العام الأول:
هل لا يزال إجراء الانتخابات الليبية ممكناً؟

العام الأول:

هل لا يزال إجراء الانتخابات الليبية ممكناً؟



في غضون الأيام القليلة المقبلة سيكون قد انقضى عام على موعد الانتخابات الليبية التي كانت مقررة في 24 ديسمبر 2021، ولم تتم، ولا يزال غير معروف متى يمكن أن تتم، في ضوء ديناميكيات الحالة الليبية المتكررة والمعروفة التشخيص سلفاً، فنهايات المراحل الانتقالية تتحول إلى بدايات للانقسام والتصارع على السلطة، والسلطة السياسية الانتقالية تتحول لجماعة مصالح تنسج تحالفاتها الداخلية والخارجية على أساس البقاء بغض النظر عن المشروعية السياسية والقانونية من عدمها، كما استهلك الوسطاء ورعاة التسوية السياسية للأزمة خرائط الطريق الممكنة لحل الأزمة، فقد قضى المبعوث الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي 100 يوم تقريباً من دون تقديم طرح جديد، فيما يبدو أن النقطة التي ينطلق منها هى البدء من حيث انتهى السابقون.

إشكالية البداية

على الرغم من التوافق العام على أن نقطة البدء في تغيير المشهد السياسي الليبي هى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، إلا أن حجم التباينات حول المدخل لنقطة البدء يشكل معضلة. فثمة طرف يرى أنه يتعين أن تكون هناك بداية ما قبل البداية، بمعنى أن نقطة البدء يجب أن تكون من خلال تشكيل حكومة موحدة، مع الأخذ في الاعتبار الفارق ما بين حكومة “موحدة على المستوى الوطني” وحكومة “وحدة وطنية”. فالأخيرة ثبت فشلها، بينما حكومة موحدة يمكن أن تكون حكومة مهام على رأس جدول أعمالها موضوع الانتخابات، وهذا المدخل في حد ذاته كفيل بالحكم على هذا المشروع سلفاً، إذ يمكن أن تكون هناك حكومة موحدة في ظل أزمة انقسام وطني حولها، على نحو يعني أن ماكينة الوضع السياسي الليبي تدور في دائرة مفرغة.

ويقطع الخلاف ما بين مجلسى النواب والأعلى للدولة الطريق على إمكانية حل أزمة القاعدة الدستورية للانتخابات، كمؤشر آخر على نمط إدارة المؤسسات للأزمة، ففي إفادته الأخيرة حول ليبيا أمام مجلس الأمن، أشار باتيلي إلى الدور الذي تلعبه المصالح الشخصية فى إدارة العلاقة بين المجلسين وعرقلة التوافقات الممكنة على القاعدة الدستورية. كما ألمح في رسالته التي وجهها إلى المجلسين -للصبر حدود- إلى أن هناك إمكانية للبحث عن بدائل، كالمجلس الرئاسي أو ملتقى الحوار الوطني، يمكن من خلالها القفز على موقف المجلسين.

انكشاف البدائل

تمثل البدائل المرشحة لوضع القاعدة الدستورية آليات ممكنة من الناحيتين النظرية والإجرائية، لكن من حيث الفاعلية وما يمكن أن يترتب عليها من بناء موقف سياسي جديد قد تكون هناك شكوك، بناءً على عوامل عديدة منها، وفقاً لسوابق الخبرة الليبية المتراكمة، أنه لا يمكن تنحية طرف مقابل تعزيز آخر، فالحالة الليبية لا تتعاطى مع البدائل، ومن يتم استبعاده قادر على تخريب المسار البديل، وهو ما تدركه الأطراف الليبية، وسبق وأشار إليه المجلس الرئاسي عقب انتهاء المرحلة الانتقالية الأخيرة رسمياً، ومطالبة الحراك الشعبي له بأخذ زمام المبادرة وإنهاء الأزمة بإصدار مرسوم رئاسي للانتخابات. كذلك، فإن ملتقى الحوار الوطني بحاجة لعملية ترميم، فضلاً عن أن آلية الملتقى اختبرت سابقاً هى الأخرى، ففي أكثر من جولة للآلية في جنيف للنقاش حول القاعدة الدستورية، كانت النتيجة واحدة وهي الانقسام حول أربعة سيناريوهات دون الاتفاق على واحد منها.

في السياق ذاته، لم تفض دعوة المجلس الرئاسي مؤخراً للتشاور مع مختلف الأطراف بشأن الخروج من المأزق الراهن إلى تحقيق نتائج تذكر، فالمجلسان لم يستجيبا للدعوة، فيما أبدى المشاركون من الأحزاب وبعض المرشحين للانتخابات آراء لا ترقى إلى خطة عمل سياسية، وهي نتيجة منطقية لغياب الفاعلين الرئيسيين فى المشهد السياسي، وهو ما يؤكد مرة أخرى على فرضية أنه لا يمكن تنحية طرف مقابل الآخر، على نحو ما تدركه الأطراف الليبية أكثر من اللاعبين الدوليين. وعلى سبيل المثال، فإنه بعد تجاوز موعد الانتخابات بادر مجلس النواب إلى وضع خريطة طريق جديدة، لكنها في الأخير لم تفض إلى شىء لصعوبة حصر الأمر في يد مجلس النواب وتنحية باقي الأطراف، وعاد المجلس مرة أخرى للبحث عن التوافق مع الأعلى للدولة من المربع الأول.

