حافظت تونس عبر تاريخها على موقف حيادي تجاه ملف الصحراء، وحرصت السياسة الخارجية التونسية على موازنة مواقفها تجاه الصراع المغربي-الجزائري. غير أن استقبال الرئيس التونسي، قيس سعيد، في 27 أغسطس الفائت، لزعيم جبهة البوليساريو، التي تشارك في قمة طوكيو للتنمية في أفريقيا “تيكاد 8” التي احتضنتها تونس يومي 27 و28 أغسطس الفائت؛ قد أثار جدلاً واسعاً في الأوساط المغربية، والذي على إثره استدعى المغرب سفيره للتشاور. ولذلك، من المتوقع أن يثير الموقف التونسي توترات في العلاقات المغربية-التونسية، وتجاذبات واستقطابات سياسية في الداخل التونسي ومنطقة المغرب العربي.
استقبل الرئيس التونسي، قيس سعيد، في 27 أغسطس المنقضي، زعيم جبهة البوليساريو، بشكل رسمي بمطار قرطاج الدولي، وخصه بلقاء مطول في بهو المطار. وجاء ذلك في إطار مشاركة “البوليساريو” في قمة طوكيو للتنمية في أفريقيا “تيكاد 8” التي ستحتضنها دولة تونس يومي 27 و28 أغسطس الجاري. وهو ما يثير العديد من التساؤلات حول دلالات التحول في الموقف التونسي وتداعياته المحتملة.
تغير متدرج
التزمت تونس -تاريخياً- الحياد الإيجابي تجاه الصراع الجزائري-المغربي حول الصحراء، ولذلك يعد استقبال الرئيس التونسي لزعيم جبهة البوليساريو، سابقة في العلاقات التونسية-المغربية، حيث كانت تونس على مدى عقود طويلة تتخذ مواقف داعمة لمغربية الصحراء، وترفض الاعتراف بأطروحة الانفصال، قبل أن تبدأ هذه المواقف في “التزعزع” بشكل تدريجي في السنوات الأخيرة، خاصة منذ تولي قيس سعيد رئاسة البلاد.
وقد أثار هذا الموقف التونسي حفيظة المغرب، ولا سيما بعد امتناع تونس في العام الماضي عن التصويت لمصلحة التمديد لبعثة الأمم المتحدة في الصحراء “مينورسو” لسنة إضافية، مما أثار جدلاً حول دلالات الخطوة. ووافق مجلس الأمن على تمديد ولاية “مينورسو” لمدة عام آخر، وأيد القرار 13 عضواً، بينما امتنعت روسيا وتونس عن التصويت.
دلالات متعددة
ينطوي موقف الرئيس التونسي ومشاركة جبهة البوليساريو في قمة طوكيو للتنمية في أفريقيا “تيكاد 8” في تونس على العديد من الدلالات، وأهمها:
1- رغبة الرئيس التونسي في إحداث تغيير في السياسة الخارجية التونسية، حيث يرى بعض المراقبين في موقف الرئيس التونسي ما يشير إلى توجيه رسالة للداخل، وخاصة القوى السياسية الداعمة للموقف المغربي، مفادها أن سياسة تونس الخارجية ستتغير. وقد يشير هذا الموقف أيضاً إلى رغبة الرئيس التونسي في التخفيف من الضغوط الجزائرية في تحريك الجماعات الإسلامية الداخلية في المغرب، لا سيما الإخوان المسلمين الذين يعارضون سياسة الرئيس قيس الداخلية.
2- محاولات جزائرية لاستمالة تونس في القضايا المغاربية، خاصة وأن الجزائر تحاول منذ سنوات إقحام الجبهة في هذه القمة، وآخرها قمة “تيكاد 7” في يوكوهاما اليابانية، قبل أن ترفض اليابان مشاركة الجبهة. ناهيك عن الدعم المالي والقروض التي منحتها الجزائر لنظام قيس سعيد من أجل تجاوز مشاكله الاجتماعية، فضلاً عن مشاكله السياسية داخل البلاد. فيما بدت تونس في السنوات الأخيرة أقرب إلى الجزائر بشكل كبير، حيث تبادل وزيرا خارجية البلدين، التونسي عثمان الجرندي والجزائري رمطان لعمامرة، الزيارات، كما أن تواصل غلق الحدود البرية بين البلدين لأكثر من سنتين ونصف السنة قبل إعادة فتحها في يوليو الماضي، أثار تأويلات واسعة النطاق بشأن إمكان أن تكون الجزائر قد ضغطت على تونس لاستمالتها في ملف الصحراء.
