخذ في التلاشي، برز تيار أمريكي مضاد يؤكد على أن المنطقة لا تزال مهمة لواشنطن، وأن سياسة فض الاشتباك التي تتبناها الإدارة الحالية في التعامل مع أزمات المنطقة ستفرض في النهاية نتائج سلبية على واشنطن وحلفائها في المنطقة.
متغيرات مختلفة
يستند أنصار التيار الذي يتحدث عن أن منطقة الشرق الأوسط لا تزال مهمة بالنسبة للولايات المتحدة، رغم التوجهات الأمريكية للتركيز على مناطق استراتيجية أخرى، على جملة من المتغيرات التي يتمثل أبرزها فيما يلي:
1- تعدد المصالح الاستراتيجية الأمريكية بالمنطقة: وفقاً لهذا التيار، فإن هناك مصالح أمريكية متعددة في المنطقة، يأتي في مقدمتها ضمان استمرار تدفق النفط بشكل آمن إلى الأسواق الدولية، ودعم توازن القوى في المنطقة الذي يعزز الاستقرار الإقليمي ويحمي حلفاء الولايات المتحدة، وخاصة إسرائيل، ومواجهة سياسات الخصوم التي تهدد استقرار المنطقة، وتقليص حدة التهديدات التي تفرضها التنظيمات الإرهابية، ومنع الانتشار الإقليمي لأسلحة الدمار الشامل، وأخيراً تشجيع التجارة الثنائية والازدهار الاقتصادي لما لهما من آثار إيجابية غير مباشرة على المصالح الأمريكية الأخرى.
2- الحفاظ على العلاقات مع الحلفاء الإقليميين: لاتزال الولايات المتحدة حريصة على الحفاظ على تحالفاتها في منطقة الشرق الأوسط. ورغم أن التوتر بات سمة رئيسية في العلاقات مع بعض الحلفاء، على غرار ما يحدث مع تركيا، بسبب اختلاف مقاربات الدولتين تجاه عدد من القضايا الإقليمية، وسعى أنقرة للحصول على منظومة الدفاع الصاروخي الروسي “إس -٤٠٠”، إلا أن الدولتين لا تزالان تربطهما علاقات استراتيجية ليس فقط لكونهما عضوين في حلف الناتو، ولكن أيضاً لمصالحهما المشتركة التي لا يمكن مقارنتها بالمصالح المرحلية التي تضبط اتجاهات العلاقات بين تركيا وروسيا.
3- الأهمية الاستراتيجية لأمن واستقرار المنطقة: لن يدعم تقليص الدور الأمريكي في الشرق الأوسط المصالح أو القيم الأمريكية على المدى الطويل، ولكنه في المقابل سيزيد من عدم الاستقرار واحتدام الصراعات في المنطقة، على نحو قد يدفع بعض دولها إلى تصدير المزيد الأزمات والتحديات إلى النظام الدولي الذي تمثل فيه الولايات المتحدة القوة الرئيسية.
4- استمرار القوات الأمريكية في الشرق الأوسط: في الوقت الذي تكشف تقارير عديدة عن خطط أمريكية لإعادة انتشار القوات الأمريكية في المنطقة في إطار استراتيجية الإدارة لمواجهة النفوذين الصيني والروسي، قال قائد القوات الجوية الأمريكية في الشرق الأوسط، الجنرال جريجوري جيلو، في ١٣ نوفمبر الفائت، أن القوات الأمريكية مستمرة في الشرق الأوسط على الرغم من أن الصين وروسيا هما التحدي المستقبلي للولايات المتحدة. وخلال الأشهر الماضية نفذت القوات الأمريكية عدداً من التدريبات البرية والبحرية والجوية مع بعض دول المنطقة.
ومع الحديث عن خطط لإعادة انتشار القوات الأمريكية في المنطقة، فإنه لا تزال هناك قوات أمريكية في بعض دولها، وتمتلك الولايات المتحدة العديد من القواعد العسكرية في جميع أنحاءها، كما تتواجد مجموعة حاملات طائرات أمريكية في مياه الخليج العربي في فترات مختلفة، وعادة ما تحلق قاذفات B-52 وB-1 بهدف استعراض القوة الأمريكية في المنطقة.
