تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تعزيز نفوذها مجدداً داخل القارة الأفريقية، على نحو يمكن اعتباره إحدى النتائج التي يفرضها تصاعد حدة التوتر مع القوى الدولية الرئيسية وفي مقدمتها الصين وروسيا. وقد بدا ذلك جلياً في الإعلان عن استضافة واشنطن القمة الأمريكية-الأفريقية في الفترة من 13 إلى 15 ديسمبر القادم. لكن اللافت أن هذا التطور يتوازى مع بروز اتجاهات أمريكية تدعو إلى ضرورة توسيع نطاق الخيارات في القارة الأفريقية لاستضافة الوجود العسكري، بدلاً من التعويل على جيبوتي فقط، وذلك لاعتبارات تتصل باتجاهات العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وكل من الصين وروسيا، وموقع جيبوتي منها.
تحظى جيبوتي بموقع جيواستراتيجي في منطقة القرن الأفريقي، وعلى البحر الأحمر، وعلى مضيق باب المندب، وهى الممرات الملاحية الأكثر أهمية في العالم، حيث تستضيف الوجود العسكري الأمريكي الدائم الوحيد في أفريقيا في معسكر “ليمونيه”، الذي يعمل كقاعدة مهمة للعمليات العسكرية الأمريكية في أفريقيا والشرق الأوسط.
ويعد المعسكر مركزاً لجهود واشنطن لمكافحة الإرهاب في منطقة القرن الأفريقي، في وقت لا تزال فيه التقديرات الأمريكية تشير إلى أن التنظيمات الإرهابية الإقليمية التابعة لتنظيم “القاعدة”، مثل حركة “شباب المجاهدين” في الصومال وتنظيم “القاعدة في شبه الجزيرة العربية”، لا تزال تفرض تهديدات عابرة للحدود.
وعلى الرغم من وصف وزارة الخارجية الأمريكية لجيبوتي بأنها شريك رئيسي للولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي ودعم الجهود الإنسانية في منطقة القرن الأفريقي، لقربها من المناطق المضطربة في أفريقيا والشرق الأوسط، حيث الأزمات التي تشهدها الصومال واليمن، فقد تصاعدت الدعوات من قبل عدد من الباحثين والمشرعين الأمريكيين لأن تكون أرض الصومال بديلاً للتواجد العسكري الأمريكي في جيبوتي.
أسباب عديدة
استندت مبررات التيار الداعي لتمركز الوجود العسكري الأمريكي في أرض الصومال، كبديل للقاعدة العسكرية الأمريكية في جيبوتي، على جملة من الأسباب التي يتمثل أبرزها فيما يلي:
1- تزايد عدد القواعد العسكرية الأجنبية بجيبوتي: يُعد تأجير الأراضي للاستخدام العسكري المورد الاقتصادي الأساسي لجيبوتي، ولذلك تستضيف الدولة قواعد عسكرية لقوى دولية وإقليمية بعضها حليف للولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها منافسة لها في القارة الأفريقية، والبعض الآخر تعتبره واشنطن خصماً استراتيجياً لها، ويشكل تواجدها العسكري بجيبوتي تهديداً للمصالح والأمن القومي الأمريكي. إذ تستضيف جيبوتي وجوداً عسكرياً فرنسياً كبيراً، وتوفر مرافق لعمليات مكافحة القرصنة متعددة الجنسيات قبالة الساحل الصومالي. وقد أنشأت اليابان أول قاعدة عسكرية خارجية لها بعد الحرب العالمية الثانية هناك في عام ٢٠١١. وافتتح حلف الناتو مكتب اتصال فيها لتعزيز الجهود الإقليمية لمكافحة القرصنة في عام ٢٠١٥. كما أسست الصين في عام ٢٠١٧ أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي. وتحتفظ إيطاليا أيضاً بمنشآت عسكرية في البلاد.
2- احتمالات الصدام العسكري بين واشنطن وبكين: تشير التقديرات الأمريكية إلى أن الصين تقوم بتوسيع وجودها العسكري في جيبوتي، وأن قاعدتها البحرية بالقرب من مدخل البحر الأحمر تكفي لاستضافة حاملات الطائرات لجيش التحرير الشعبي، ويمكن أن تستوعب بسهولة أربع غواصات هجومية صينية تعمل بالطاقة النووية إذا لزم الأمر.
ويثير تواجد القاعدة الصينية على بعد ٦ أميال فقط من أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في أفريقيا، المخاوف من احتمالات انتقال التصعيد العسكري بين القوتين المتنافستين من منطقة الإندو-باسيفيك إلى جيبوتي. فقد سبق أن اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية، في 4 مايو ٢٠١٨، الصينيين بتوجيه أشعة الليزر إلى الطائرات العسكرية الأمريكية من قاعدتهم، وهو ما ردت عليه الصين بنفى هذه الادعاءات.