3- مساومة تونسية للمغرب لدعم مشروع قيس سعيد للتغيير، يعتبر العديد من المراقبين أن موقف الرئيس التونسي يعكس رغبته في محاولة الاستفادة من الصراع المغربي-الجزائري وذلك من خلال الحصول على الدعم السياسي والاقتصادي، وخاصة في سياق الأزمة السياسية والاقتصادية الداخلية التي تمر بها تونس، لا سيما أن هذ التطورات قد جاءت بعد أيام من خطاب العاهل المغربي محمد السادس، الذي قال فيه إن “ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وإن الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء هو ما يحدد علاقاته مع باقي دول العالم”.
تداعيات محتملة
يتوقع أن يكون للموقف التونسي العديد من التداعيات على النحو التالي:
1- توتر محتمل في العلاقات المغربية-التونسية، حيث يُتوقع أن يكون لهذا الموقف التونسي تأثير كبير على العلاقات المغربية التونسية، خاصة أن الرباط شددت أكثر من مرة في الفترات الأخيرة على أنّ قضية الصحراء أصبحت هي المعيار الأساسي في التعامل مع باقي الدول. وقرر المغرب عدم المشاركة في القمة الثامنة لمنتدى التعاون الياباني الأفريقي (تيكاد)، والاستدعاء الفوري لسفيره بتونس للتشاور. وأبرزت وزارة الخارجية المغربية أنه “بعد أن ضاعفت تونس مؤخراً من المواقف والتصرفات السلبية تجاه المملكة المغربية ومصالحها العليا، جاء موقفها في إطار منتدى التعاون الياباني الأفريقي (تيكاد) ليؤكد بشكل صارخ هذا التوجه العدائي”.
2- تأجيج الاستقطاب السياسي في الداخل التونسي، حيث انتقدت شخصيات سياسية ونقابية حقوقية تونسية الخطوة التي أقدم عليها قيس سعيد، باستقباله إبراهيم غالي زعيم البوليساريو، ووصف عبدالوهاب هاني، رئيس حزب المجد التونسي، استقبال زعيم البوليساريو بـ”الانحراف الخطير، وحياد غير مسبوق عن ثوابت الدبلوماسية التونسية”. وقال محمد الأسعد عبيد، الأمين العام للمنظمة التونسية للشغل، إن “القذافي ورؤساء الجزائر لم يفعلوها علناً، استقبال رسمي لجماعة لا يعترف بها أحد إلا القليل وفي زوايا مظلمة!؟”. وبدوره، اعتبر الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي التونسي، غازي الشواشي، أن قيس سعيد يتجه نحو تدمير علاقتنا مع الدول الشقيقة، والإضرار بمصالحنا الدبلوماسية والاقتصادية”.
3- التوظيف السياسي من جانب البوليسايو لدعم موقفهم بشأن القضية الصحراوية، حيث علّق قيادي بارز في جبهة البوليساريو على الجدل الذي أثاره استقبال الرئيس التونسي لزعيم الجبهة إبراهيم غالي، واعتبر محمد يسلم بيسط، المكلف بالشؤون الأفريقية في الجبهة، أنّ موقف تونس سليم ولا يستدعي كل هذا الجدل والغضب من جانب المغرب، واصفاً الموقف المغربي من تونس بأنه “موقف معيب وغير مقبول”، وقال إن زعيم البوليساريو سبق له أن شارك في قمة “تيكاد 7” التي انعقدت في اليابان، ولم نرَ المغرب يقاطع اليابان أو يسحب منها السفير، ولكن حين تعلق الأمر بالمشاركة في “تيكاد 8” في تونس “قام المغرب بهذا السلوك الابتزازي المشين”.
4- زيادة حدة التجاذبات والاستقطابات في منطقة المغرب العربي، فمن المتوقع أن يجابَه التصعيد التونسي الأخير ليس من طرف المغرب فقط، بل من طرف القوى الدولية والإقليمية التي تحرص على التعبير عن دعمها الصريح للموقف المغربي بخصوص قضية الصحراء، ويتوقع أن يفسر الموقف التونسي باصطفاف تونسي–جزائري في مواجهة المغرب، وقد يدفع تونس في اتجاه المحور الروسي-الجزائري في مقابل المحور الأمريكي الإسرائيلي المغربي. كذلك، يتوقع أن يؤثر الموقف على علاقة تونس باليابان، حيث بعثت وزارة الخارجية اليابانية إلى الاتحاد الأفريقي شهر أغسطس الجاري عن موقفها الرافض لتوجيه أي دعوة لجبهة “البوليساريو”، تأكيداً على عدم اعترافها بما يسمى “الجمهورية الصحراوية”.
موقف متأرجح
وإجمالاً، يمكن القول إن الموقف التونسي من ملف الصحراء لا يزال متأرجحاً برغم استقبال الرئيس قيس سعيد لزعيم البوليساريو التي تشارك في قمة “تيكاد 8” بتونس. وبرغم أن هذا الموقف يعكس تقارباً جزائرياً تونسياً، لكنه يهدف في الوقت نفسه إلى تصعيد التنافس الجزائري-المغربي على استمالة تونس.