5- عدم تغير الاتجاهات الرئيسية للسياسة الأمريكية: كان لافتاً أن الإدارة الأمريكية، مع بداية وصول الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض، تحدثت عن تغييرات في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه عدد من دول المنطقة، مع التركيز بشكل أكبر على قضايا حقوق الإنسان، وإعادة تقييم صفقات الأسلحة الأمريكية لبعض الدول، والتي تم الاتفاق عليها خلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب. ولكن مع قرب نهاية العام الأول للإدارة الحالية، لم يحدث تغيير كبير في السياسات الأمريكية تجاه تلك الدول، حيث قررت الإدارة المضى قدماً في بعض صفقات الأسلحة، بالتوازي مع استمرار الاتصالات الأمريكية والاجتماعات رفيعة المستوى مع مسئولي تلك الدول.
6- احتواء تداعيات الانسحاب العسكري من أفغانستان: مع تصاعد مخاوف العديد من الحلفاء إزاء احتمال تنفيذ عملية انسحاب أمريكي مماثل من منطقة الشرق الأوسط مع خروج آخر جندي أمريكي من أفغانستان في ٣١ أغسطس الماضي، شرع مسئولو الإدارة الأمريكية في تقديم تطمينات للحلفاء في المنطقة باستمرار الالتزام الأمريكي بأمنها واستقرارها. فقد سعى وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، في ٢٠ نوفمبر الماضي، خلال كلمته بمنتدى “حوار المنامة” السنوي الذي عقده المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بمملكة البحرين خلال الفترة من ١٩ إلى ٢١ من هذا الشهر، إلى تأكيد أن الإدارة الأمريكية ملتزمة بأمن واستقرار المنطقة، وبعدم حصول إيران على السلاح النووي، بينما تجري الولايات المتحدة مفاوضات غير مباشرة مع الأخيرة للعودة مجدداً إلى الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في عام ٢٠١٥. وقد شارك الوزير مخاوف دول المنطقة بأن الخطر الإيراني لا يقتصر على البرنامج النووي، بل يشمل أيضاً “تحديات خطيرة” منها دعم المليشيات المسلحة في المنطقة لزعزعة الاستقرار وبرنامج الطائرات من دون طيار، وهو ما أكد عليه منسق البيت الأبيض لشئون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بريت ماكجورك خلال الجلسة الختامية للحوار.
7- عدم تهديد روسيا والصين للنفوذ الأمريكي بالمنطقة: ترى اتجاهات عديدة أن المخاوف الأمريكية من أن تسعى روسيا والصين إلى تهديد النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، وملء الفراغ الناتج عن الانسحاب الأمريكي كان مبالغاً فيها، خاصة أن موسكو وبكين لم تدفعا دول المنطقة إلى تقليص علاقاتها مع الولايات المتحدة، فضلاً عن أن تأثيرهما السياسي والأمني مقتصر على عدد محدود من الدول. كما أنهما لا ترغبان في الإحلال محل واشنطن كقوى كبرى ملتزمة بأمن واستقرار المنطقة لما لذلك من تكلفة لا تبدو هينة.
مركزية الدور
تتحدث كتابات أمريكية عديدة عن أن انحسار الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط كان له نتائج إيجابية بدت جلية في دفع الدول المتنافسة إلى البحث عن أطر سلمية ودبلوماسية لإنهاء خلافاتها، وهو ما سيكون مدخلاً لإنهاء الحروب بالوكالة في المنطقة. ومع ذلك، فإن الدور الأمريكي لا يزال مهماً- في ظل تعدد القوى المتنافسة الإقليمية والدولية- في تسهيل عملية إرساء الاستقرار والازدهار في المنطقة، حيث من المستبعد أن تتمكن الأطراف المتنافسة من تحقيق ما عجزت عنه واشنطن، أو الإحلال محلها كضامن لأمن واستقرار الشرق الأوسط.
فضلاً عن ذلك، فإن الديناميكيات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط قد تؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار والعنف، وهو ما سيعزز أهمية استمرار الوجود الأمريكي، على عكس ما يرى الاتجاه البارز حالياً في واشنطن.