3- إمكانية تعرض جيبوتي لضغوط لغلق القاعدة الأمريكية: تتوقع بعض التقارير الأمريكية أنه في ظل تزايد نفوذ الصين داخل جيبوتي، خاصة عبر “إغراقها” بالديون، فإنها قد تمارس ضغوطاً عليها لدفعها إلى مطالبة الولايات المتحدة الأمريكية بإغلاق قاعدتها العسكرية على أراضيها. وعلى الرغم من أنه لم تظهر أي مؤشرات على رغبة الحكومة الجيبوتية للقيام بذلك، إلا أنها يمكن أن تطلب من واشنطن، من الناحية القانونية، اتخاذ تلك الخطوة في أي وقت.
4- تقدم أرض الصومال بعرض لاستضافة الوجود الأمريكي: كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” في أول فبراير الماضي، أن أرض الصومال عرضت الاستخدام العسكري الأمريكي لميناء بحري ومطار يطل على الطرق البحرية الاستراتيجية مقابل اتخاذ خطوات نحو الاعتراف بها كدولة ذات سيادة مستقلة عن الصومال، المرتبطة بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتي ما زالت تؤكد أن أرض الصومال جزء من الصومال، وترفض استقلالها. وقد كان لافتاً أن رئيس أرض الصومال موسى بيهي قام، في 13 مارس الماضي، بزيارة واشنطن في إطار تعزيز تلك الجهود.
5- تزايد زيارات المسئولين الأمريكيين لأرض الصومال: اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية خطوات لتقييم فاعلية خيار أن تكون أرض الصومال مركزاً لتواجد عسكري، حيث تكشف التقارير الأمريكية عن زيارات لمسئولين عسكريين، ومنهم ستيفن تاونسند، القائد السابق للقيادة الأمريكية لأفريقيا “أفريكوم”، الذي زارها في 12 مايو الماضي، والسفير الأمريكي في الصومال لاري أندريه ومسئولون أمريكيون آخرون، ليكون تاونسند أعلى مسئول عسكري أمريكي يزور أرض الصومال منذ عام ١٩٩١، وذلك بهدف تقييم ميناء بربرة والمطار، الذي تم تجديده حديثاً، على نحو يضفي مزيداً من الزخم على احتمالات تحولها إلى بديل لجيبوتي، خاصة أنه يمكن استخدام أراضيها في مواجهة حركة “الشباب” التي تشن هجمات متعددة ضد الحكومة المركزية في الصومال منذ أكثر من عقد.
واللافت في هذا السياق، هو أن الإدارة الأمريكية تتعرض لضغوط من جانب عدد من المشرعين الأمريكيين، من أجل تعزيز التعاون الدفاعي الثنائي مع أرض الصومال، لكونها “تتمتع بالاستقرار والديمقراطية”، في محيط إقليمي يتسم بعدم الاستقرار، حيث تدهور الوضع الأمني في الصومال واندلاع الحرب الأهلية في إثيوبيا، وتعثر الانتقال الديمقراطي في السودان.
كما أن أرض الصومال نفسها تشن حملة داخل الولايات المتحدة الأمريكية تروج من خلالها إلى أنها قادرة على مواجهة النفوذ الصيني في القارة بعد توقيعها، في يوليو ٢٠٢٠، على اتفاقية لتأسيس مكاتب تمثيلية مع تايون التي تعتبرها الصين جزءاً من أراضيها. وقد أثارت تلك الخطوة استياء الحكومة الصينية لأنها تمثل نجاحاً نسبياً لجهود تايوان في تجاوز المحاولات الصينية لفرض عزلة عليها.
قيود مختلفة
رغم ذلك، فإن هناك قيوداً عدة ربما تُقوِّض من إمكانية أن تكون أرض الصومال بديلاً للوجود العسكري الأمريكي في جيبوتي، يأتي في مقدمتها حرص واشنطن على تأسيس علاقات قوية مع الحكومة في مقديشيو، فضلاً عن التزام إدارة الرئيس جو بايدن بالموقف الأمريكي التقليدي الراسخ منذ فترة طويلة بضرورة الحفاظ على تماسك الصومال التي تعاني من الانقسامات العشائرية والإقليمية، إلى جانب إصرار هرجيسا على الاعتراف الأمريكي باستقلال أرض الصومال قبل أن توافق على أي نوع من الترتيبات العسكرية. ولذلك تطرح اتجاهات عديدة في الولايات المتحدة الأمريكية إمكانية استخدام ميناء ومطار أرض الصومال لعمليات الطوارئ بدلاً من أن تكون بديلاً عن معسكر “ليمونيه” أو الاقتران به، في وقت لا تفرض فيه جيبوتي قيوداً على نوع أو هدف الأعمال العسكرية التي يمكن تنفيذها من القاعدة الأمريكية بها.