حدود الحركة:
هل تُقيِّد “المذكرة الرئاسية” خيارات واشنطن في مواجهة الإرهاب بالمنطقة؟

حدود الحركة:

هل تُقيِّد “المذكرة الرئاسية” خيارات واشنطن في مواجهة الإرهاب بالمنطقة؟



وقّع الرئيس الأمريكي جو بايدن على سياسة سرية يُطلق عليها “المذكرة السياسية الرئاسية”، والتي أرسلها إلى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA). وقد كانت صحيفة “نيويورك تايمز” أول من أعلن ذلك في تقرير لها نشر في ٧ أكتوبر الجاري. وعلى الرغم من عدم اطّلاعها على نص السياسة الجديدة، إلا أنها عرضت أبرز ما جاء فيها استناداً إلى تصريحات مسئولين بالإدارة لم تُسمّ بعضهم. وتحد السياسة الجديدة من الهجمات التي تنفذها القوات الأمريكية باستخدام الطائرات بدون طيار والغارات التي تنفذها القوات الأمريكية الخاصة لمكافحة الإرهاب خارج مناطق الحرب التقليدية، وتمنح أولوية أكبر لحماية أرواح المدنيين وقت تنفيذ الهجمات العسكرية.

تأتي السياسة الجديدة في أعقاب خطة لوزارة الدفاع الأمريكية أُعلن عنها في 26 أغسطس الماضي بهدف المساعدة في تقليل عدد المدنيين القتلى والجرحى في العمليات العسكرية الأمريكية، ولا سيما الهجمات بالطائرات بدون طيار. وتتطلب السياسة الجديدة موافقة الرئيس الأمريكي على إضافة الإرهابيين المشتبه بهم إلى “قائمة القتل”، وكذلك شن هجمات ضدهم باستخدام الطائرات بدون طيار والغارات التي تنفذها القوات الأمريكية الخاصة.

تداعيات محتملة

تضمنت السياسة الجديدة التي وقعها الرئيس جو بايدن بشأن قواعد استخدام القوات الأمريكية الطائرات بدون طيار، والغارات التي تنفذها وكالة الاستخبارات الأمريكية ضد العناصر الإرهابية، مجموعة من القواعد التي سيكون لها تأثيرات متعددة على استراتيجية الإدارة الأمريكية لمكافحة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، والتي يتمثل أبرزها فيما يلي:

١- تراجع معدّل الهجمات الأمريكية باستخدام الدرونز: تكشف السياسة السرية الجديدة أنه وسط أولويات دولية أكثر أهمية تتقدم أجندة الإدارة الأمريكية مع استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، وتهديد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستخدام الأسلحة النووية، والتنافس الأمريكي المحتدم مع الصين، والتركيز الأمريكي على تقويض الصعود الصيني، ومنح الأولوية لقضايا مثل الأمن السيبراني وتغير المناخ وجائحة كوفيد-١٩، بالإضافة إلى تحقيق الولايات المتحدة نجاحات متعددة في تقويض نفوذ تنظيمي “القاعدة” و”داعش” واغتيال معظم قاداتهما؛ فإن إدارة بايدن تعتزم شن عدد أقل من الهجمات بالطائرات بدون طيار وغارات الكوماندوز خارج مناطق الحرب التقليدية على عكس ما كانت عليه في الماضي، وهو ما يعني أن القواعد الجديدة التي أصدرتها الإدارة الأمريكية مؤخراً ستحد من أي عمليات أمريكية بالطائرات بدون طيار في العديد من البلدان الأخرى، بما في ذلك أفغانستان، والصومال، واليمن، والمنطقة الجبلية في باكستان.

وبالفعل، هناك تراجع خلال السنوات الأخيرة في معدل الهجمات الأمريكية باستخدام الطائرات بدون طيار ضد التنظيمات الإرهابية في تلك الدول، فقد كانت آخر غارة أمريكية بطائرة بدون طيار في باكستان في عام ٢٠١٨. وفي 31 يوليو الماضي، استهدفت غارة أمريكية بطائرة بدون طيار زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري، في أفغانستان. وفي الصومال، تراجع معدل الضربات الأمريكية باستخدام الطائرات بدون طيار بشكل كبير منذ تولي الرئيس بايدن منصبه في ٢٠ يناير ٢٠٢١.

٢- تعزيز دور الرئيس في تقييم الهجمات قبل تنفيذها: تُضفي السياسة الجديدة التي وقّعها الرئيس بايدن طابعاً مؤسسياً على القيود المؤقتة التي وضعتها إدارته خلال أولى أيامها في البيت الأبيض؛ للحد من المخاطر التي يتعرض لها المدنيون عند تنفيذ القوات الأمريكية هجمات ضد قيادات بالتنظيمات الإرهابية في تحول عن توجه الإدارة الأمريكية السابقة للرئيس دونالد ترامب التي أعطت القادة في الميدان حرية أكبر لتحديد من يستهدفون، حيث كانت تسمح للجيش ووكالة الاستخبارات المركزية بتنفيذ ضربات ضد الإرهابيين دون الرجوع إلى البيت الأبيض متى كانت الظروف على الأرض تفي بشروط معينة، وأن الهجوم له ما يبرره. بينما تتطلب السياسة الجديدة موافقة الرئيس الأمريكي على إضافة الإرهابيين المشتبه بهم إلى “قائمة القتل”، في عودة إلى سيطرة أكثر مركزية على القرارات المتعلقة بعمليات “القتل المستهدف” التي كانت سمة مميزة للولاية الثانية للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.