ثمة نقطة أخرى، في إطار مهمة البحث عن البدائل من جانب المبعوث الأممي، أشار إليها في إفادته، وتتعلق بأهمية محاسبة معرقلي عملية التسوية السياسية، وهي نقطة سبق وطرحتها المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز للضغط على الأطراف بهدف تغيير المواقف، لكنها في حقيقة الأمر ورقة بلا مضمون أو فاعلية يرتجى منها نتيجة، فما هي معايير المسئولية، وحدود العرقلة، ومن بمقدوره المحاسبة، وما العقوبات التي يمكن تطبيقها في مثل هذه الحالة؟. في مقابل ذلك، من المتصور أنه لا يوجد طرف يمتلك “القدرة على الإرغام” للضغط على القوى الليبية، في ظل تعدد اللاعبين والتكيف مع الأزمة، وتعادل استراتيجية البحث عن المصالح، فكما تبحث القوى الداخلية عن مصالحها الخاصة، فإن القوى الخارجية هى الأخرى تفعل الأمر ذاته.    

الهروب للأمام

بات تشخيص الأبعاد والتفاعلات التي تعمل على استدامة الأزمة الليبية واضحاً في ظل تكرارية المشهد وإعادة إنتاجه بتفاصيله تقريباً، على نحو ما سلفت الإشارة إليه، لكن ما يسترعي الانتباه في المرحلة الحالية، هو القفزات التبادلية التي تقوم بها الأطراف السياسية لتغيير قائمة الأولويات باستمرار، بمعنى أنه على الرغم من التوافق على الانتخابات الليبية كحل ممكن، إلا أن الانتخابات ليست الأولوية لدى الأطراف، وهو ما يمكن التدليل عليه من خلال عدة مؤشرات منها، على سبيل المثال، مؤشر “حالة الظروف القاهرة” الذي بررت به المفوضية العليا للانتخابات – دون الكشف عن مضمونه- فشل إجراء الانتخابات في موعدها، ولاحقاً حاولت الإشارة إلى انقضاء تلك الظروف، لكنها سرعان ما تراجعت وعادت للتأكيد على بقاءها. 

المؤشر الآخر يتعلق بموقع الانتخابات على سلم الأولويات لدى النخبة الليبية، حيث صعود وهبوط قضايا أخرى تحتل أولوية في المشهد، ويتمثل أقرب الأمثلة على تلك الفرضية في هيمنة إعادة فتح ملف “لوكيربي” على المجال العام، الذي سيعيد هندسة جانب من التفاعلات السياسية، وربما يؤدي لتوترات أمنية، وهكذا بالتتابع تظهر مدخلات جديدة تخطف الأضواء وتتوارى معها القضية الرئيسية، ثم تعود الأزمة لتطفو على السطح، وبعدها تلوح أزمة جديدة، وهكذا يتوالى المشهد السياسي.

في الأخير، من الأهمية بمكان إعادة طرح الأسئلة الواقعية التي تتبلور حولها الأزمة في ضوء التجربة الليبية، منها، على سبيل المثال: هل تمثل الانتخابات فعلياً نقطة البدء لحل الأزمة الليبية؟، أم أنها قد تكون نقطة البدء في مسار جديد للأزمة الليبية، طالما أنه لا توجد إرادة سياسية جماعية لاعتبارها أولوية، حيث تبقى هناك شكوك في مدى جدية الانتخابات كآلية للانتقال السياسي ما بين مرحلتين؟. بصيغة أخرى: هل تمثل الانتخابات استحقاقاً وطنياً مطلوباً وفارقاً بين حقبتين: حقبة الفوضى وحقبة الاستقرار، أم مجرد عملية إجرائية لا تشكل سوى فاصل زمني في مسار الأزمة الممتدة؟.

في ضوء المؤشرات الحالية للأزمة الليبية وتفاعلاتها، من الصعب تصور ملامح السيناريو القادم، فالأقرب للتصور هو أن السيناريو القادم نفسه قد يكون نسخة مطورة للسيناريو الحالي، طالما لم تتغير ديناميكيات اللعبة السياسية واللاعبين في المشهد الليبي بشكل عام وعلى حد سواء من الداخل والخارج، وهو تغير غير محتمل في المدى المنظور، حيث تحكم المشهد الداخلي توازنات الثقل السياسي أو مراكز القوة التي لا يمكن معها لطرف واحد أخذ زمام المبادرة منفرداً. وكما تحتل أولويات الأطراف الداخلية حساباتها الخاصة، فإن القوى الخارجية المؤثرة هى الأخرى لديها أولوياتها المرحلية التي تضع ليبيا في موقع متأخر خلال الفترة الحالية.