٣- فرض قواعد صارمة لعمليات مكافحة الإرهاب: تُشير مستشارة الرئيس بايدن للأمن الداخلي ليز شيروود راندال إلى أن التوجهات الجديدة التي أصدرتها الإدارة الأمريكية تتطلب أن تفي عمليات مكافحة الإرهاب التي تنفذها القوات الأمريكية بأعلى معايير الدقة والصرامة. وتقضي القواعد بالتأكد من أن المستهدف عضو في تنظيم إرهابي، وأنه يمثل تهديداً مستمراً ووشيكاً للأمريكيين، وأن الضربة لن تُخلِّف إصابات في صفوف المدنيين. كما أنها تتطلب من الجيش ووكالة الاستخبارات المركزية تقييم جدوى عملية اعتقال المستهدف بدلاً من اغتياله من خلال الهجمات باستخدام الطائرات بدون طيار، وكذلك الحصول على موافقة رئيس بعثة وزارة الخارجية في الدولة قبل إجراء عملية استهداف عنصر إرهابي بها.

٤- استثناء العراق وسوريا من القيود الجديدة: تنطبق قواعد إدارة بايدن الجديدة على الضربات في المناطق التي تفشل الدول في السيطرة عليها، وتنشط فيها التنظيمات الإرهابية، ولا تعتبرها الولايات المتحدة “مناطق أعمال عدائية نشطة”. لكن تلك القواعد لا تنطبق على العراق وسوريا، حيث تقاتل قوات الولايات المتحدة وشركاؤها فلول تنظيم “داعش” بعد هزيمته، ولكونهما تُعتبران حالياً مناطق حرب تقليدية؛ ولذلك سيحتفظ القادة العسكريون الأمريكيون في الميدان بهما بحرية أكبر لإصدار أوامر بشن غارات جوية أو غارات لمكافحة الإرهاب دون الحصول على موافقة البيت الأبيض.

٥- توسيع هامش البدائل في حالات الدفاع المشترك: لا تتطلب القواعد الجديدة موافقة البيت الأبيض على الضربات التي تنفذها القوات الأمريكية دفاعاً عن النفس، مثل ما يسمى بالدفاع الجماعي عن النفس للقوات الشريكة. وعلى أساس تلك القاعدة تم تبرير العديد من الضربات العسكرية الأمريكية في الصومال، حيث تتم الإشارة إلى أن مساعدة القوات الأمريكية في بناء قوات حكومية صومالية تقاتل حركة “شباب المجاهدين” الإرهابية، وتصد هجماتها، ومنها هجوم ١٨ سبتمبر الفائت، حيث قتل ٢٧ مقاتلاً من الحركة هاجموا القوات الصومالية، تدخل في إطار الدفاع الجماعي عن النفس للقوات الشريكة.

انتقادات عديدة

واجهت هذه السياسة انتقادات من جانب العديد من الخبراء في مجال مكافحة الإرهاب لجملة من الأسباب: يتمثل أولها، في كونها سرية وعدم إطلاع الجمهور عليها، مما يقوض الديمقراطية الأمريكية، التي تواجه العديد من الأزمات منذ سنوات حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث إنها تجعل الأمريكيين على غير دراية بالقواعد التي تحكم استخدام الولايات المتحدة القوة المميتة في الخارج.

وينصرف ثانيها، إلى أنّ تصنيف العراق على أنها “منطقة حرب” لأغراض مكافحة الإرهاب يراه بعض المحللين الأمريكيين غير ملائم إلى حد ما، بعد انتقال مهام القوات الأمريكية هناك إلى مهام غير قتالية وتقديم الاستشارات وتدريب القوات العراقية بنهاية العام الماضي. ويرتبط ثالثها، بأن استثناء الضربات الأمريكية للدفاع عن القوات المسلحة الأمريكية أو بالدفاع الجماعي عن النفس للقوات الشريكة يساهم في توسيع نطاق التفويض العسكري لعام ٢٠٠١، وهو الأساس القانوني الرئيسي للحرب الأمريكية على الإرهاب، بينما يسعى العديد من المشرعين الأمريكيين إلى وضع مزيد من القيود عليه، لاستعادة الكونجرس دوره في سلطات الحرب والموافقة على العمليات العسكرية الخارجية. ويتصل رابعها، بأن القيود التي فرضتها إدارة الرئيس بايدن ذات صبغة سياسية وليست قانونية، مما يعني أن أي إدارة أمريكية جديدة قادمة قد تتراجع عنها، وهو ما حدث بالفعل عندما تخلى الرئيس السابق دونالد ترامب عن التوجيهات الرئاسية التي حكمت تحركات إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما لمكافحة الإرهاب في الخارج.

تغيير حتمي

خلاصة القول، إن تحوّل أولويات السياسة الخارجية لإدارة الرئيس بايدن بعيداً عن مركزية الحرب على الإرهاب في مقابل تقدم سياسات منافسة القوى العظمى مع روسيا والصين، وزيادة التدقيق السياسي في الخسائر المدنية للهجمات العسكرية الأمريكية لاستهداف قيادات التنظيمات الإرهابية؛ جعل تغيير الإدارة قواعد الهجمات بالطائرات بدون طيار وغارات القوات الخاصة حتمية إلى حد كبير، وإن كانت تلك القواعد في حاجة لتأطيرها في شكل وثائق قانونية تلتزم بها الإدارات الأمريكية القادمة، ومن ثم حلفاء وشركاء الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب حول العالم.